الطريق إلى "حق طالبة العريش": تحقيق جنائي وإداري شامل وحماية الأسرة والشهود لضمان حق كل نيرة
بيان صحفي
تابعنا ومعنا كثير من المصريات والمصريين في الأيام الماضية وقائع قضية وفاة الطالبة نيرة الزغبي، يوم 24 فبراير الماضي، بعد تعرضها للابتزاز والتهديد من زملاء لها بجامعة العريش. ورغم أن وفاة نيرة مرت أوليًّا بحفظ التحقيق والدفن في صمت، باستثناء خبر مقتضب في بعض الجرائد عن انتحار طالبة جامعية، فإن الأيام اللاحقة شهدت ظهور شهادات ودلائل عبر الإنترنت من زملاء لها تكشف أبعاد الابتزاز التي تعرضت له قبل وفاتها.
فما هي الخطوات التي يمكن اتخاذها الآن لضمان حق نيرة الزغبي، وضمان عدم تكرار تلك الفاجعة مرة بعد أخرى؟
بدأت النيابة العامة بالتحرك الجدي منذ إعادة فتح التحقيق في وفاة نيرة الزغبي بإصدار بيان يوم الأحد 3 مارس يشير لتوجيه الاتهام المبدئي لشاب وشابة من زملاء نيرة بالاعتداء على حرمة حياتها الخاصة وتهديدها، وهما الفعلان المُجرَّمان طبقًا للمادة 25 من قانون جرائم تقنية المعلومات، والمادة 327 من قانون العقوبات تباعًا. ونأمل أن تستمر النيابة العامة في التحقيق مع كل الأطراف التي يثبت تسببها في ابتزاز الطالبة، مع ضمان سرية الأقوال وحماية الشهود وأسرة المجني عليها من أي تهديدات أو استهداف بسبب من مشاركتهم الجدية في التحقيق، سواء وقع هذا الاستهداف بالتعرض المباشر، أم باستمرار الاعتداء على الحياة الخاصة للمجني عليها.
جاء بيان النيابة العامة بعد عشرة أيام من وفاة نيرة، وفي سياق ”إعادة فتح التحقيق“ في الواقعة بعدما أثارت القضية اهتمام الرأي العام على الإنترنت. النيابة العامة كسلطة تحقيق لديها سلطة وواجب فتح التحقيق أو حفظه، اعتمادًا على بلاغ من أسرة المجني عليها أو بدونه في حالة الشك في ظروف الوفاة. مما يوجب على النيابة العامة أن تتقصَّى كيف تم غلق التحقيق في المقام الأول، بتتبع المسؤولين عن القرار سواء من وزارة الداخلية المسؤولة عن تلقي البلاغ الأولي من المستشفى، أو من النيابة العامة بالعريش، والتأكد من حقيقة وقوع أي تقصير أو ترهيب أديا لعدم بيان ظروف الواقعة في حينها؛ وذلك لضمان ألا يكون مآل كل قضية مشابهة في المستقبل مرهونًا بظهورها للرأي العام وإثارتها للاهتمام والتضامن. فقد كان من الممكن أن تمر وفاة نيرة بدون تحقيق أو عواقب لولا خروج القضية للنقاش العام، وشجاعة بعض زملائها بنشر الوقائع الأساسية وعدم الصمت رغم الترهيب.
وفي هذا السياق الملتبس فقد كان المتوقع أن تسود حالة من التوجس لدى المواطنين بخصوص حقائق القضية، وخاصة في ضوء تباين القوى بين أسرة المجني عليها وأسرتي المتهميّن. ويمثّل خبر إيقاف وزارة الداخلية والد إحدى المتهمات عن عمله الشرطي - في حال صحته- ممارسة يجب تعميمها كحد أدنى في القضايا الشبيهة، لبناء درجة من الثقة في التحقيقات. ولكن بيان النيابة العامة التالي حول القضية جاء كخطوة للوراء بإعلان ضبط وإحضار أحد مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي والتحقيق معه، بعدما كانت النيابة العامة قد أصدرت قبلها بأيام بيانًا يهدد مستخدمي الإنترنت بملاحقتهم باتهامات نشر الأخبار الكاذبة وتكدير السلم العام، لتداولهم المحتوى حول طبيعة وفاة المجني عليها.
إن الاختيار العشوائي لأحد مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي لنشره أخبارًا ترددت من عدة مصادر في فترة سبقت إعادة فتح التحقيق، وفي سياق ضبابي قلت فيه المعلومات الموثوقة، يعد تدخلًا سلبيًّا من النيابة العامة، وتهديدًا باتهامات شبيهة لتلك الممارسات التي أدت سابقًا في قضايا عنف ضد النساء لتخوف الأفراد من المشاركة بالمعلومات والأدلة التي لديهم في التحقيقات، ما أدى لفشل التحقيق في أن يؤدي للمحاكمة في قضية فيرمونت في عام 2021. فثقة المجتمع في التحقيقات ونزاهتها تنبع من تكرار الممارسات الفُضلى في التحقيق، وليس بالتهديد باتهامات فضفاضة تكرر استخدامها لتجريم حرية التعبير في مصر مرارًا، وترهب الأفراد في المستقبل من أن يكونوا مبلغين وشهودًا في قضايا شبيهة.
وبشكل موازٍ، وبدون انتظار نتائج تحقيق النيابة العامة، فإن على وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات التحقيق بشكل جاد وسريع في المسؤولية الواقعة على جامعة العريش ومسؤولي السكن الجامعي فيها لكشف أي تراخٍ أو تواطؤ في حماية طالبة خضعت للابتزاز داخل أروقة جامعتها وسكنها بها؛ فضلًا عن ضمان، ليس فقط الجزاء الإداري المناسب لكل من تراخى أو تواطأ في تحقيق بيئة جامعية وسكنية آمنة لطالبات الجامعة في تلك الواقعة؛ ولكن الأهم أن تكون تلك الواقعة المفجعة وقفة جادة للمجلس الأعلى للجامعات لضمان عدم تكرارها، وأن تعلن الجامعة عن إجراءاتها المستقبلية لضمان أن تكون للطالبات والطلبة مسارات لطلب الحماية من العنف والابتزاز على مستوى كلياتهم وجامعاتهم، وما يتجاوز إدارة الجامعة المباشرة في حال تواطؤها أو تقاعسها.
وتناشد المبادرة المصرية المسؤولين في جهات الدولة المختلفة بالتوقف عن تكرار خطابات ترسخ للوم الضحية في قضايا الابتزاز عن غير علم أو تخصص. وقد طالعنا كأمثلة على ذلك في الأيام الأخيرة تصريح كرم جبر، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، على خلفية قضية نيرة الزغبي، والتي نصح فيها الفتيات بعدم نشر محتوى عبر الإنترنت ”متحطيش صورك أبدًا“، وكأن من الطبيعي أن تتعرض النساء والفتيات للابتزاز لاستخدامهم مواقع التواصل، واضعًا المسؤولية على المجني عليهن في قضايا الابتزاز. وفي سياق مشابه، أعلنت وزارة الشباب والرياضة في نفس الأسبوع عن تنظيمها لفاعلية ضمن برنامج "مكافحة الابتزاز الإلكتروني" تحت شعار "احمي نفسك"، والتي شهدت تصريحات مماثلة من اللواء أركان حرب اشرف فوزي، مساعد وزير الدفاع الأسبق، طبقًا لبيان الوزارة.
إن مثل هذه التصريحات لا ترسخ فقط لخطاب يطالب الفتيات والنساء بعدم المشاركة في المجال العام - بما في ذلك الإنترنت- كضامن لعدم تعرضهن للعنف والابتزاز، وإنما يعد مجافاة واضحة لحقيقة الآليات القائمة للابتزاز والعنف الذي تتعرض له الفتيات ولا يمكن الحماية منه ولا يمكن أن يصدر إلا من غير خبير. فاستخدام الإنترنت ليس فقط حق لتلك الفتيات والنساء، بل وتشجيع التمكين الرقمي والتكنولوجي للنساء هو أحد أهداف استراتيجية تمكين المرأة المصرية 2030.
الواقع يشير أيضًا لتعدد وسائل الابتزاز بمعلومات شخصية عن طريق السطو على الصور الشخصية أو تبادلها من الآخرين، وحتى بتعديل واختلاق الصور تقنيًا، ومصادر التهديد ليست فقط من أطراف في علاقات غير موثوقة، ولكن تتعدد تلك المصادر لتصل للأزواج والأزواج السابقين عند وقوع الخلافات. فتوقع أن تقييد الفتيات والنساء في استخدامهن للإنترنت هو الحل للعنف، يطبع مع اعتبار العنف مصيرًا طبيعيًا للفتيات متى تفاعلن في المجال العام.
إن تكرار تلك الخطابات ليس فقط عائقًا حقيقيًا أمام مواجهة العنف الذي تواجهه الفتيات في حالات الابتزاز الإلكتروني، ولكنه أيضًا يضفي شكلًا من الشرعية على خطابات المعتدين على حقوق الفتيات والنساء، والذين يشهرون بهن بناء على استخدامهن لوسائل التواصل الاجتماعي ضمن سياق أوسع، فتحت أبوابه النيابة العامة باستخدام اتهامات "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية" ضد الفتيات والنساء بشكل موسع منذ عام 2020 في إطار ما أطلق عليه النائب العام في حينها مصطلح "الأمن القومي الاجتماعي".
وأخيرًا، فإن قضية نيرة الزغبي تطرح علينا جميعًا مسؤولية واضحة كمجتمع، وتواجهنا بالتزامنا الجماعي بالتصدي للابتزاز بأشكاله التي تتعرض لها كثيرات من الفتيات والنساء، ودورنا كأفراد في دعم من يتعرضن للابتزاز والتهديد باختلاف مواقعنا. فكل واقعة تهديد وابتزاز تصل للنقاش العام توضح مدى العزلة التي تمر بها ضحايا الابتزاز في خوف من ردود فعل المجتمع المحيط بهن لو نفذ المبتز تهديده، وتوضح تجبر الأطراف التي تبتز الضحية بافتراض أن المجتمع، وهو مجموعنا كأفراد، دائمًا سيلوم ضحية الابتزاز ويستهلك محتوى لم ينشر إلا بهدف الابتزاز حقيقيًا كان أم مفتعلًا. وبهذه المعطيات، فقط يستطيع المبتز فرض تهديده على ضحيته. ولذلك، فبخلاف مسؤولية جهات الدولة من جهات تنفيذية مثل وزارة الداخلية أو وزارة التعليم العالي، أو جهات قضائية كالنيابة العامة، فإن علينا كافراد مسؤولية رفض المشاركة في ابتزاز الضحية، ولوم من يرتكب جريمة الابتزاز وليس من يتعرضن لها.