النووي اختيار خاسر من بين بدائل أفضل
لم يعد العالم ينظر إلى الطاقة النووية مثلما كان في الماضي. فمنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تنخفض نسبة الكهرباء المولدة من الطاقة النووية بشكل مستمر على مستوى العالم، ويتراجع دورها في الدول التي تبنتها في البداية، أمام بدائل أفضل للطاقة، في حين تبدأ مصر في بناء مفاعلات نووية، على عكس هذا الاتجاه العالمي.
وبينما ما زال البعض يعتقد أن الطاقة النووية توفر الكهرباء بسعر رخيص وأنها آمنة على الصحة والبيئة، وتفتح الطريق نحو التقدم والتنمية، توجد كثير من الأدلة التي تناقض هذه الرؤية. بعد أن اتضحت عيوبها ومخاطرها عبر الزمن. فالطاقة النووية مصدر للكهرباء عالي التكلفة يؤثر سلبًا على الصحة والبيئة وقد يسبب مخاطر شديدة.
استهدفت "استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030" تحقيق الاكتفاء من الطاقة واستدامتها، كما استهدفت تنويع مزيج الطاقة وإدخال مصادر أخرى لتوليد الكهرباء، كان من ضمنها الطاقة النووية. وعلى الرغم من أن مبدأ تنويع مصادر الطاقة في حد ذاته هو مبدأ جيد، فإن اختيار أنواع الطاقة يجب أن يعتمد على جدواها الاقتصادية والاجتماعية واستدامتها البيئية ومدى ملاءمتها لظروف وموارد كل بلد.
يمكن للعالم الاستغناء تمامًا عن الطاقة النووية حيث توجد بدائل أفضل منه لتلبية احتياجات الطاقة والكهرباء، وتتصدر الطاقات المتجددة هذه البدائل في العالم عمومًا وفي مصر خصوصًا.
الطاقة النووية أغلى أنواع الكهرباء
يتكلف بناء أي محطة نووية مبلغًا باهظًا مقارنة بتكلفة بناء أنواع أخرى من محطات توليد الكهرباء. تصل تكلفة بناء محطة الضبعة إلى نحو 30 مليار دولار، ما يعادل 12 ضعف تكلفة بناء محطة غازية مركبة، و6 أضعاف محطة رياح، و3 أضعاف محطة خلايا شمسية في مصر بنفس القدرات.
لطالما روجت الصناعة النووية القول بأن تكلفة بناء المحطات النووية عالية في البداية لكنها في النهاية تنتج أرخص أنواع الكهرباء. لكن هذه المقولة، التي اعتمدت على قياسات وتقديرات قديمة متحيزة، أثبتت خطأها العديد من الدراسات الحديثة كما أثبتته خسائر الشركات النووية على أرض الواقع.
في عام 2017 أعلنت شركة ويستنجهاوس _أكبر شركة بناء للطاقة النووية فى التاريخ_ إفلاسها، وسجلت شركة أريفا التي تملكها الحكومة الفرنسية خسائر بقيمة 12.3 مليار دولار أمريكي، وفقدت شركات الطاقة النووية في كلٍّ من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وكوريا ما يتراوح بين 75- 89 % من قيمة أسهمها، كما سجلت نصف المحطات النووية في الولايات المتحدة خسائر بلغت قيمتها 2.9 مليار دولار وفقًا لتحليل بلومبرج.
أما مقارنات السعر المعدل لتوليد الكهرباء (LCOE) والذي يضع في الاعتبار تكلفة البناء والتشغيل وأسعار الوقود والعمر الافتراضي للمحطات، فتوضح أن السعر المعدل لكل ميجاوات/ساعة من الطاقة النووية يبلغ حوالي ضعف سعر كل من دورة الغاز المركبة والخلايا الشمسية وثلاثة أضعاف طاقة الرياح حسب تقرير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (eia)عام 2017.
لذلك أصبحت الطاقة النووية أغلى مصادر الكهرباء والعالم يتراجع عن الاستثمار في الطاقة النووية ويتوجه نحو الطاقة المتجددة.
الطاقة النووية والأضرار الصحية
الطاقة النووية ليست "طاقة نظيفة". يطلق كل جانب من جوانب دورة الوقود النووي مواد مشعة تنتشر في الهواء والماء والتربة. وبينما تسمح القوانين للمنشآت النووية بإطلاق مستويات "صغيرة" من الإشعاع بدعوى أنها مستويات آمنة على الصحة، فقد ثبت أن هذا ليس صحيحًا.
فقد تراكمت منذ ثمانينيات القرن الماضي تقارير ودراسات من مناطق العالم المختلفة، ترصد تزايد حالات السرطان، خصوصًا بين الأطفال الذين يعيشون بالقرب من المنشآت النووية، حدث هذا في جوار منشآت سيللافيلد في إنجلترا. ودونري في شمال اسكتلندا ، وفي دور هام في كندا، ولاهاي في فرنسا، وميتشجان في الولايات المتحدة وغيرها من الأماكن.
وقدمت دراسة ألمانية مشهورة (دراسة KiKK) عام 2008 الأدلة الدامغة على وجود علاقة قوية بين إصابة الأطفال باللوكيميا والقرب من محطات الطاقة النووية، حيث فحصت جميع أنواع السرطان في جميع مواقع المفاعلات النووية الستة عشر في ألمانيا ووجدت أن هناك زيادة في حالات اللوكيميا بحوالي 2.2 ضعفًا، مقارنة بأماكن أخرى.
وينص تقرير "اللجنة الوطنية في الولايات المتحدة للبحث في الآثار المترتبة على مستويات الإشعاع المنخفضة" الذي صدر بعد سنوات من العمل، على أنه لا توجد "جرعة آمنة" من الإشعاع المؤين مهما كانت منخفضة، وأن النساء والأطفال هم الأكثر عرضة للمخاطر الإشعاعية.
مستويات الاشعاع المنخفضة والمسموح بها قانونيًّا لا تعني بالضرورة أنها آمنة، فلا توجد مستويات آمنة من الإشعاع.
المحطات النووية والتأثير على البيئة
تحتاج المحطات النووية إلى كميات هائلة من المياه للتبريد تفوق أي محطات أخرى للكهرباء. مثلًا، تسحب محطة تنتج 1000 ميجاوات بين 75 ألف الى 1.8 مليون لتر مياه في الدقيقة حسب نظام التبريد في المفاعل.
التأثير البيئي لسحب كميات هائلة من المياه وتسخينها وتفريغها وإطلاق الرواسب والنفايات في المياه المجاورة يسبب أضرارًا كبيرة في النظام البيئي المائي ويؤثر سلبًا على التنوع البيولوجي ونوعية المياه في تلك المجاري المائية.
تقع الضبعة على البحر الأبيض المتوسط في واحدة من أكثر المناطق البحرية ندرة في العالم وفي مصر، من حيث نقاء المياه وتنوعها البيولوجي. وهناك مخاوف كبيرة من تأثير محطة الطاقة النووية السلبي على النظم الإيكولوجية وعلى نوعية المياه وعلى الأنشطة الاقتصادية القائمة في المنطقة.
المخلفات النووية مشكلة بلا حل
بينما تتراكم المزيد من المخلفات النووية، لا يوجد حل طويل الأجل في الأفق. يقدر إجمالي كمية النفايات عالية المستوى الناتج خلال عام 2020 من جميع أنحاء العالم بنحو 445 ألف طن. هذه النفايات تكون مشعة أكثر بملايين المرات من وقود اليورانيوم "الطازج" وتبقى مشعة لآلاف السنين.
لا يوجد في أي مكان في العالم مخزن طويل الأمد للمخلفات النووية عالية الإشعاع. ويتم الاحتفاظ بكميات المواد المشعة هذه ببساطة في أحواض سباحة مؤقتة وبراميل جافة في جميع أنحاء العالم.
تشكل المخلفات المتراكمة خطرًا بارزًا يتمثل في التسرب الإشعاعي وتلوث البيئة. هناك العديد من سجلات حوادث المخلفات النووية التي تم التخلص منها بشكل غير صحيح أو معيب، أو ببساطة تم التخلي عنها أو سرقتها من مخزن المخلفات المؤقتة.
بعد أكثر من سبعين عامًا من استخدام الطاقة النووية لا يوجد حل للمخلفات، وسنتركها إرثًا خطرًا للأجيال القادمة.
المنشآت النووية مصدر محتمل لخطر هائل
في أي وقت يمكن أن يؤدي مزيج غير متوقع من الفشل التكنولوجي أو الأخطاء البشرية أو الكوارث الطبيعية أو الاستهداف العسكري إلى خروج المفاعل النووي عن السيطرة.
تقدر الصناعة النووية أن احتمال وقوع حادث كبير مثل فوكوشيما ضئيل ولا يزيد على مرة كل 250 عامًا، لكن تحليلات أخرى من جهات معتبرة، منها: معهد MIT ماساشوستس للتكنولوجيا تقول إنه من المحتمل حدوث أربع حوادث خطرة على الأقل حتى عام 2055، كذلك المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيوخ ETH Zurich يقول إن هناك احتمالًا بنسبة 50 في المئة أن يحدث ما يشبه تشرنوبيل (أو أكبر) في السنوات الـ 27 المقبلة.
وعلى كلٍّ فإن خطورة الحوادث لا تقاس فقط بقلة مرات تكرارها ولكن كذلك بجسامة تأثيرها. فآثار الحوادث النووية هائلة سواء من ناحية الإصابات والوفيات الناجمة عن الحادث، أو الأمراض المزمنة والسرطان، وتمتد لتشمل العواقب الاجتماعية والاقتصادية الجسيمة.
ذكر تقرير الأمم المتحدة عام 2000 حول تشرنوبيل أن حوالي ثمانية ملايين شخص تعرضوا للإشعاع وأن نصف مليون طفل لا يزالون يعيشون في المناطق المنكوبة في أوكرانيا، وأن هناك 73 ألف شخص يعانون من إعاقات دائمة وأن 46 ألفًا من 200 ألف عامل ممن شاركوا في عمليات التصفية أصيبوا بالعجز نتيجة لذلك. وفي بعض المناطق ارتفع معدل الإصابة بسرطان الغدة الدرقية إلى 100 ضعف.
قدَّر الخبراء الأوكرانيون أن الأضرار الاقتصادية التي لحقت بأوكرانيا حوالي 200 مليار دولار وبالمقارنة، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا في عام 2001 حوالي 37 مليار دولار.
لا يوجد سجل رسمي للحوادث النووية، كما أن هناك كثيرًا من التعتيم والتناقض في سياق تقدير نتائجها، ولا ضمانات أكيدة لعدم وقوع حوادث نووية جديدة.
مصر ومقومات الصناعة النووية
لا تمتلك مصر حاليًّا مقومات الصناعة النووية، فلا يوجد لديها يورانيوم كما لا تملك تقنيات استخدامه، وسوف تعتمد على الشريك الأجنبى بترتيبات طويلة الأمد في توريده وتخصيبه وإعادة تجهيزه ما يخضع أمن الطاقة لاعتبارات سياسية. كما لا تتوافر لديها الخبرات المدربة في كافة المستويات والقطاعات القادرة على إدارة مشروع معقد مثل المحطات النووية خاصة وأن شروط بناء الكوادر مفقودة في الوضع الحالي حسب خبراء في الطاقة النووية الذين يرون أنه لا يمكن تحقيق نهضة حقيقية دون إصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي بمصر.
ما زالت البنية التنظيمية والقانونية الضرورية لأمان الطاقة النووية قاصرة حاليًّا، فهناك ضعف في قدرات هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، مقارنة حتى مع مثيلاتها في دول مجاورة، وقد أدت التعديلات القانونية الأخيرة إلى مزيد من إضعاف هيئة الرقابة النووية الضعيفة. جدير بالذكر أن مصر لم تصدق على اتفاقية الأمان النووي حتى الآن بالرغم من أنها قامت بالتوقيع عليها عام 1994.
هناك بدائل أفضل لتلبية احتياجات الكهرباء
يمكن الاستغناء عن الطاقة النووية، في الواقع هناك بدائل أفضل كثيرًا منها لتلبية الاحتياجات للكهرباء. وتتصدر الطاقات المتجددة هذه البدائل، إضافة إلى الغاز الطبيعي في المرحلة الانتقالية. في حين أن اليورانيوم والوقود الأحفوري ينتهي في غضون عدة عقود، فإن الموارد المتجددة لا حصر لها، كما أنها أرخص وأكثر أمانًا على البيئة والصحة. لقد حثت التحسينات التكنولوجية على خفض أسعار الطاقة المتجددة على مستوى العالم. بحلول نهاية عام 2017 أظهرت التقديرات أن طاقة الرياح تليها الطاقة الشمسية، أصبحت أرخص من كافة مصادر الطاقة لتوليد الكهرباء.
وتعد مصر من المناطق الأكثر ملاءمة في العالم لاستغلال الطاقة الشمسية من الخلايا الفوتوفولتية وأيضًا من المركزات الشمسية ، ولديها موارد جيدة في طاقة الرياح بالإضافة إلى ظهور موارد جديدة في الغاز الطبيعي.
أظهر تحليل خريطة الطاقة المتجددة في الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا) في عام 2018، أن مصر لديها القدرة على توفير 53٪ من مزيج الكهرباء من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، وأن هذا سيؤدي إلى انخفاض في إجمالي تكاليف الطاقة بقيمة 900 مليون دولار أمريكي سنويًّا.
بدائل الطاقة المتجددة تفوق على الطاقة النووية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ومصر تمتلك ثروة منها.
ملخص
بعد أكثر من سبعين عامًا على بداية توليد الكهرباء من الطاقة النووية، يأفل نجمها، وتتصاعد المعارضة ضدها. وبدأت دول مثل ألمانيا في إغلاق كافة المفاعلات لديها وتتعهد بلجيكا وسويسرا وحتى فرنسا بتخفيض تدريجي لمساهمة الطاقة النووية في الكهرباء بينما ترفض دول مثل أستراليا والنمسا وإيطاليا أن تبني أي مفاعلات نووية على أراضيها.
لقد اتضحت عيوب الطاقة النووية عبر الزمن: فهي خيار عالي التكلفة وضار وخطر، والبدائل من الطاقة المتجددة افضل منها. وبينما تفتقر مصر استراتيجيا إلى مقومات الصناعة النووية فإنها من المناطق الأكثر ملاءمة لاستغلال الطاقة الشمسية من الخلايا الفوتوفولتية وأيضًا من المركزات الشمسية في العالم، كما تتمتع بموارد وفيرة من طاقة الرياح ما يعزز أمن الطاقة فى البلاد.
لكن هذا يتطلب من الحكومة مراجعة استراتيجيتها لتعكس التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة التي تحدث على المستويين الوطني والإقليمي.
الطاقة المتجددة المستدامة هي الطريق لضمان توفر الطاقة والحفاظ على الصحة والبيئة.
المصادر
2- Power engineering. Egypt Inaugurates Power Plant Projects
3- Albawaba business. Egypt to Harness Wind Power With €2 Billion Investments
4- Bloomberg Businessweek. Why Nuclear Power, Once Cash Cow, Now Has Tin Cup
5- The world nuclear industry status report 2017
10-Union of concerned scientists. Nuclear Power and Water
12- Annual report on water quality data from the coastal waters of The Mediterranean Sea Year 2000.
14- Greenpeace international. lessons fom Fukuchima
15- Massachusetts Institute of Technology. MIT. The future of the nuclear fuel cycle.
16-MIT Technology Review. The Chances of Another Chernobyl Before 2050? 50%, Say Safety Specialists
17- The Guardian. UN accused of ignoring 500,000 Chernobyl deaths
18- B.B.C news. Chernobyl zone shows decline in biodiversity
19- The Other Report on Chernobyl (TORCH)
20- The Japan Center for Economic Research (JCER). looking at retaining nuclear plants
21- International Atomic energy agency. iaea convention on nuclear safety
22- رئيس نادي «الطاقة الذرية»: يجب إعادة النظر في جدوى المحطة النووية الاقتصادية (حوار)
23-Wikileaks. Public library of US diplomacy
24- ليست هذه سكة السلامة إلى الضبعة حول متطلبات وإجراءات الأمان للطاقة النووية
25- المبادرة المصرية تعترض على القوانين المتعلقة بالطاقة النووية
26-International renewable energy Agency. Renewable Energy Outlook: Egypt