23 سبتمبر 2018

كم يدفع المواطنون في مصر بسبب قضايا التحكيم الدولي؟

مصر في المركز الخامس على مستوى العالم من حيث عدد القضايا التي أُقيمت ضدها أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID التابع للبنك الدولي، بعدد 32 قضية بعد الأرجنتين وفنزويلا و إسبانيا وجمهورية التشيك،1أحدثهم في 19 سبتمبر 2018.

ارتفع عدد القضايا سريعًا بعد 2011، فحُرِّكت 19 دعوى ضد الحكومة المصرية في 5 أعوام فقط منذ بداية 2011 وحتى نهاية 2016. أغلبها من أجل المطالبة بتعويضات ردًّا على إجراءات اتخذتها الحكومة المصرية أو أحكام أصدرها القضاء الإداري من أجل مواجهة الفساد والصفقات المشبوهة التي تمت في فترة مبارك.

لم تخسر مصر كل القضايا في فترة ما قبل الثورة، ولكنها اعتمدت في الفترة التي تلتها على التسوية مع المستثمرين، ولا تُعلَن نتائج تلك التسويات رسميًا. دفعت مصر - بحسب المعلومات المتاحة - 224,2 مليون دولار بالإضافة إلى 42 مليار جنيه تعويضات في مُجمل القضايا التي حُسِمت لصالح المستثمرين قبل 2011 (3 قضايا) وتسويات في الفترة اللاحقة مع عدد آخر من أجل التنازل عن القضايا وتجنب قرارات التحكيم الدولي. تعادل هذه المبالغ المعروفة فقط حوالي نصف إيرادات قناة السويس في 2016/2017 بسعر الدولار الحالي.

يذكر هناك تعتيمًا على الأرقام المتعلقة ببعض التسويات وأن هذا هو مجموع الأرقام المعروفة فقط. (للمزيد من التفاصيل حول القضايا المتعلقة بمصر تاريخيًا، الإطلاع على تقرير "استثمار في مواجهة العدالة"، المبادرة المصرية 2016)

ما هو التحكيم الدولي؟

التحكيم الدولي هو نظام للفصل في المنازعات بين الدول والمستثمرين بديل عن النظام القضائي الطبيعي لكل دولة، يوفر للشركات البعد عن الاختلافات المتعددة في القوانين المحلية لكل دولة. وبحجة حماية استثمارات الأفراد والشركات من القضاء المحلي «المنحاز» «والغير ناضج » «والفاسد» في بعض الأحيان.

شكّل هذا النظام وفقا لمنتقديه، شبكة مصالح معقدة تنحاز في الأغلب للمستثمرين، وصناعة ضخمة تسيطر عليها نخبة محدودة من المُحَكمين والمحامين وشركات الاستشارات القانونية، وتُدِر ملايين الدولارات عن طريق الغرامات وتكاليف التقاضي التي تلتزم الحكومات بتسديدها من الأموال العامة.

تنتهز شركات الاستشارات القانونية وشركات المضاربات كل الفرص المتاحة خلال الأزمات الاقتصادية والتحولات السياسية في البلدان المختلفة لتحفيز المستثمرين ضد الحكومات المأزومة والحكومات التي تنفذ إجراءات إصلاحية خضوعًا لمطالب شعبية، حيث لعبت هذه الشركات دورًا ملحوظًا في تقييد حكومات اليونان ومصر وجنوب أفريقيا والأرجنتين وألمانيا بعدما شجعت المستثمرين على استخدام التحكيم الدولي كأداة ضغط سياسية.

ولكن لماذا تلتزم مصر بالتحكيم الدولي؟ الإجابة فيما يعرف بـ اتفاقيات الاستثمار الثنائية:

ما هي اتفاقيات الاستثمار الثنائية؟4

اتفاقيات الاستثمار الثنائية BITs هي اتفاقيات تُعقَد بين دولتين من أجل توفير ضمانات وامتيازات للمستثمرين تهدف إلى حماية استثمارات الشركات التابعة إلى كل دولة في أراضي الأخرى. وتتضمن تلك الاتفاقيات ضمان حق اللجوء إلى «التحكيم الدولي» كشرط أساسي للتوقيع عليها ووسيلة وحيدة لحل المنازعات التي تنشأ بين المستثمر والدولة.5

تلك الاتفاقيات هي أكثر نماذج اتفاقيات الاستثمار المُتبعة بين الدول وذلك باسم تشجيع الاستثمار في الدول النامية. وقد ازداد الاعتماد عليها تحديدًًا في تسعينيات القرن الماضي. ووصل عدد اتفاقيات الاستثمار الثنائية المُوَقَعة حتى نهاية عام 2017 إلى 2946 اتفاقية.6

وقَعت الحكومات المصرية المختلفة 113 اتفاقية استثمار حتى نهاية عام 2014، منها 100 اتفاقية استثمار ثنائية. وصل عدد اتفاقيات الاستثمار الثنائية الموقعة في فترة التسعينات إلى 69 اتفاقية بالتزامن مع "برنامج الإصلاح الاقتصادي والتعديل الهيكلي ERSAP" الذي وقعته مصر مع صندوق النقد الدولي في سبتمبر 1991.7

الغرامة الأحدث والأكبر ضد مصر وما هي أسبابها؟

عاقبت شركة يونيون فينوسا مصر لأنها امتنعت عن توفير الغاز الطبيعي لها بعد الثورة، حين اضطرت لتوجيه الغاز من أجل سد الاحتياجات المحلية وأهمها قطاع الكهرباء.8

استندت شركة يونيون فينوسا في الدعوة التي حركتها ضد الحكومة المصرية في فبراير 2014 إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية الموقعة بين مصر وأسبانيا عام 1992، والتي تكفل كغيرها من الاتفاقيات ما يسمى "حق المعاملة العادلة والمنصفة".

"حق المعاملة العادلة والمنصفة" هي مجموعة من المواد التي تضمها اتفاقيات الاستثمار الثنائية. وتشتمل على تعريفات مطاطة  تضمن ما يسمى «الحقوق المشروعة للمستثمر في المعاملة الوطنية»، أو حقه في أن تعامله الدولة المضيفة كما تعامل المستثمر المحلي أو القطاع الحكومي. ما يمنع تمتع الأخيرين بدعم أو مميزات لا يحصل عليها الأجنبي بينما لا تمنع أن يحوز المستثمر الأجنبي ميزات خاصة. كما تضمن المعاملة المنصفة حق المستثمر في الحصول على معاملة مماثلة لكل المستثمرين الأجانب من كل الجنسيات، بل ويحق للمستثمر من أي جنسية أن يقاضي الدولة المضيفة طبقًا لما تمنحه لمستثمرين آخرين من جنسية أخرى من خلال اتفاقية الاستثمار الثنائية مع الدول المختلفة.

تكبدت مصر أكبر غرامة في تاريخها عندما أصدر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار حكمًا يوم 3 سبتمبر 2018 بإلزام الحكومة المصرية بدفع تعويض قدره 2 مليار دولار لشركة يونيون فينوسا Unión Fenosa تعويضًا عن عجز الحكومة المصرية في 2014 عن توفير إمدادات الغاز اللازمة للشركة أثناء أزمة الطاقة التي مرت بها مصر. ومن المتوقع أن تسدد الحكومة المصرية قيمة الغرامة بما يعادلها من الغاز الطبيعي.9

وتظل مصر مهددة بغرامة تصل إلى 2 مليار دولار في القضية التي لا تزال عالقة لشركة غاز شرق المتوسط وشركة كهرباء اسرائيل بسبب توقف إمدادات الغاز في 2012 بعد التفجيرات المتكررة لخط الأنابيب.10

ما البديل الأكثر إنصافا للدول النامية؟

وصلت الجهود الدولية من أجل إعادة النظر في نمط اتفاقيات الاستثمار الثنائية إلى نقطة تحول غير مسبوقة.

بدأ ظهور الجيل الجديد من الاتفاقيات التي تم توقيعها في 2017 تحتوي شروطًا جديدة تجعلها معاكسة تمامًا للجيل القديم وتتماشى مع حزمة الإصلاحات التي اقترحها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، وأهمها:11

1- صون الحق في تنظيم الأوضاع: من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتوازن بين حماية الاستثمار والصالح العام وأن لا تتعدى الاتفاقيات على سيادة الدولة أو حقها في رسم السياسة العامة وتشريع القوانين. وتتضمن هذه الإصلاحات إعادة النظر في مواد الحماية التي تضمنها اتفاقيات الاستثمار الثنائية مثل: «المعاملة العادلة والمنصفة»

2- التزامات سابقة لدخول الاستثمار: من الناحية البيئية والتنموية وذلك لتعزيز قدرة الدولة على تحقيق التنمية وصون حقها في تنظيم أوضاعها وتجنُّب التحكيم لوجود التزامات مسبقة تم التوافق عليها.

3- ضمان القيام بالاستثمار المسؤول: وألا يؤثر الاستثمار بالسلب في الصحة والبيئة وحقوق العمال أو حقوق الإنسان بشكل عام أو أي مصالح عامة أخرى، ولا يتعارض مع أي مما سبق. يذكر أن النموذج اتفاقات الاستثمار الثنائية الحالي لا يضمن أيًا من تلك المسؤوليات ولا يحتوي على مواد تضمن العدالة البيئية والعدالة الاقتصادية.

4- إصلاح نظام تسوية منازعات الاستثمار: ويشمل خيارين، الأول هو تصعيب شروط اللجوء للتحكيم الدولي بجانب إصلاح نظامه وتعزيز شفافيته وإضافة عناصر جديدة عليه كهيئة محلفين. وعلى الجانب الآخر، تعزيز دور القضاء المحلي من خلال إنشاء محاكم اقتصادية متخصصة. والخيار الثاني هو إنهاء النظام الحالي برمته واستبداله بمحكمة دولية دائمة لتسوية المنازعات.

هل تعلمت الدول النامية الدرس؟ وهل تعلمت مصر؟

بدأت الدول النامية تتراجع عن هذا النموذج. ويذكر تقرير الاستثمار العالمي 2018، الذي يصدر عن الأونكتاد، أن عدد اتفاقيات الاستثمار التي وُقعت في 2017 كان الأقل منذ 1983 حيث وُقعت 18 اتفاقية فقط منها 9 اتفاقيات ثنائية BITs. وعلاوة على ذلك، تخطى عدد الاتفاقيات التي ألغيت (22 اتفاقية) عدد ما تم توقيعه ﻷول مرة.

في فبراير 2015 قدمت الهند والبرازيل والنرويج نماذج جديدة لاتفاقات الاستثمار الثنائية في اجتماع فريق خبراء «الأونكتاد» المعني بتحويل نظام اتفاقيات الاستثمار الدولية، وفعلت الهند النموذج الجديد في فبراير 2016. وفي 2011 أعلنت الحكومة الأسترالية أن اتفاقيات الاستثمار والتجارة الخاصة لن تتضمن كفالة حق التحكيم الدولي بعد الآن. وألغت بوليفيا والإكوادور وفنزويلا عدد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية الخاصة بهم وانسحبوا من اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار الخاصة ب ICSID.

يأتي ذلك ضمن مراجعات دولية بدأت من قبل. منذ 2012، اتخذت أكثر من 150 دولة خطوات من أجل إعادة النظر في اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي وقعتها في الفترة ما قبل 2010، في سبيل خلق توجه جديد نحو اتفاقيات استثمار عادلة تحقق أهداف التنمية المستدامة، (تقرير الاستثمار العالمي 2018).
أما مصر، فهي ما زالت متأخرة في تبني التوجهات الجديدة بمراجعة الاتفاقيات الاستثمارية ونظام التحكيم الدولي، ما نتج عنه تحميل المواطنين أعباء مليارية جديدة تضاف إلى أعباء الديون وتستنزف مزيدًا من حقوقهم في الإنفاق العام. توصي المبادرة المصرية بضرورة تبني مبادئ خارطة الطريق التي أعلنتها الأونكتاد بخصوص اتفاقيات الاستثمار الثنائية والتحكيم الدولي وبدأت في تنفيذها أكثر من 150 دولة من أجل حماية أهداف التنمية المستدامة.

عدد اتفاقيات الاستثمار الموقعة سنويًّا على مستوى العالم.

اللون الأخضر: اتفاقيات الاستثمار الثنائية، اللون البرتقالي: أخرى

عدد قضايا التحكيم الدولي عالميًّا

اللون الأخضر: قضايا مرفوعة أمام مركز تسوية المنازعات التابع للبنك الدولي، اللون البرتقالي: أمام مراكز أخرى