"سرد وقائع موت معلن" تقرير تحليلي عن وقائع القتل والتهجير القسري بحق أقباط العريش

"سرد وقائع موت معلن" هو عنوان رواية للكاتب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز، المعروف بأسلوبه المنتمي إلى عالم الواقعية السحرية. وتحكي الرواية عن أخوين اضطرا إلى الإقدام على جريمة قتل بدافع الشرف. ولم يألُ الأخوان جهدًا في نشر الخبر بين جميع سكان القرية حول نيتهم قتلَ ضحيتهم طوال أربعة وعشرين ساعة كاملة، على أمل أن يحذر أحدهم الرجل ويرفع عن كاهلهم عبء الجريمة. إلا أن أحدًا لم يبلغ الرجل، إما استهانةً بنية الأخوين وإما خوفًا منهما أو نتيجة الإحساس بأن الأمر لا يعنيهم ببساطة. وكانت النتيجة الحتمية المعلومة سلفًا للجميع هي ظفر الأخوين بالضحية المسكين في بيته وعلى رؤوس الأشهاد.

وفي شهر فبراير الماضي شهدت مصر وقائع موت معلن، كان القتلة والضحايا فيها من لحم ودم ولم ينتموا إلى واقع سحريٍّ ما. لم يألُ القتلة في حالتنا جهدًا في الإعلان الصريح عن نيتهم ليس فقط على مدى يوم واحد ولكن على مدى شهور وسنوات. ولم يكترث الجميع لهذا اﻹعلان إما استهانةً وإما خوفًا أو فشلًا، أو عن قناعةٍ بأن الأمر لا يعنيهم. والنتيجة الحتمية في الواقع، كما في الرواية، كانت تنفيذ القتلة تهديداتهم في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد.

يُوثِّق هذا التقرير الوقائع المعلنة لاستهداف أقباط محافظة شمال سيناء بأشكال مختلفة من الترهيب بدءًا من منع ممارسة الشعائر الدينية وحرق الكنائس والاعتداء على الممتلكات والخطف مقابل الفدية ووصولًا إلى التهجير القسري والقتل على الهوية على مدار السنوات الست الماضية وحتى الأسابيع الأخيرة من شهر فبراير 2017. ويحاول أن يضع الحدث الأخير في سياقه الأوسع المتسم بتنامي العنف الطائفي بأشكاله المختلفة، وتنامي نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة المسلحة في شمال سيناء، والفشل الرسمي في توفير الحماية اللازمة المقرَّة دستوريًّا وقانونيًّا ودوليًّا للأقباط الذين يواجهون هذا التهديد المباشر على الرغم من توفر سبل تلك الحماية في مكنة أجهزة الدولة.

ويخلص توثيق تلك الوقائع إلى ثلاثة استنتاجات رئيسية:

* أن ما حدث في فبراير الماضي لا يمكن وصفه سواء بالمعايير القانونية والدستورية المصرية، أو بالمعايير الدولية التي قبلت بها الدولة ورفعتها إلى مرتبة النصوص القانونية الملزمة، إلا كتهجير قسري مارسته جماعات مسلحة أو شبه مسلحة ضد جماعة متجانسة دينيًّا بهدف إجلائها من موطنها. ولا يمكن التهوين من شأنه واعتباره مجرد مغادرة طوعية أو حالة نزوح جماعي هربًا من نزاع مسلح.

* أن ممارسة التهجير القسري ليست حدثًا استثنائيًّا في سياق مناخ التوتر الطائفي السائد في مصر بقدر ما كانت ممارسة شائعة تسامحت معها، بل وتواطأت معها، أجهزة الدولة الأمنية والمحلية، في الكثير من الأحيان عبر إقراراها أو إشرافها على جلسات الصلح العرفية التي كانت تعقد لتسوية أغلبية النزاعات الطائفية، التي كانت ممارسة التهجير مكوِّنًا رئيسيًّا من مقرراتها.

* أن تعامل الأجهزة الأمنية والمحلية مع تلك الأزمة قد فشل في الوفاء بالتزاماتها الدستورية والقانونية والدولية بحماية الحقوق الأساسية للمواطنين المصريين في تلك المنطقة وعلى رأسها الحق في الحياة والحق في الملكية وعدم التهجير القسري، مع الأخذ في الاعتبار المدى الزمني الطويل الذي تطورت عبره الأحداث والذي كان من المفترض أن يسمح بالتنبؤ والتخطيط الفعال للتدخل بهدف توفير الحماية، ومع الأخذ كذلك في الاعتبار حقيقة الانتشار الأمني والعسكري الكثيف في المنطقة.

اعتمد التقرير في توثيقه على عدد من الزيارات الميدانية التي قام بها باحثو المبادرة المصرية إلى مدينة اﻹسماعيلية وتمكنوا على إثرها من جمع مجموعة كبيرة ومتنوعة من شهادات المهجرين وذويهم وبعض المسئولين الدينيين والتنفيذيين. كما اعتمد كذلك على البحث التاريخي الكمي والكيفي في وقائع العنف الطائفي، الذي قامت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية على مدار الأعوام الستة الماضية ونشرت مخرجاته في عدد من تقاريرها ودراساتها.

وينقسم التقرير إلى خمسة أجزاء رئيسية بخلاف التوصيات والملاحق. يتناول الجزء الأول خلفية تاريخية عن تطور أحداث العنف الطائفي في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 ورصدًا لأنماطها الرئيسية، مع التركيز على دور جلسات الصلح العرفية وما يرتبط بها من ممارسة التهجير كآلية غير قانونية لتسوية تلك النزاعات. ويتناول الجزء الثاني الواقع الأمني والسياسي والاجتماعي في شمال سيناء، التي كانت مسرحًا للعديد من التطورات الأمنية خلال نفس الفترة على خلفية الصراع المسلح الممتد بين الدولة وعدد من الفصائل الإرهابية، وانعكاسات هذا الوضع الأمني على حياة أقباط المنطقة. أما الجزء الثالث فيشمل قراءة في أحداث القتل والتهجير القسري التي جرت وقائعها في فبراير الماضي. ويستعرض الجزء الرابع مواقف الفاعلين الرسميين الأساسية من أجهزة أمنية ومحلية وتنفيذية أخرى. وأخيرًا، يقدم الجزء الخامس رصدًا لأهم الانتهاكات التي تعرض لها أقباط شمال سيناء خلال هذه الأزمة. ويختتم التقرير كما أسلفنا بعدد من التوصيات العاجلة بهدف تأمين الأسر القبطية المهجَّرة والحفاظ على ممتلكاتهم والعمل على عودتهم إلى ديارهم وضمان تعقب الجناة بما لا يخل بضمانات المحاكمة العادلة وغيرها من الحقوق الأساسية للمواطنين.

يشمل التقرير كذلك أربعة ملاحق: الأول يتناول بالشرح منهجية التقرير المستخدمة في جمع الشهادات وتوثيقها، الثاني يشمل ملخصًا بكافة حالات التهجير التي وثقها التقرير، الثالث يشمل نص الشهادات التي جمعها باحثو المبادرة من المهجرين وذويهم، والرابع يشمل استعراضًا عن نشأة الجماعات المسلحة في سيناء وتطور أهدافها وتكتيكاتها.

نتوجه بهذا التقرير إلى كافة الجهات الرسمية التشريعية والتنفيذية وإلى كافة المنظمات المدنية سواء الحقوقية منها أو العاملة في حقل الإغاثة أو العمل الخيري وإلى العاملين في الحقل الإعلامي على اختلافهم، بهدف المساعدة في وضع هذه الأحداث في سياقها التاريخي ومن ثم المساهمة في التفكير في حلول فعالة لمواجهتها بشكل حاسم وضمان عدم تكرارها في المستقبل عبر استهداف جذورها الضاربة عمقًا في تربة من الطائفية والممارسات التمييزية والتهميش الاقتصادي والاجتماعي وغياب الحريات العامة.