البوابة نيوز

حول مشروع قانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل

بيان صحفي

14 مايو 2017

بعد اطلاعها على النسخة الأخيرة من مشروع قانون التأمين الصحي الشامل والتي أرسلها مجلس الوزراء إلى مجلس الدولة تمهيدًا لتقديمها إلى البرلمان، تقدم هذه الورقة نبذة مختصرة عن سياق إصداره وأهم أسباب دعم المبادرة المصرية لهذا المشروع وتعليقاتها على بعض جوانبه السلبية وضمانات التنفيذ الأساسية التي يجب مراعاتها في المراحل التالية لإصداره.

التأمين الصحي الاجتماعي الشامل: من النص إلى التنفيذ

حال موافقة مجلس النواب على مشروع القانون وإصداره، يصبح التخوف الأكبر لدى المبادرة المصرية هو مدى قدرة الدولة على الالتزام به وتنفيذه، خصوصًا مع غياب الكثير من المقومات الأساسية والمحورية لتنفيذ هذا القانون وعلى رأسهم على سبيل المثال، الموارد البشرية المدربة لذلك وبالأخص أطباء الأسرة والتمريض.

وهنا يجب الإشارة إلى أن هذا المشروع يمثل إطارًا متكاملًا لإصلاح النظام الصحي بشكل شامل وليس فقط قانونيًّا للتغطية التأمينية للمواطنين، والذي يعمل على معالجة سلبيات النظام الحالي بتبني فكرًا حديثًا ومتطورًا. فهو قانون قد تم إعداده ليحل تدريجيًّا محل القوانين المعمول بها حاليًّا، إذ يستمر العمل بأحكام هذه القوانين بالنسبة إلى المخاطبين بأحكامها حتي حلول موعد تطبيق التأمين الصحي الاجتماعي الجديد في شأنهم، ويتم تطبيقه بشكل تدريجيٍّ جغرافيًّا حتى يتمكن مختلف المعنيين واللاعبين الأساسيين من سد تلك الفجوات وأوجه القصور في الموارد البشرية بشكل تدريجيٍّ، فهذا المشروع من شأنه أن يخلق حاجة لكوادر سوف تظهر تلبية للطلب الضخم الذي يستحدثه.

كما أن إدارة هذا النظام تعتمد بشكل أساسي على عدم الإبقاء على الطرق المعتادة في إدارة المنظومة الصحية. فالنظام الحالي يفتقد الخبرة والكفاءة والإنصاف في إدارة موارده المالية والبشرية ويومًا بعد يوم، تتسع به فجوة اﻹنصاف والكفاءة في ظل نظام يتسم بالتبعثر وفقدان الرؤية والتكامل ونظم اﻹحالة، ويدار بردود اﻷفعال عبر بيروقراطية عتيقة، شديدة السلطوية والمركزية ﻻ تؤمن بالمشاركة المجتمعية والمساءلة والشفافية، وذلك ما يجعل من أولويات المواجهة للإصلاح حلحلة هذه المركزية البيروقراطية وتطوير آليات حكم محلي يتسم بالنزاهة والشفافية والمشاركة واستخدام آليات المساءلة قاعديًّا "المحليات" وعلى مستوى وضع السياسات الإستراتيجية الكبرى في الصحة وغيرها. هذا إلى جانب إطلاق الحريات لتكوين وتشجيع كافة المبادرات الأهلية من منظمات وجمعيات وروابط لحماية حقوق المرضى والمستفيدين بخدمات التأمين الصحي.

وحتى لا يصبح هذا القانون مثله مثل غيره من القوانين التي لا تدخل حيز التنفيذ، أو يتم تفريغ محتواها الإيجابي، تشدد المبادرة المصرية على ضرورة اﻻنتهاء من لوائح القانون التنفيذية ومذكراته الشارحة بشكل يعبر عن روح وفلسفة هذا القانون وبما ﻻ يمس جوهر المحاور اﻷساسية فيه والتي صاغتها اللجنة المسئولة، مثل آليات التمويل ومستويات الخدمات المقدمة، وآليات حوكمة النظام من خلال هيئاته الثلاث الحاكمة الجديدة المشار إليها إلى جانب اﻷدوار الجديدة لوزارة الصحة والسكان كمنظم ومنفذ للسياسات اﻹستراتيجية التي يعتمدها المجلس اﻷعلى للصحة.

مبادئ أساسية للقانون حددتها المبادرة المصرية وتم تحقيقها

كان للمبادرة المصرية منذ بدأ عملها على هذا الملف رؤية محددة في المبادئ الحاكمة التي يجب أن يضمنها قانون التأمين الصحي حتى يحقق الالتزامات الدستورية والتي تنص على الحق في الصحة والتأمين الصحي الاجتماعي الشامل بشكل قاطع.

وقد أصدرت المبادرة المصرية العديد من هذه المبادئ في خضم عملية العمل على هذا القانون وكان آخرها في عام ٢٠١٥.

واستنادًا إلى هذه المبادئ وبعد الاطلاع على نسخة القانون المقدمة إلى مجلس الدولة ، نرى أن هذا القانون به ما يكفي من الضمانات التي تحقق:

شمول التغطية الصحية سكانيًّا وخدميًّا وجغرافيًّا، بما يعني تغطية كافة المواطنين، في كل المناطق الجغرافية وفي مستويات الخدمات المختلفة، وذلك تماشيًا مع الدستور الذي نص على أن يغطي نظام التأمين الصحي الشامل "كافة اﻷمراض" بلا استثناء بما فيها اﻷمراض الكارثية صحيًّا واﻷكثر كلفة وفقًا لتعريف منظمه الصحة العالمية.

إلزامية القانون لجميع الشرائح والفئات والقطاعات الرسمية العامة والخاصة والقطاعات غير الرسمية، بما يحقق مبادئ التضامن في المجتمع والدعم المتبادل، وصولًا إلى العدالة اﻻجتماعية في الصحة، بما يعني عدم السماح ﻷي شريحة أو فئة بالتخارج من النظام كضمان لاستدامة تمويله، والحفاظ على موارده ومشاركة الجميع فيه.

اﻷسرة كوحدة لتنفيذ القانون وأساس التوسع فيه، بما يضمن تغطية الفئات الأَوْلى بالرعاية (المرأة واﻷطفال وكبار السن) مهما كانت تكلفة خدماتهم، بما يعني ضم وتوحيد القوانين السابقة في قانون موحد شامل.

شمول القانون لآليات جديدة لحوكمة النظام الصحي لإعادة بنائه وهيكلته، بإنشاء هيئات مستقلة لها شخصية اعتبارية إلى جانب وزارة الصحة والسكان، وهي "هيئة التأمين الصحي اﻻجتماعي الشامل" ويتبعها صندوق قومي تأميني لتمويل وشراء الخدمات الصحية من كافة مقدمي الخدمة، "هيئة للاعتماد وتطوير جودة الخدمات الصحية"، و"هيئة الرعاية الصحية" التي تعمل كمظلة لمقدمي الخدمات في مختلف القطاعات الحكومية المتفرقة، وتقوم بتوحيد إجراءات ولوائح العمل بها وتمهد للتعاقد مع جهة تمويل وشراء الخدمات.

أن يضمن القانون في محور التمويل مبادئ المشاركة والتضامن المجتمعي، من خلال تحديد نسب اﻻشتراكات المقننة والمدروسة أكتواريًّا بين المشاركين من عاملين وأصحاب أعمال ومهنيين وغيرهم من الفئات في القطاعات غير الرسمية. إلى جانب مساهمات عند تلقي الخدمة رمزية (لضمان جدية الطلب على الخدمة وليس كمصدر أساسي لتمويلها) يعفى منها أصحاب اﻷمراض المزمنة وﻻ تفرض داخل المستشفيات، وإلى جانب الاشتراكات تتكفل الخزانة العامة للدولة بدعم الصندوق التأميني لتغطية تكلفة الخدمات للشرائح والفئات التي تحددها وزارة التضامن باعتبارهم غير القادرين واﻷولى بالرعاية وفقًا لدراسات اقتصادية واجتماعية واقعية.

إضافة آليات للتمويل المجتمعي في إطار رسوم وضرائب مخصصة لتمويل النظام، تفرض على التبغ ومشتقاته، وبعض الصناعات الملوِّثة للبيئة ورسوم الطرق والرخص وبعض الخدمات اﻷخرى وغيرها من الرسوم المدروسة فيما ﻻ يخل بمحاور الحقوق اﻻقتصادية واﻻجتماعية اﻷخرى، وبغض النظر عما يروج حول (مبدأ وحدة الموازنة) الذي يتم تجاوزه كثيرًا لصالح بعض الفئات المميزة في المجتمع، عندما يتراءى ذلك للجهات الحكومية المهيمنة.

فرؤية المبادرة المصرية تشمل فصلًا للتمويل عن جهات إدارة وتقديم الخدمات الصحية، بينما تتحول وزارة الصحة والسكان إلى منظم ومراقب ومنفذ للسياسات الصحية العامة واﻹستراتيجية التي يقرها مجلس أعلى للصحة لضمان حوكمة النظام بصورة رشيدة في محاور المساءلة والمشاركة والشفافية مع إتاحة المجال لمستخدمي الخدمات الصحية من خلال تنظيماتهم المدنية في مراقبة تقديم الخدمة.

كما حقق القانون بعض المبادئ الهامة الأخرى ومنها تنظيم إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفائهم منها طبقًا لمعدلات دخولهم وإتاحة حرية الاختيار بين أيٍّ من مقدمي الخدمة الصحية سواء من القطاع الحكومي أو غير الحكومي، المدرجين في منظومة التأمين الصحي الاجتماعي الشامل.

تعديلات إيجابية نتيجة لضغط المجتمع المدني والحوارات المجتمعية

بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال عمل اللجنة والضغط المجتمعي المدني المستمر، تم تدارك بعض أوجه القصور في القانون والتي كانت تمثل مواطن اعتراض لدى البعض. فعلى سبيل المثال:

تعريف غير القادرين: تم تعديل تعريف غير القادرين بالقانون حيث أصبح "استرشادًا بالحد الأدنى للأجور المعلن عنه بالحكومة على المستوى القومي ومعدلات التضخم، ويتم تعديلها دوريًّا على فترات لا تزيد علي ثلاثة أعوام.( المادة الأولى، فقرة ٣٢) وتتحمل الدولة مساهمتهم واشتراكاتهم في النظام التأميني.

المساهمات: تم النص بشكل مباشر على أن المساهمات تكون عند تلقى الخدمة خارج الإقامة بالمستشفيات ويُعفى من دفع قيمة المُساهمات كل من غير القادرين الذين تتحمل الخزانة العامة قيمة اشتراكاتهم، وكذلك غير القادرين من أصحاب المعاشات والمُستحقين للمعاشات وذوي الأمراض المُزمنة، ونزلاء المؤسسات التابعة للشئون الاجتماعية والأطفال بلا مأوى، وذلك طبقًا لقرار يصدر من الوزير المُختص بالصحة, وفى حالة دخول المستشفيات لا يتحمل المؤمن عليه أية مُساهمات بما فيها الفحوصات التي تُجرى تمهيدًا لدُخول المُستشفيات أو لإجراء عمليات جراحية. (مادة ٣٩، الفقرة ٣ ) ورغم هذا التعديل الإيجابي، فان لدى المبادرة المصرية عدد من التحفظات في هذا الشأن نسردها لاحقًا.

الملكية العامة للنظام: تم النص في القانون على أن تكون الهيئات التي ينشئها القانون هيئات عامة اقتصادية غير هادفة للربح مع عدم المساس بالملكية العامة للمنشآت الحالية، ويبقى أن تضع اللائحة التنفيذية للقانون ما يلزم من الضمانات التي تحول دون تأثير أي شراكات مع القطاع الخاص على جودة أو إتاحة أو القدرة على الحصول على الخدمات المختلفة.

مصادر التمويل الأخرى: تم إضافة مصادر تمويلية أخرى على نص القانون بناءً على نتائج الحوارات المجتمعية ومنها: نصف جنيه من قيمة كل علبة سجائر مباعة بالسوق المحلي سواء كانت محلية أو أجنبية الإنتاج، جنيه واحد يحصل عند مرور كل مركبة علي الطرق السريعة التي تخضع لنظام تحصيل الرسوم، ٢٥ جنيهًا عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة القيادة، ٥٠ جنيهًا عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة تسيير السيارات التي سعتها اللترية على ١.٦ لتر أو أقل، ١٠٠ جنيه عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة تسيير السيارات التي تزيد سعتها اللترية على ١.٦ لتر، ألف جنيه عند استخراج أو تجديد تراخيص مراكز العلاج والعيادات الطبية والمستشفيات والصيدليات، ٥٠٪ من حصيلة الغرامات والأموال المصادرة المحكوم بها في الجرائم المتعلقة بالصحة، كما ورد في قانون العقوبات. 25000 جنيه عند استخراج أو تجديد تراخيص شركات ومصانع الأدوية، ٥٠ جنيهًا من قيمة كل طن أسمنت مصنع محليًّا أو أجنبيًّا الإنتاج. ٥ جنيهات من قيمة كل متر مربع من (سيراميك – رخام – بورسلين – جرانيت) مصنع محليًّا أو أجنبيًّا الإنتاج. (المادة ٣٩، الفقرة ٩)

التعاقد بناءً على الجودة: تناول القانون تكوين هيئة الرعاية الصحية لتولي تنظيم تقديم خدمات الرعاية الصحية والعلاجية بكافة مستوياتها لجميع المؤمن عليهم داخل جمهورية مصر العربية، وتشمل جميع منافذ تقديم الخدمة التابعة (للهيئة العامة للتأمين الصحي الحالية، والجهات التابعة لوزارة الصحة، والمُستشفيات الجامعية، والمُستشفيات الحُكومية الأخرى). ونص القانون على أن يكون التعاقد مع مقدمي الخدمات الصحية بناءً على تحقيقها لمعايير الجودة، مما رآه البعض نافذة لعدم التعاقد مع منافذ تقديم الخدمات المملوكة للدولة ثم بيعها للقطاع الخاص. لذلك، تم النص في القانون وفي مذكرته الإيضاحية على التزام الدولة بتأهيل تلك المنشآت تدريجيًّا وفقًا لمعايير الجودة والاعتماد، وتظل تابعة للدولة، وأكدت الفقرة الثانية أن هيئة الرعاية هي أداة الدولة الرئيسية في ضبط وتنظيم تقديم الخدمات الصحية التأمينية، وتضمنت الفقرة الثالثة صدور قرار من رئيس مجلس الوزراء بضم المستشفيات التي ستقوم بتقديم الخدمة وفقًا لمعايير محددة للاعتماد، أما الفقرة الرابعة فأجازت شُمول أي مُستشفيات أخرى غير حكومية، وفقًا لنفس المعايير المُحددة للجودة والاعتماد، والمعايير التي تُحددها هيئة الرعاية الصحية، وذكر الشطر الخامس أن هيئة الرعاية تحت الإشراف العام للوزير المختص بالصحة، ويصدر بنظامها وتحديد اختصاصاتها ونظام العمل بها قرار من رئيس مجلس الوزراء، وانتهت المادة بالشطر السادس والذي أكد علي التزام الدولة برفع جودة وكفاءة المُنشآت الصحية التابعة لها تدريجيًّا، قبل البدء في تطبيق النظام في المُحافظة المُقرر البدء فيها حتى تحصل علي الاعتماد.

تحفظات على النص الحالي

1. فيما يخص المساهمات

اتفقت نظم العالم التأمينية على أن مساهمات المشتركين والتي تحصل عند تلقي الخدمة أو شراء المستحضرات الدوائية، لا ترقى لأن تكون مصدرًا للتمويل، ولكنها في الأصل وسيلة لمنع التمادي في طلب خدمات واستهلاك مستحضرات غير ضرورية. لذا، فنرى أنه يجب النظر إلى مساهمات المشتركين من هذا المنظور. ونقترح أن ينص القانون على سقف لتلك المساهمات وعدم الاكتفاء بوضع نسب مئوية لضمان عدم تحويلها إلى مانع للحصول على الخدمة بأي شكل. كما يجب تحديد نصيب المساهمات والاشتراكات في موازنة التأمين الصحي مسبقًا لتفادي أي تخوف مشروع من زيادة نصيب المساهمات في ظل ضعف الموارد الأخرى.

٢. فيما يخص ربط سداد اشتراك التأمين بمسوغات القيد الدراسي

مع تفهمنا لأهمية وضع آليات تمنع من تهرب المؤمن عليهم من سداد قيمة الاشتراكات وذلك إعمالًا لمبدأ إلزامية القانون، ومع تفهمنا أن أكبر جهة مسئولة عن دفع الاشتراكات في هذه الحالة هي الدولة كونها المتكفل باشتراكات غير القادرين، إلا أن صياغة هذه المادة قد يتم فهمها أو تطبيقها بشكل سلبي وقد لا يكون النص على "مع عدم الإخلال بالحقوق الدستورية والقانونية" غير كافٍ لضمان ذلك.

لماذا التأمين الصحي الاجتماعي الشامل

كانت فكرة إعداد قانون شامل وموحد قد نشأت أساسًا كحل جذري لعلاج مشاكل النظام الحالي المتمثلة في ضعف ملاءته المالية وعدم قدرته على اﻻستدامة وعدم قدرته على تغطية فئات من المجتمع محرومة من الحماية الصحية خاصة العمالة الموسمية وغير الرسمية. إلى جانب زيادة معدلات خروج المشتركين من النظام من ذوي الدخول المرتفعة والتكلفة المنخفضة مما أثر سلبًا على النظام إلى جانب تحصيل اشتراكات على جزء محدود من دخول المشاركين ما أضعف مصادر تمويله.

كل هذا مع عدم رضاء المشاركين عن مستوى جودة الخدمات المقدمة فيه مما أدى إلى توجه شرائح كبيرة من المواطنين إلى القطاع الخاص. هذا الوضع يهدد استقرار أغلبية الأسر المصرية وبخاصة من الشرائح الدنيا منها ماليًّا.

هذا الوضع الحالي الذي تعاني منه المنظومة الصحية، هو "الخصخصة" بعينها. تغول غير منضبط للقطاع الخاص، حماية صحية وتأمينية شبه منعدمة، جودة ضعيفة للخدمات بلغ إجمالي ما ينفقه المصريون من دخولهم الجارية على الرعاية الصحية ما لا يقل عن ٧٢٪ من إجمالي الإنفاق على الصحة.

هذا التصاعد المستمر للإنفاق الذاتي من جيوب المواطنين المباشر للحصول على الخدمات الصحية والدواء، مع التراجع المستمر للإنفاق العام على الصحة، أدى إلى خروج قطاع كبير من المواطنين خارج نطاق النظام الصحي العام وبخاصة الشرائح الأفقر والمهمشة والبعيدة عن أطر العمل الرسمي، إضافة إلى تزايد العوائق المالية والجغرافية المؤدية إلى عدم إتاحة الخدمات الصحية والدوائية، مع استمرار التردي في جودة الخدمات المتاحة والمعتمدة في القطاعات الصحية العامة في إطار هش للمناخ التشريعي الذي ينظم هذه القطاعات، الأمر الذي يزيد من عشوائية الممارسات الصحية.

فهذا النظام جديد الذي نتطلع إليه يتحقق من خلال قانون موحد، يضمن الوصول إلى التغطية الصحية الشاملة، سكانيًّا وجغرافيًّا وخدميًّا ليحقق هدف العدالة اﻻجتماعية في الرعاية الصحية.

التأمين الصحي خلفية تاريخية

قانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل هو طموح مشترك تنامى الشعور بحتميته على مدار أكثر من عشرين عامًا. فمنذ عام ١٩٩٥، وبعد أن أصدرت لجنة الصحة بمجلس الشورى تقريرها الذي يؤكد ضرورة إصلاح القطاع الصحي من خلال نظام شامل للتأمين الصحي الاجتماعي، تجري محاولات متكررة لإصلاح النظام الصحي المصري بعد أن أصبحت الخدمات التي تقدمها هيئة التأمين الصحي - بعد خمسين عامًا من تأسيسها - تعانى من العديد من نقاط الضعف أبرزها عدم رضاء المواطنين عن جودة تقديم الخدمات، إضافة إلى محدودية إتاحة الخدمة وبخاصة في الريف مقارنة بالحضر وفي القطاعات غير المنتظمة من العمل قياسًا بالعاملين في أطر العمل الرسمية.

ومنذ ذلك الحين، شهدت مصر عدة محاولات ومشاريع لإصدار قانون جديد وشامل للتأمين الصحي يهدف إلى إصلاح المنظومة وضمان العدالة الاجتماعية، والتغطية الصحية الشاملة، ففي عام ٢٠٠١ قدم الوزير مشروعًا للحوار مع اتحاد عمال مصر. وفى مشروع ٢٠٠٤ - ٢٠٠٥ وافق اتحاد العمال على المشروع، ولكن تغيير الوزير المسئول قبل وصول المشروع إلى مجلس الشعب حال دون تمريره.

وبقدوم حكومة رجال الأعمال، تم تقديم مشروع جديد عام ٢٠٠٧ شمل قرارًا من مجلس الوزراء بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحي إلى شركة قابضة للرعاية الصحية. وقد كان هذا القرار بمثابة تحويل حلم مشروع التأمين الصحي الاجتماعي الشامل إلى كابوس، تصدى المجتمع المدني له بضراوة. وقد قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وشركاؤها من متبنيي هذا الحلم إلى التقدم بدعوى أمام محكمة القضاء الإدارى ضد هذا الاتجاه والتي صدر فيها الحكم بتاريخ ٤ ديسمبر سنة ٢٠٠٨ بوقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الوزراء رقم ٦٣٧ لسنة ٢٠٠٧ بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية.

ثم جاءت ثورة يناير ٢٠١١ لتشهد موجة أشد من تنامي دور المجتمع المدني بهدف إصدار قانون للتأمين الصحي يحقق الحق في الصحة لجميع المواطنين بشكل مستدام. فتم تشكيل لجنة من ممثلي الحكومة والمجتمع المدني عملت على إجراء تعديلات جوهرية في القانون استجابة لمتطلبات المجتمع وإعمالًا لما جاء بحكم محكمة القضاء الإدارى فقامت بإجراء العديد من الحوارات المجتمعية وأثمر ذلك عن مسودات عديدة للمشروع تعدت الأربعين.

وجاء عام ٢٠١٣، حيث تمكنت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية من طرح رؤيتها الإستراتيجية في إصلاح المنظومة الصحية على متخذي قرار على دراية بحتمية المشاركة المجتمعية في عملية الإصلاح. فانضمت المبادرة المصرية إلى عضوية لجنة إعداد القانون مع عدد من ممثلي التيارات المجتمعية المختلفة، واستعانت الوزارة واللجنة بالعديد من الخبراء، وانضمت المبادرة المصرية لأول لجنة وزارية لحوكمة القطاع الصحي تصدر بقرار وزاري، وقدمت المبادرة المصرية مشاريعها المكملة الأخرى والتي تمثل، مع قانون التأمين الصحي الشامل، رؤية متكاملة لمنظومة صحية تحقق معايير الحق في الصحة والعدالة الاجتماعية. وكان على رأس تلك المشاريع مشروع إعادة تشكيل المجلس الأعلى الصحة ووثيقة حقوق المريض المصري.

ومنذ هذا الحين ورغم تغير وزراء الصحة، فإن دور المبادرة المصرية والمجتمع المدني في عمل لجنة إعداد قانون التأمين الصحي استمر في النمو. وبعد أن أتم العمل على هذا المشروع قرابة الخمس سنوات، عقدت خلالها ما يزيد على ٤٠ حوارًا مجتمعيًّا وما يعادلها من التعديلات استجابة لتلك الحوارات، انتهت اللجنة إلى مشروع قانون متكامل لتحقيق أهداف الإصلاح الصحي والتغطية الصحية الشاملة تدريجيًّا وذلك بتاريخ ١٧/١١/٢٠١٦ والذي تم تقديمه تباعًا إلى مجلس الوزراء.

خاتمة

هذا المشروع تبنته المبادرة المصرية وعملت على ظهوره إلى النور في أفضل صوره من خلال أنشطة المناصرة والتنظيم المجتمعي والعمل البحثي والضغط والتقاضي الإستراتيجي ثم عملها من داخل لجنة إعداد القانون ومن خارجه.

يخرج الآن بعد أعوام من النقاشات والعمل الدؤوب ليحقق الأغلبية العظمى من تطلعاتنا كأداة أساسية في رؤية المبادرة المصرية الشاملة لإصلاح المنظومة الصحية وحكمها الرشيد وتحقيقها للحق في الصحة والعدالة الاجتماعية.

نتخوف من مدى قدرة واستعداد ووجود إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ هذا القانون على أرض الواقع. هذا القانون سوف يظهر أعداؤه الحقيقيون في المستقبل القريب وسوف يقترن موقف المبادرة منه بمدى التزام أي تعديل عليه بالمبادئ الحاكمة التي طالما طالبت ودافعت وعملت المبادرة على تنفيذها. سوف نستمر بالضغط ونعمل من أجل تنفيذ هذا المشروع وشموله جميع المصريين بالشكل الذي يرضيهم، ولن ينتهي عملنا بمجرد تمريره، وإنما سوف يبدأ الجهد الحقيقي في متابعة تنفيذه وضمان تحقيقه لأهدافه ومبادئه بشكل كامل.