عن تدخلات أجهزة الدولة بعد عام من الأحداث

6 مارس 2018
PDF icon Download PDF (1.7 ميغابايت)

بعد عام على أحداث التهجير ما زال الوضع الأمني غير مستقر في شمال سيناء، ولا يوفر الحد الأدنى من الحماية اللازمة للمسيحيين، لذلك لم تتمكن الأسر المهجرة من العودة إلى مدينة العريش مرة ثانية، وبعض الحالات التي قررت العودة تعرضت للاستهداف والقتل على أيدي ملثمين كما ورد سابقًا. في نفس السياق، حصلت المبادرة المصرية على شهادات للمهجرين أكدت غياب الثقة في قدرة أجهزة الدولة على حمايتهم في حال العودة، كما أن طريقة تعامل أجهزة الأمن مع حالتي القتل اللتين وقعتا بعد التهجير لم تختلف عن مثيلتهما قبل التهجير، واتسم أداء أجهزة الأمن بالبطء وقصور التدخلات الأمنية الهادفة إلى حماية الأشخاص، وهو ما يوفر فرصة للمعتدين للفرار من مسرح الجريمة فور وقوع عملية الاستهداف.

وفقًا للدستور المصري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، يتمتع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بالحق في الحصول على إنصاف فعال وجبر للضرر الواقع عليهم بسبب انتهاك حقوقهم في الحياة الآمنة والحماية من التهجير القسري والاعتداء على ممتلكاتهم. وتقع مسئولية الإنصاف على مؤسسات الدولة بشكل أساسي والتي تلتزم باتخاذ إجراءات فعالة لضمان تحقيق جبر الضرر، وذلك على أساس الحقوق الدستورية والقانونية.

لا يمكن الحديث عن جبر الضرر بدون إجراءات واضحة تتضمن محاسبة المسئولين عنه، حتى لا يعطي القائمين به فرصة لتكراره مرة أخرى، فلا مناص من تبني إجراءات للبحث عن الحقيقة والتحقيق لمعرفة هوية القائمين بالاعتداءات وتقديمهم إلى المحاسبة.1

وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مجموعة مبادئ متعلقة بجبر الضرر والحصول على التعويض المناسب، بموجب توصية 60/147 بتاريخ 16 ديسمبر 2005، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع أساسية:

  • الحق في معرفة الحقيقة.
  •  الحق في العدالة.
  • الحق في جبر الضرر.

إن الحق في الإنصاف يعطي الضحايا الحق في معرفة الحقيقة وهو ما يُلزم الدولة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، أما الحق في العدالة فينطوي على معالجة سريعة وفعالة ضد انتهاكات حقوق الإنسان، والتزام الدول بمكافحة الإفلات من العقاب وتقديم الجناة إلى العدالة، ويضم الحق في جبر الضرر الحقَّين الأولين، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يضمن الحق في التعويض، والإرجاع، وإعادة التأهيل والإرضاء، وضمانات عدم التكرار.

وبتطبيق هذه المبادئ على حالة تهجير الأقباط من مدينة العريش نجد أن مؤسسات الدولة لم تلتزم بها، بقدر ما تعاملت بمنطق "الإعانة" التي تقدم إلى المحتاجين، وليس بمنطق حقوق المواطنين والتزامات الدولة.

أولًا: الحق في معرفة الحقيقة

حاولت مؤسسات الدولة إخفاء حقيقة الأزمة، والتقليل من وقائع القتل والتهجير، ومن تأثيرها في الضحايا، وتجنبت الحكومة توصيفها بشكل قانوني يعكس معاناة الناس، واضطرارهم إلى الهروب بمفردهم، عقب تهديد تنظيم الدولة الإسلامية المسيحيين في عموم مصر، ثم بحوادث القتل على الهوية الدينية في العريش، خصوصًا أن المسلحين غيروا من أسلوب استهدافهم الأقباطَ، فبدلًا من القتل في الشوارع، أصبحوا يستهدفون الضحايا في منازلهم، مع التمثيل بالجثث وحرق المنازل والاستيلاء على الهواتف الشخصية من أجل الحصول على معلومات لاستهداف آخرين.

وَفَورَ وقوع الأحداث، أعلنت كلٌّ من الحكومة المصرية والكنيسة الأرثوذكسية عن رفض وصف ما حدث بأنه تهجير قسري. نفت وزارة الداخلية أن تكون قد طلبت من المواطنين مغادرة العريش، وتجنبت الحكومة في بياناتها الصحفية وتصريحات المسئولين أن تستخدم تعبير "التهجير" واستخدمت بدلًا منه تعبير "مغادرة الأقباط". وصرح اللواء يس طاهر محافظ الإسماعيلية: "لسنا أمام تهجير أو نزوح منظم كما يتردد، إنما يدخل في إطار الضيافة وقرار بإرادة شخصية من بعض الأسر".2


بينما أعلن البابا تواضروس الثاني في عِظته يوم الأول من مارس 2017 أن "تعبير (تهجير) الذي شاع في الإعلام هو تعبير مرفوض تمامًا ونحن نسكن في الوطن ويتعرض أبناؤنا في القوات المسلحة والشرطة الوطنية ومؤسسات الدولة وأبناؤنا المصريون الأقباط كما المسلمين أيضًا يتعرضون لهذا العنف".


وقال البابا إن ما حدث يعتبر أزمة عابرة وأنه واثق بأنه "مع مجهودات الدولة الطيبة وتوجيهات السيد الرئيس ومشاركة كل الوزراء والجامعة في قبول أبنائنا في المدارس وفي الجامعة، وفي تخفيف آثار هذه الأزمة الطارئة وأثق أن هذه المجهودات عندما تكتمل سيعودون إلى أماكنهم التي يختارونها للسكن".3

اعتبرت المبادرة المصرية ما حدث بأنه تهجير قسري حظره الدستور المصري بشكل قاطع واعتبره جريمة لا تسقط بالتقادم لخطورتها في حد ذاتها ولفداحة الانتهاكات التي تتبعها، ونصت المادة رقم ٦٣ على:

"يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم".

ترتب على عدم توصيف مؤسسات الدولة الأزمة بشكل واقعي ودقيق عدم وضوح الإطار القانوني المنظِّم للتعامل مع الضحايا، والتدخلات التالية للمسئولين الأمنيين والتنفيذيين. وبالتالي تم التعامل مع تهجير الأقباط كأنه حدث عابر سينتهي خلال أيام قليلة وسيعود المهجرون إلى ديارهم، وهو ما عكسته تصريحات وزيرة التضامن الاجتماعي في مقابلتها الأهالي في بيت شباب الإسماعيلية. فقد تحدثت مع الأهالي بطريقة تشير إلى عدم إدراكها حجم المشكلة، فبعد استماعها للمخاوف التي سردها المهجرون صرحت الوزيرة بأنه في غضون أيام قليلة سيتم حل المشكلة: "والناس دي راجعة بيوتها في أيام، أقصر مما تتخيلوا".4

كما أدت طريقة التعامل هذه إلى اختلاف طريقة التعامل مع الضحايا حسب المحافظات التي انتقلوا إليها، فقد أصدر بعض المحافظين قرارات بتقديم إعانات مالية شهرية تستخدم كتكلفة إيجار شقة، والبعض الآخر قدم شققًا إلى الأهالي للإقامة المؤقتة، وهناك من تجاهل الضحايا أصلًا، وهو ما يؤكد عدم وجود خطة متكاملة للتعامل مع الضحايا خلال الشهور التالية.

خلال الأحداث وما تلاها، لم تُصدِر محافظة شمال سيناء التي كان المهجرون يعيشون فيها، وتتواجد فيها ممتلكاتهم أية بيانات أو معلومات عن الوضع الأمني في المحافظة، ودورها في التخفيف عن المواطنين وتصوراتهم المستقبلية لإمكانية عودتهم ومصير ممتلكاتهم وكيفية التعامل معها.


ثانيًا: الحق في العدالة

بالرغم من مرور عام على وقائع القتل العمدي على الهوية الدينية والتهجير، لم تعلن جهات التحقيق أية بيانات عن مصير هذه التحقيقات: هل تم تحديد الأطراف المحرِّضة والفاعلة في هذه الجرائم، سواء كانت جماعات أو أفرادًا، هل تمكنت جهات التحقيق من معاينة مسرح عمليات الاستهداف، هل هناك أطراف تم القبض عليها بشأن هذه الاعتداءات. وهو ما يثير تساؤلات حول تمكين مؤسسات العدالة من القيام بواجباتها في التحري والتحقيق واستدعاء المشتبه فيهم والمتهمين وصولًا إلى الإحالة إلى المحكمة المختصة.

على سبيل المثال، حصلت المبادرة المصرية على صورة من خطابات رسمية للتحقيق في بلاغ مواطن قبطي يدعى منير ملك إبراهيم من بين المهجرين، تم إشعال النار في منزله الكائن في تقسيم الشوربجي في حى المساعيد في 3 مارس 2017، وذلك بعد تهجيره. حرر المواطن المذكور محضرًا بالواقعة في اليوم التالي في مركز شرطة الإسماعيلية مكان تواجده يفيد بتلقيه اتصالات تليفونية من جيرانه بقيام مجهولين بحرق منزله. وقد طالبت النيابة العامة في المحضر 340 لسنة 2017 بتاريخ 13 مارس 2017 من قسم شرطة العريش بانتداب خبراء الأدلة الجنائية لإجراء المعاينة اللازمة لحادث الحريق. وكان رد قسم الأدلة الجنائية في شمال سيناء كالتالي:


"نظرًا للظروف الأمنية الراهنة، وصعوبة الانتقال إلى مكان الحادث دون تأمين، فقد تم إرسال إشارتين لقسم شرطة ثالث العريش احدهما بتاريخ 12 مارس 2017 والأخرى بتاريخ 13 مارس 2017 لتوفير وسيلة انتقال آمنة، وقوة تأمينية ترافق الخبراء حتى نتمكن من الانتقال لمكان الحادث لإجراء المعاينة اللازمة تنفيذًا لقرار النيابة العامة، إلا أنه وحتى تاريخ تحرير المذكرة لم نوافى بأية ردود في هذا الشأن، مما تعذر معه الانتقال لمكان الحادث وتنفيذ قرار النيابة".

وهذا يعني أن النيابة العامة والأدلة الجنائية لم تقوما بمعاينة مكان الواقعة، وتحديد حجم الخسائر، وجمع الشهادات عن القائمين بالاعتداءات، هذا بالرغم من حدوث الواقعة وقت الاهتمام الإعلامي بالمهجرين، وتأكيد مسئولي الدولة على حماية ممتلكاتهم. وهذه الطريقة في التعامل لا توفر بيئة مساعدة للوصول إلى المتورطين في الاعتداءات ومن ثم القبض عليهم.

ثالثًا: جبر الضرر عن طريق تعويض الضحايا

جاءت تدخلات المسئولين التنفيذيين والقيادات الإدارية أثناء التهجير متأثرة بالضجة الإعلامية التي أثارها مشهد الأسر المهجرة، وقد نجحت الحكومة بالفعل في دعم قطاع من الأسر المهجرة بتوفير سكن، وسبل إعاشة لقطاع كبير منهم، لكنها فشلت في وضع خطة متكاملة للتعامل مع الأزمة، وتم التعامل مع حقوق الأهالي بمنطق تقديم إعانات عاجلة إليهم وليس بمنطق منحهم تعويضات مناسبة لحجم ممتلكاتهم وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم الجديدة، وتوفير فرص عمل تكفل لهم سبل الحياة الكريمة.

وإذا كانت خطوة توفير مسكن خطوةً جيدة، لكنها تبقى غير كافية حيث يجب أن تكون هذه الخطوة متبوعة بعدد من الضمانات، كأن يكون المسكن ملائمًا للعيش بكرامة وأمان، وبما يضمن الخصوصية، وبناء علاقات عائلية واجتماعية مستقرة، وبهذا المفهوم يتجاوز الحق في السكن إيجاد بناء أو مكان مادي فقط، إلى ضمان التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بهذا المسكن.

وقد أكدت الشهادات المتواترة التي حصلت عليها المبادرة المصرية أن مساعدة أجهزة الدولة لهم قد استمرت لفترة قصيرة وخاصة فقط بتوفير مسكن مؤقت، وهو ما اضطرهم إلى طلب معونات شهرية من الكنائس التي يتبعونها استمرت لفترة قبل أن تنقطع عنهم. ولم تتجاوب مؤسسات الدولة مع المطالبات بمساعدتهم في توفير فرص عمل وتذليل الصعوبات التي يواجهونها خصوصًا مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعانيها جميع المصريين في العموم، بل إن المواطنين المهجرين اشتكوا من تعنت بعض الجهات الإدارية عندما حاولوا العمل، وسبق الإشارة إلى واقعة رفض مسئولو بعض المحافظات التي انتقل إليها المهجرون كالإسماعيلية من نقل تراخيص سيارات الأجرة من العريش إلى المناطق الجديدة.

المصادر:

1الحق في الإنصاف وجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، عبد العزيز خنفوسي، 2013.

https://platform.almanhal.com/Details/Article/46780?ID=2-46780

2تصريحات اللواء يس طاهر محافظ الإسماعيلية في مؤتمر بحضور رئيس وأعضاء لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب الذي عقد في مركز شباب القرش أحد مقار ضيافة الأسر المهجرة، يوم 2 مارس 2017.

3اجتماع وعِظة الأربعاء 1 مارس 2017 للبابا تواضروس الثاني.

https://www.youtube.com/watch?v=Z9Fq6nIZk9k

4فيديو لقاء وزير التضامن الاجتماعي مع عدد من الأسر المهجرة.

https://www.youtube.com/watch?v=MeWULH3SiKI