سولار بلا كبريت من أجل هواء أنقى وصحة أفضل
سولار بلا كبريت
من أجل هواء أنقى وصحة أفضل
مقدمة
١- نزع الكبريت من السولار كأولوية قصوى
٢- تركيز الكبريت في وقود السولار في مصر
٣- نظرة على السياسات المصرية لتحسين جودة الوقود
٤- تكلفة تلوث الهواء في مقابل تكلفة الحصول على وقود خالي من الكبريت
٥- توصيات
أعد هذه الورقة البحثية محمد يونس، الباحث في ملف العدالة البيئية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وحرّرها كل من مي قابيل، مديرة وحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية و كريم عنارة، مدير الأبحاث بالمبادرة المصرية. وصمّمها بصريا محمد جابر.
مقدمة
يطلق على الهواء الملوث "القاتل الصامت" لأن تراكم الملوثات في الجو يتسبب فى الإصابة بالعديد من الأمراض القاتلة خاصة في المناطق الحضرية المكدسة بالسيارات ووسائل النقل الأخرى الباعثة للعوادم الخانقة. ويرجع تلوث الهواء في المناطق الحضرية بشكل أساسي إلى حرق منتجات الوقود الأحفوري مثل السولار والبنزين والغاز. وفي مصر تقدر تكلفة الخسائر الصحية التي يسببها تلوث الهواء الناجم عن المحروقات الأحفورية بأكثر من ١٠٠ مليار جنيه، ما يعادل ٢,٨ ٪ من الناتج المحلي الإجمالي ٢٠١٨، وفقا لتقرير أصدرته مؤسسة جرينبيس "Greenpeace" العام الماضي.
لا يبدو أننا سنتخلص من حرق الوقود الأحفوري لتسيير أساطيل النقل في المدى القريب، كما يحدث بالتدريج في الكثير من دول العالم التي قللت اعتمادها على هذا الوقود في نقل البضائع. وذلك لأن الدوافع الاقتصادية هي التي تقود أي جهود لتحسين الأبعاد البيئية في عمليات إنتاج الوقود وتداوله مهما أتى هذا على حساب الصحة العامة والمناخ. ولكن حتى إذا استبعدنا هذه الأهداف عالية الطموح من سياسات الطاقة والسياسات البيئية المصرية، يمكننا بسهولة العمل على تحسين جودة الوقود الأحفوري سائد الاستخدام محليا -- تحديدًا السولار -- كأولوية هامة وهدف سهل التحقيق للحد من الخسائر الصحية والوفيات المرتبطة بالتعرض للهواء الملوث داخل مدننا.
فعلى الرغم من تبني الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة أهدافاً نظرية لتحسين جودة الوقود، وتحديث الخطة القومية لصناعة البتروكيماويات، فإنها لم تقم بتحديث التشريعات المرتبطة بمواصفات جودة الوقود لإلزام مصافي البترول الحكومية القديمة والقطاع الخاص الجديد بمواصفات موحدة. وذلك علمًا بأن المصافي الحكومية تنتج وقودا أقل جودة من مصافي القطاع الخاص، الذي تحسن منتجه نسبيَّا في الآونة الأخيرة بسبب شروط التمويل الدولي الذي يحصل عليه، بما تتطلبه من تقديم تحسينات على البيئة المحلية. ومن ثم نجد أن جودة وقود السولار شائع الاستخدام والأقل سعرًا في مصر تتباين بحسب المنتج الحكومي أو المحسوب على القطاع الخاص. ولا يزال أغلب المتاح في السوق من الوقود عالي التلوث الذي أصبح استخدامه نادرًا في باقي دول العالم. ولا تزال الأدوات الحكومية اللازمة لتحقيق الأهداف المعلنة لتحسين جودة الوقود تفتقر إلى التشريعات التفصيلية اللازمة وأدوات القياس والرقابة التي تسهل تحقيق الهدف المنشود.
وعلى الرغم من سعي الحكومة المصرية الحالي للتحول إلى مركز إقليمي لتداول وتجارة منتجات الطاقة، خلال المرحلة الانتقالية العالمية نحو نمو مستدام يدمج الأبعاد البيئية ضمن سياساته، وعلى خلفية المبادئ والأهداف المعلنة في مؤتمر المناخ الأخيرة بجلاسجو، والمتعلق منها بالضرورة بالانتقال إلى مصادر طاقة منخفضة الكربون أقل ضررا على البيئة وصحة المواطنين، فمن المتوقع أن تقدم الحكومة المصرية المزيد فيما يتعلق باستخدامنا اليومي للوقود، وخاصة الأكثر تلويثًا على الإطﻻق مثل الفحم والسولار. ولكن المتابع للسياسات والخطط الاستراتيجية المصرية ذات الصلة يجد أن الأبعاد البيئية لا يتم إدماجها إلا للأغراض الاقتصادية، مثل مبادرة تحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي الأقل ضررا بيئيا من السولار والبنزين - وهي مبادرة إيجابية وستحقق نتائج ملموسة، إلا أنها تظل مدفوعة بالشرط الاقتصادي المرتبط بتحقيقنا للاكتفاء الذاتي من الغاز. في المقابل، لم يكن على الأجندة التشريعية أي تحسين لمعايير انبعاثات تلوث الهواء أو تحديث المواصفات القياسية لوقود السولار. فمن منظور صناع السياسات، لا توجد أولوية اقتصادية ملحة هنا، ولكن هذا الأمر غير حقيقي على الإطﻻق. لأن الأثر الصحي والبيئي بعيد المدى له أثر اقتصادي غير مباشر قد يكون أكثر ضخامة بكثير من ضخ الاستثمارات في تحسين جودة السولار. كما أن التباطؤ في الانتقال بشكل عام إلى الوقود منخفض الانبعاثات الكربونية يفوت علينا فرصًا اقتصادية كبيرة للاستفادة من الاستثمار في الطاقة المتجددة والطاقة منخفضة الكربون. ولكن هذا حديث آخر.
ما نعنى به في هذا التقرير على وجه الدقة هو واحد من أهم منابع تلوث الهواء في مصر، وهو وقود السولار عالي الكبريت شائع الاستخدام في النقل الثقيل مثل الشاحنات وأساطيل النقل الجماعي. يساهم هذا التقرير في محاولة الدفع من أجل تخفيض نسب الكبريت ﻷنه العامل الحاسم للتحكم في الملوثات المنبعثة من المركبات. ويسلط التقرير الضوء على مدى تأثير هذا التلوث على صحة الإنسان والبيئة المحيطة، والتكلفة الاقتصادية الناتجة عنه، مقارنة بالأثر الاقتصادي الإيجابي للاستثمار بشكل عاجل في تقليل الكبريت وتحسين جودة الوقود. وكذلك يستعرض التقرير السياسات المصرية المتعلقة بتنظيم جودة الوقود، ويطرح توصيات لتطوير تلك السياسات وتحسين جودة الوقود بشكل عاجل وفعال وتخفيف ملوثات الهواء بهدف حماية صحة المواطنين، والحفاظ على الموارد الطبيعية، والاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في عالمنا اليوم، والذي أصبح يرى أن الانتقال لمصادر طاقة أكثر نظافة واستدامة هي مسألة حياة أو موت وليست فقط اختيارًا اقتصاديًا.
١- نزع الكبريت من السولار كأولوية قصوى
- كيف يؤثر الكبريت في وقود السولار على انبعاثات المركبات؟
تؤثر نوعية وجودة الوقود المستخدم في المركبات على الانبعاثات الصادرة منها، و تتسبب نسب الكبريت المرتفعة بشكل خاص في زيادة الملوثات المنبعثة من المركبات. ويعد نزع الكبريت من الوقود عاملا حاسما في تقليل كمية هذه الانبعاثات لسببين :
١- تؤدي زيادة نسبة الكبريت في الوقود إلى زيادة إنتاج الجسيمات الدقيقة ذات القطر ٢,٥ ميكرون (PM2.5) بشكل مباشر والتي تعتبر العامل الأهم في حسابات العبء الصحي الناجم عن تلوث الهواء. وعندما يكون تركيز الكبريت في وقود السولار عاليا، فإن جزيئات الكبريتات التي تتكون من احتراق الكبريت في السولار تشكل حصة أكبر من إجمالي انبعاثات الجسيمات الدقيقة.
٢- تتسبب نسب الكبريت العالية في الوقود في انعدام فاعلية أجهزة التحكم في الانبعاثات أو العوادم في المحركات، ما يزيد من الملوثات الناتجة عن الاحتراق الداخلي فيها، كما يضعف من أداء هذه المحركات. ولا يمكن استخدام مرشحات الجسيمات والمحفزات أو أي معدات مصممة للتحكم في انبعاثات العادم من السيارات والمركبات إلا إذا كان الوقود منخفض المحتوى من الكبريت. وكلما انخفضت النسبة كلما زادت إمكانية التحكم في الانبعاثات.
استخدام السولار منخفض الكبريت (١٠ جزء في المليون) وحده يقتطع من انبعاثات الجسيمات الدقيقة ٥٠٪ على الأقل، حتى في المركبات قديمة الطراز. وتستطيع تقنيات التحكم في الانبعاثات الحالية في السيارات والشاحنات الجديدة أن تخفض انبعاثات الجسيمات الدقيقة (PM) بنسبة ٩٩٪ من العادم. إذا تم استخدام السولار منخفض الكبريت كما يوضح الرسم البياني في الشكل أدناه (العلاقة الطردية بين محتوى الكبريت في الوقود وارتفاع انبعاثات الجسيمات الدقيقة).
وفقا لتقرير المجلس العالمي للنقل النظيف (ICCT) فإنه " من المستحيل تنظيف الهواء، أو تقليل تلوث الهواء من قطاع النقل تحديدا، دون نزع الكبريت من الوقود، حيث يعتبر الكبريت ملوثًا بشكل مباشر. ولكن الأهم من ذلك أن الكبريت يعوق عمل التقنيات الرئيسية للتحكم في انبعاثات الوقود من المحركات. ولهذا لا يمكن لأي استراتيجية الحد من تلوث الهواء بشكل فعال دون تقليل نسبة الكبريت في الوقود إلى مستويات قريبة من الصفر" .
وتعتبر انبعاثات عوادم المركبات أحد أهم العوامل المسببة لتلوث الهواء بالمناطق الحضرية في الدول النامية التي تتزايد فيها أعداد المركبات بشكل متسارع. كما يتسبب تلوث الهواء في العالم في أعباء صحية جسيمة، حيث يودي بحياة نحو ٧ مليون شخص سنويا في العالم وفقا لمنظمة الصحة العالمية. وتحدث الوفيات المبكرة نتيجة الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية والانسداد الرئوي المزمن والتهابات الجهاز التنفسي السفلي الحادة بالإضافة إلى سرطان الرئة.
كما تتسبب أبخرة عوادم السولار بشكل خاص في الإصابة بسرطان الرئة. وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت عام ٢٠١٢ عن رفع تصنيفها من "مادة مسرطنة محتملة" (مجموعة 2A) إلى "مادة مسرطنة" ( مجموعة 1).
وتساهم أبخرة عوادم محركات السولار في تكوين الجسيمات الدقيقة ذات القطر 2.5 ميكرون (PM2.5)، التي يمكنها اختراق عمق الرئتين بسبب حجمها الدقيق وتركيبها الذي يشمل مزيجا من الملوثات السامة مثل كبريتات الأمونيوم ونترات الأمونيوم وأكاسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت وبعض الجزيئات الأخرى. وهو ما يجعلها المؤشر الأهم لحساب عبء المرض الناتج عن التعرض لتلوث الهواء الذي تبنى عليه دراسات العبء الصحي .
ولا يقتصر تأثير أبخرة عوادم السولار على تلوث الهواء والصحة العامة فقط، ولكنه يساهم أيضا في زيادة درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض (الاحترار العالمي - أو الزيادة في متوسط درجة الحرارة السطحية للكرة الأرضية) عن طريق انبعاث الملوثات المناخية قصيرة العمر (SLCPs)، مثل "الكربون الأسود" (Black carbon). وهذا الأخير هو أحد مكونات الجسيمات الدقيقة 2.5 ميكرون، ويتواجد في الغلاف الجوي لفترة تتراوح ما بين أيام وأسابيع فقط ولكن جزيئاته تمتص الإشعاع الشمسي مما يساعد على تسخين الغلاف الجوي. ولا تنفصل ظاهرة الاحترار العالمي عن التلوث وتأثيراته الصحية بطبيعة الحال، فهناك علاقة طردية بين تلوث الهواء والاحترار العالمي من ناحية وبين تدهور الصحة العامة من ناحية أخرى. وتشير التقديرات مؤخرًا إلى أن الكربون الأسود هو ثاني أخطر الملوثات المناخية بعد ثاني أكسيد الكربون. وقد خلص تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن كيلوجرامًا واحدًا من الكربون الأسود يسبب آثارا مناخية على المدى القريب تعادل 3200 كيلو جرام من ثاني أكسيد الكربون..
وتعتبر مركبات السولار، بشكل خاص، الهدف الرئيسي للسياسات الهادفة للسيطرة على الكربون الأسود. وتساهم انبعاثات محركات السولار المتنوعة سواء في المركبات أو مولدات الكهرباء أو المعدات في ما يقرب من ٨٦ ٪ من انبعاثات الكربون الأسود (BC) المرتبطة بقطاع النقل، بينما تساهم مركبات الجازولين بنسبة ٧ ٪ والنقل البحري بنسبة ٧٪ .
تشير دراسة أعدها البنك الدولي لتقدير مصادر الانبعاثات الملوثة من الغازات والجسيمات الصلبة في القاهرة عام ٢٠١٠ إلى مساهمة حرق الوقود في قطاع النقل فقط في انبعاثات الجسيمات الدقيقة ذات القطر ١٠ ميكرون بنسبة ٧,٣٣ ٪، والمساهمة في انبعاثات الجسيمات الدقيقة ذات القطر ٢,٥ ميكرون لتصل إلى ١٧,٤٤ ٪. وتزيد النسبة في انبعاثات الغازات الملوثة لتصل إلى ٢٢,١٤ ٪ من إجمالي انبعاثات أكاسيد الكبريت، و ٧٩,١٤ ٪ من إجمالي انبعاثات أكاسيد النيتروجين.
أما على الصعيد العالمي، فقد تسبب قطاع النقل وحده في إطﻻق انبعاثات أكثر من ٥٥ مليون طن من الغازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي ما يعادل ١٧ ٪ من إجمالي الانبعاثات عام ٢٠١٧. وكان قطاع النقل الأعلى نمواً في الانبعاثات الملوثة للمناخ بمعدل ٧٩ ٪ بين عامي ٢٠٠٥- ٢٠١٥.
٢. تركيز الكبريت في وقود السولار في مصر
تعتبر مصر واحدة من ضمن عدد قليل من الدول التي لم تتخذ اجراءات حاسمة لنزع الكبريت من وقود السولار، فهي تصنف ضمن ١٣ دولة عالية تركيز الكبريت في وقود السولار. وتسمح المعايير المصرية بإنتاج واستيراد السولار عالي الكبريت بما يصل إلى (١٠٠٠٠ جزء في المليون). وهو أعلى حد قانوني متاح لتركيز الكبريت في السولار مقارنة بدول العالم الأخرى. وتأخرت مصر عن الأغلبية العظمى من دول العالم في هذه الخطوة التي من شأنها تحسين جودة الهواء بشكل ﻻ يستلزم تغييرات جذرية أو تكلفة كبيرة في توريد الطاقة.
وتصل نسبة الكبريت الفعلية في وقود السولار المنتج محلياً إلى أكثر من ٥٠٠٠ جزء في المليون ( شكل ٣) بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة ٢٠٢٠ . وهو ما يقدر بأكثر من ٥٠٠ ضعف نسب تركيز الكبريت في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، والذي يصل إلى ١٠ أجزاء في المليون فقط.
وعند خلط كميات وقود السولار المستورد مع المكرر محليًا تصل نسب الكبريت المستخدم في السولار فعليًا إلى حوالي ٢٦٠٠ جزء في المليون، وهو ما يعادل ٢٦٠ ضعف معايير الاتحاد الأوروبي، ما يستحيل معه الاستفادة بأي شكل فعال من أجهزة التحكم في انبعاثات المركبات.
ا
٣. نظرة على السياسات المصرية لتحسين جودة الوقود
بدأ العمل على تحسين جودة الوقود في أواخر تسعينات القرن العشرين حين استطاعت مصر نزع الرصاص من الجازولين (البنزين) عام ١٩٩٩. واستؤنفت الخطوات بداية الألفية حين أعلنت الدولة عن التوجه إلى تخفيض نسب الكبريت في وقود السولار. ولكن مر عقدان كاملان منذ ذلك التاريخ لم تتمكن فيهما الحكومات المتعاقبة من تحقيق هدف تخفيف تركيز الكبريت في السولار إلى "مستويات جيدة"، يمكن معها الاستفادة من أجهزة التحكم في عوادم المركبات التي تمكننا من خفض انبعاثات أبخرة الديزل القاتلة.
بتتبع السياسات التي انتهجتها مصر لتحسين نوعية الوقود عبر التقارير السنوية الصادرة من وزارة البيئة، وجدنا في أول تقرير رسمي متاح (٢٠٠٤) أن وزارة البترول قد خففت نسبة الكبريت في السولار من ٦٥٠٠ جزء في المليون إلى ٤١٠٠ جزء في المليون خلال عام ٢٠٠٢.
وفي عام 2007 أعلنت وزارة البيئة في تقريرها أن على رأس أهداف تحسين جودة الهواء تحسين نوعية الوقود واستخدام بدائل وقود أقل تلوثا وذلك خلال خطتها الخمسية (٢٠٠٧ - ٢٠١٢). وذلك دون أن تعلن عن هدف محدد لنسب الكبريت في وقود السولار أو برنامج تقوده بالتعاون مع وزارة البترول ووزارة التجارة والصناعة لتطوير المواصفات القياسية للوقود. وفي عام ٢٠٠٩ أعلنت وزارة البيئة عن استهداف تطوير المواصفات القياسية لوقود السولار و الوصول إلى محتوى كبريت ٢٠٠٠ جزء في المليون. ثم تم تخفيض النسبة المستهدفة عام ٢٠١٣ ليطابق المعيار الأوروبي لمواصفات وقود السولار، المعروف بـ " يورو ٥"، والذي لا يسمح بأكثر من ١٠ أجزاء في المليون من الكبريت في السولار - وهي كانت خطة طموحة في ذلك الوقت ولكنها بعيدة كل البعد عن الخطوات التي اتخذت للتنفيذ.
ذكر تقرير وزارة البيئة ٢٠١٤ أن تحقيق ذلك الهدف سيتم عن طريق إنشاء معامل تكرير جديدة وتحديث معامل التكرير الحالية وأيضا استيراد وقود ذي جودة عالية، نظرا لأن أسعار وقود السولار بأنواعه المختلفة لا تمثل سوى فروق طفيفة بحسب ما أورد التقرير نفسه.
ومن أجل التوضيح وللمقارنة بالمواصفات القياسية في الدول الأخرى التي سبقتنا في تقليل نسب الكبريت في الوقود، نصت المواصفات القياسية للسولار التي وضعت في الاتحاد الأوروبي بداية من العام ١٩٩٢ على عدم زيادة نسبة الكبريت في السولار عن ٢٠٠٠ جزء في المليون. ثم خفضت إلى ٥٠٠ جزء في المليون عام ١٩٩٦، وصولا إلى نسبة ٣٥٠ جزءًا في المليون عام ٢٠٠٠ ( يورو ٣). واعتمد المعيار يورو ٤ عام ٢٠٠٥ ويتطلب الوصول إلى نسبة ٥٠ جزءًا في المليون. وفي عام ٢٠٠٩ اشترطت خفضها إلى ١٠ أجزاء في المليون.
يتم تنظيم الحدود المسموح بها لتركيز الكبريت في السولار في مصر من خلال مواصفة صادرة من الهيئة المصرية للمواصفات والجودة، والتي تسمح بتركيز الكبريت بنسبة 10 آلاف جزء في المليون كحد أقصى، وهي في حقيقة الأمر نسبة أعلى حتى من الكبريت الموجود في السولار المتداول فعلياًّ في السوق، سواء المنتج محليا أو المستورد. وفي نفس توقيت صدور المواصفات من الهيئة المصرية للمواصفات والجودة عام ٢٠١٣، كانت وزارة البيئة قد أعلنت أن أحد أهدافها تخفيض نسبة الكبريت في الوقود والوصول بها إلى ٢٠٠٠ جزء في المليون. وفي سنة ٢٠١٤ قامت وزارة البيئة بتحديث ذلك الهدف للمعيار يورو-٥ ما يتطلب تخفيض نسبة الكبريت إلى ١٠ أجزاء في المليون! ما يدل على ضعف التنسيق بين الجهات المعنية بهذه المسألة وعدم جديتها في الوصول للأهداف المعلنة. فأهداف وزارة البيئة النظرية لا يبدو أنها تؤثر في المواصفات التي تصدرها هيئة المواصفات والجودة.
وتنعكس محدودية تنظيم عملية "تحديث" مواصفات الجودة للمنتجات البترولية في قرار بعض شركات السيارات العالمية بحظر تصدير المركبات التي تعمل بوقود السولار إلى مصر بسبب عدم توافره بالجودة الكافية لتشغيل المحركات بكفاءة عالية وبدون حدوث أعطال .
وعلى الرغم من توسع الحكومة المصرية في تحديث صناعة البتروكيماويات ووضع استراتيجية جديدة لتطويرها خلال الفترة ٢٠٢٠ - ٢٠٣٥ "لتحقيق الاكتفاء الذاتي ورفع جودة العديد من المشتقات البترولية وتشجيع التصنيع المحلي" وتحديثها حتى ٢٠٤٠ ، إلا أن الاستراتيجية الجديدة كذلك لا تضع تخفيض نسب الكبريت في السولار إلى النسب العالمية ضمن أولوياتها. ويعلق مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا في دراسة أصدرها بالتعاون مع وزارة البيئة المصرية (سيداري ٢٠١٩)على الاستراتيجية مؤكدًا أن تأثيرها سيكون محدودًا على الجودة الإجمالية لوقود السولار في مصر لأن الغرض الأساسي من الاستراتيجية هو زيادة الإنتاج المحلي لتقليل الواردات، وليس تحسين منتجات السولار المحلية منخفضة الجودة، خصوصا التي تنتجها مصانع التكرير القديمة.
وحتى الحالات التي شهدت تحسينًا لجودة الوقود،كانت مدفوعة بالأهداف الاقتصادية، سواء لقطاع البترول التابع للدولة كما في حالة شركتي ميدور وانوبك التابعين لوزارة البترول، أو لاستيفاء شروط الحصول على تمويل المؤسسات الدولية كما هو الحال في الشركة المصرية للتكرير (ERC) التي تنتج وقود السولار بجودة اليورو ٥، من أجل الوصول إلى تمويلات التنمية المشروطة بتقديم تحسينات على جودة البيئة المحلية.
تستهدف الخطط الحالية تطوير جودة وقود السولار بتخفيض الكبريت للوصول إلى معيار اليورو ٥ في ٣ مصافي بترول مصرية فقط وهي شركة الشرق الأوسط لتكرير البترول (MIDOR)، وشركة أسيوط الوطنية لتصنيع البترول (ANOPC)، والشركة المصرية للتكرير (ERC). ولكن الكميات عالية الجودة تلك لا تلبي أكثر من ٤٥ ٪ من احتياجات السوق، وهو ما لا يحقق احتمالات الوصول إلى تعميم مواصفات منخفضة الكبريت في وقود السولار بحلول عام ٢٠٣٠ ، ما لم يتم إدخال مزيد من التعديلات. فمن المتوقع أن تصل نسبة الكبريت في السولار إلى ١٩٠٠ جزء في المليون بحلول ٢٠٣٠ وفقا للاستراتيجية الحالية، ما يعادل ١٩٠ مرة المعايير الأوروبية (يورو ٥)، البالغة نسبة ١٠ أجزاء في المليون، وفقاًّ لدراسة سيداري.
وحتى اللحظة لا يوجد التزام قانوني بتحسين معايير جودة الوقود، حيث لم يصدر أي تشريع بتعديل مواصفات جودة الوقود. ولم تتحقق الأهداف المعلنة في التقارير السنوية لوزارة البيئة على مدار السنوات الأخيرة تجاه تحسين جودة الوقود لحماية الصحة العامة والحفاظ على البيئة - بل يمكن القول بأننا لم نقترب حتى من تحقيق جزء منها.
٤. تكلفة تلوث الهواء في مقابل تكلفة الحصول على وقود خالي من الكبريت
لا يقتصر حساب تكاليف أي مشروع على تكاليف البناء والتشغيل وغير ذلك، ولكن هناك تكلفة اقتصادية إضافية تتمثل في عبء التدهور البيئي والآثار الضارة على صحة الإنسان وجودة معيشته. يطلق على هذه الآثار التكاليف غير المباشرة (externalities)، وهي تكاليف لا يتم إدراجها في التقييم الاقتصادي للمشروعات لأنها غير مسعرة أو غير معروفة وتختلف من مكان إلى آخر (حسب طبيعة المكان ونوع المشروع). وعلى الرغم من أن دراسات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي للأنشطة الاقتصادية تستوجب حساب تكاليف بيئية ”مباشرة“ مثل تكاليف تخفيف الانبعاثات أو معالجة الصرف أو استصلاح الأرض بعد استخدامها أو دفع تعويضات لأطراف متضررة، إلا أن هذه الدراسات لا تتضمن التكاليف البيئية والاجتماعية ”غير المباشرة“ مثل آثار استنفاد الموارد الطبيعية وتلوثها والأعباء الصحية بداية من الإصابة بالمرض وما ينتج عنها من تكاليف التعايش معها وعلاجها أو التغيب عن الدراسة أو العمل وحتى حدوث الوفيات المبكرة، وهذه التكاليف لها أثر ممتد ومتراكم.
ويشير الخبراء إلى أن الفوائد الاقتصادية الناتجة عن تطبيق برامج تحسين جودة الوقود والمركبات الأنظف تعتبر "استثمارًا رابحًا" بالنسبة للصحة العامة مقارنة بالتكلفة. فعلى سبيل المثال، يجني كل استثمار قدره ١ دولار في العملية التنظيمية لتحسين جودة الديزل في أسطول الشاحنات بالولايات المتحدة ما يعادل ١٧ دولارًا أمريكيًا من الفوائد. و تقدر فوائد الصحة العامة الناتجة عن تطبيق ضوابط انبعاثات المركبات في الصين حوالي 150 مليار دولار، وبتكلفة تطبيق أقل من البرامج المماثلة في الولايات المتحدة.
تقدر التكلفة الاقتصادية لعملية نزع الكبريت من السولار في مصر من أجل تحقيق المعيار الأوروبي لجودة السولار ( Euro-5) بحوالي 508-660 مليون دولار أمريكي، من خلال استخدام عملية المعالجة الهيدروجينية (hydrotreating) المخصصة لنزع الكبريت من السولار. وتشمل التكلفة إضافة وحدات معالجة جديدة و عمليات تعديل وزيادة سعة الوحدات الحالية، وفقا لمركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا (سيداري ٢٠١٩).
في المقابل، تعتبر تقديرات تكلفة التدهور البيئي بشكل عام، وبما يتضمن تأثير هذا التدهور على صحة الإنسان وجودة حياته و الموارد الطبيعية، واحدة من أهم أدوات تغيير السياسات العامة للحكومات فيما يتعلق بنوع الاستثمارات ومدى استدامتها، و سياسات حماية البيئة ومراقبة الأنشطة المختلفة وسن القوانين.
ويشمل عبء تلوث الهواء تكلفة الخسائر الصحية مثل (غياب الراحة، الألم، المرض، الوفيات المبكرة)، كما يشمل الخسائر غير المباشرة نتيجة هذا التلوث مثل تراجع القيمة الاقتصادية للثروات الطبيعية نتيجة تلوث الهواء. فعلي سبيل المثال عندما يمرض السكان في مكان ما نتيجة تراكم الملوثات بالهواء، يزيد الضغط على المستشفيات الصدرية، وتتراجع الإسهامات المجتمعية والاقتصادية مثل إنتاجية العمال نتيجة للغياب المرضي، أو الطلبة في المدارس، وتقل فرص المكان في استقطاب سياح أو صناعات مختلفة أو عمال أمهر وبالتالي يفقد من قيمته الاقتصادية.
كما يؤدي تلوث الهواء إلى حدوث الوفيات المبكرة وإلى تقليل متوسط العمر المتوقع جراء الإصابة بأمراض الصدر والقلب. فطبقًّّا لمنظمة الصحة العالمية، وصلت أعداد الوفيات المبكرة في مصر بسبب تلوث الهواء إلى ٦٧٤٣٤ حالة عام ٢٠١٦، ٥٨٪ منها جراء الإصابة بأمراض القلب، و ١٨ ٪ جراء السكتة الدماغية، و٢٤٪ منها جراء أمراض الرئة والسرطان.
ويضيع حوالي عامين من عمر كل مصري بسبب الاعتلال أو الإعاقة الصحية جراء تلوث الهواء . وقد عاش قاطنو القاهرة البالغ تعدادهم أكثر من ١٧ مليون نسمة خلال عام ٢٠١٧ إجمالًا ما يعادل أسبوعين من الاعتلال و الإعاقة الصحية بسبب الإصابة بالأمراض الناتجة عن تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة ذات القطر ٢,٥ ميكرون.
كما كان تلوث الهواء السبب في أكثر من ١٢٪ من إجمالي الوفيات في مصر خلال العام ٢٠١٧ وفقا لبيانات معهد القياسات والتقييم الصحي بواشنطن (IHME).
تصنف مصر في المركز السادس عالميا ضمن أكثر ١٣ دولة عالية تركيز الكبريت في الوقود، والتي يقع فيها ٨٨ ٪ من الأعباء الصحية العالمية الناتجة عن السولار عالي الكبريت. ويساهم قطاع النقل وحده في حدوث ثلاثة أرباع (٧٥,٦٪ ) الوفيات المرتبطة بعبء تلوث الهواء الصحي في مصر. ويمثل السولار ثلث (٣٣,٦ ٪) استهلاك الوقود اللازم لحركة المركبات على الطرق.
كما ذكرنا لا تتضمن أغلب دراسات عبء تلوث الهواء التكلفة الكاملة له، كما تتباين تقديرات كلفة التدهور البيئي بين دراسة وأخرى لاختلاف منهجيات التحليل والحساب. ورغم ذلك القصور فالتكلفة بالفعل كبيرة حتى في أقل التقديرات. نستعرض فيما يلي عددًا من الدراسات التي تناولت عبء تلوث الهواء في مصر :
-
يقدر البنك الدولي في تقرير تناول تكلفة التدهور البيئي في مصر عام ٢٠٠٢ بأن التكلفة الصحية لعبء تلوث الهواء فقط وصلت إلى ٢,١ ٪ من الناتج الإجمالي القومي (GDP)، ما يعادل ٦٤٠٠ مليون جنيه مصري. وأن تلوث الهواء كان المساهم الأكبر في متوسط كلفة التدهور البيئي التي بلغت ٤,٨ ٪ ، وهي نسبة عالية وتقدر بضعفي أرقام الدول الصناعية وفقا للتقرير. جدول(١)
متوسط التكلفة السنوية للتدهور البيئي في مصر عام ١٩٩٩ |
||
نوع التدهور |
التكلفة السنوية بالمليون جنيه |
النسبة من الناتج المحلي الإجمالي |
الهواء |
٦٤٠٠ |
٢,١ ٪ |
التربة |
٣٦٠٠ |
١,٢ ٪ |
المياه |
٢٩٠٠ |
١ ٪ |
المناطق الساحلية والتراث الثقافي |
١٠٠٠ |
٠,٣ ٪ |
المخلفات |
٦٠٠ |
٠,٢ ٪ |
المجموع |
١٤٥٠٠ |
٤,٨ ٪ |
-
أصدر البنك الدولي عام ٢٠١٣ دراسة تتناول عبء تلوث الهواء في القاهرة الكبرى، وقدر فيها تكلفة التدهور في نوعية الهواء بمتوسط ١,٠٣٪ من الناتج الإجمالي القومي (GDP) بين عامي ١٩٩٩- ٢٠٠٩. وقدر أن تكلفة التدهور بسبب تلوث الهواء زادت بنحو مرتين ونصف، من ٤,١مليار جنيه عام ١٩٩٩ إلى ١٠.٢ مليار جنيه عام ٢٠٠٩، وتكلفة تراكمية على مدار نفس الفترة لحوالي ٦١ مليار جنيه . جدول (٢)
التكلفة السنوية لتلوث الهواء في القاهرة الكبرى بين عامي ١٩٩٩- ٢٠٠٩ |
|||||||||||
المؤشر / السنة |
١٩٩٩ |
٢٠٠٠ |
٢٠٠١ |
٢٠٠٢ |
٢٠٠٣ |
٢٠٠٤ |
٢٠٠٥ |
٢٠٠٦ |
٢٠٠٧ |
٢٠٠٨ |
٢٠٠٩ |
التكلفة بالمليار جنيه |
٤,١ |
٣,٧ |
٤,٢ |
٣,٨ |
٤,٢ |
٥,٢ |
٤,٩ |
٥,٤ |
٧,٣ |
٧,٩ |
١٠,٢ |
النسبة من الناتج المحلي الإجمالي |
١,٣ ٪ |
١,١ ٪ |
١,٢ ٪ |
١ ٪ |
١ ٪ |
١,١ ٪ |
٠,٩ ٪ |
٠,٩ ٪ |
١ ٪ |
٠,٩ ٪ |
١ ٪ |
-
وفي تقرير صادر عن البنك الدولي أيضًا عام 2016، بلغت تقديرات تكلفة عبء تلوث الهواء في مصر حوالي ٣,٥٨ ٪ من إجمالي الناتج المحلي السنوي في عام 2013، ما يعادل ٣١,٥٤٥ مليون دولار بأسعار ٢٠١١. جدول (٣)
تكلفة الأعباء الصحية الناتجة عن تلوث الهواء في مصر عام ٢٠١٣ |
||||||
المؤشر |
متوسط التركيز السنوي للجسيمات الدقيقة PM2.5 (ميكروجرام / متر مكعب) |
إجمالي الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء |
الخسائر الاقتصادية |
|||
السنة |
١٩٩٠ |
٢٠١٣ |
١٩٩٠ |
٢٠١٣ |
١٩٩٠ |
٢٠١٣ |
مصر |
٣٥,٩٢ |
٣٦,٤١ |
٤٠٨٨١ |
٣٩١١٨ |
١٧٨٠٢ (٥,٢٥٪) |
٣١٥٤٥ (٣,٥٨ ٪) |
-
وفي آخر و أحدث تقرير للبنك الدولي عن تكلفة تلوث الهواء والتدهور البيئي والصادر عام ٢٠١٩، قدر تكلفة المرض والوفيات المبكرة الناجمة عن تلوث الهواء المحيط (خارج المنزل) بالجسيمات الدقيقة PM2.5 في القاهرة الكبرى وحدها قد تكون وصلت إلى نحو ٤٧ مليار جنيه في ٢٠١٦\ ٢٠١٧، ما يعادل ١,٣٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي. جدول (٤)
التكلفة الافتصادية للعبء الصحي الناتج عن الجسيمات الدقيقة (PM2.5) في القاهرة الكبرى عام ٢٠١٧/٢٠١٦ |
|
الخسائر الاقتصادية بسبب الوفيات المبكرة |
٣٨,٣ |
الخسائر الاقتصادية بسبب الأمراض |
٨,٧ |
إجمالي الأعباء الصحية |
٤٧ |
النسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام ٢٠١٦/٢٠١٧ |
١,٣٥ ٪ |
-
أخيرًّا صدر تقرير لمنظمة جرينبيس (Greenpeace) خلال عام ٢٠٢٠ يسعى لتقييم التكلفة السنوية المنسوبة إلى تلوث الهواء الناجم عن "الوقود الأحفوري" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فـي العام 2018. وتصدرت مصر القائمة بتكلفة متوسطة تصل إلى ٦٩٠٠ مليون دولار أمريكي ما يعادل ٢,٨ ٪ من الناتج المحلي.
ينبغي أن تحتل صحة المواطنين قائمة أولويات السياسات العامة للدولة. وينطبق هذا على الأجيال القادمة أيضا من المواطنين الذين سيتأثرون بشكل مباشر باستخدامنا للوقود مرتفع الكبريت في هذا اليوم. فقد نص الدستور المصري الصادر عام ٢٠١٤ في المادة ٤٦ على أن "لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطني، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال القادمة".
ماذا يمكن عمله إذن بصدد هذا الالتزام الدستوري؟ بداية يمكن فرض الإجراءات الوقائية اللازمة عن طريق وضع معايير بيئية ملزمة تحمي صحة المواطنين، من خلال تحديث التشريعات البيئية الحالية وخصوصا حدود مستويات تلوث الهواء التي تتجاوز المعايير الموصى بها دوليا لحدود تركيز الملوثات في الهواء المحيط.
يعتبر تطبيق المعايير البيئية هو السيناريو الأجدى والأقل تكلفة على الدولة لتقليل العبء المجتمعي والبيئي والاقتصادي الناتج عن تلوث الهواء، خاصة أنه يحمي من استمرار وتفاقم هذا العبء على المدى البعيد. يمكن أن نتحقق من ذلك بمقارنة تكلفة عملية تحديث مصانع تكرير البترول للوصول إلى معايير اليورو ٥ وبين التكلفة المقدرة الناتجة عن عبء تلوث الهواء على الصحة العامة والاقتصاد كما أشرنا أعلاه. وفقًا لدراسة أصدرتها الوكالة الأمريكية لحماية البيئة تقارن بين العائد الاقتصادي من تطبيق المعايير القانونية في الولايات المتحدة وبين تكلفة عدم تطبيقها، جاءت النتيجة أن العائد على الاقتصاد من تطبيق التشريعات يصل إلى 30 ضعف العائد في حالة عدم التطبيق. وبداية من تطبيق" قانون الهواء النظيف" في الولايات المتحدة عام ١٩٩٠ وحتى عام ٢٠٢٠، تمت حماية ٢٣٠ ألف شخص من الوفاة المبكرة، ما يمثل ٨٥ ٪ من التكلفة الاقتصادية الإجمالية لعبء لتلوث الهواء.
تسعى الحكومة المصرية في الآونة الحالية لتحديث قطاع البتروكيمياويات باستثمارات تقدر بحوالي ١٩ مليار دولار، ولكن في غياب تحديث في التشريعات المرتبطة بمعايير الوقود أو التزام قانوني بالوصول للمعايير للمستويات الدولية الموصى بها، على الرغم من أن بعض التقديرات تحسب أن تكلفة الحصول على وقود ديزل خالي من الكبريت لا تتجاوز ٦٦٠ مليون دولار وهي تكلفة محدودة جدًّا مقارنة بما سوف نجنيه صحيًّا واقتصاديًا من تنفيذ إجراءات نزع الكبريت من الوقود. من المؤسف أن تتحول هذه الاستراتيجية إلى فرصة أخرى مهدرة لتطبيق هذه التعديلات الضرورية جدًا من أجل الحفاظ على صحة المواطنين وعلى بيئة نظيفة واقتصاد مستدام.
٥ . توصيات
١- توصيات بخصوص نزع الكبريت من السولار
- تطوير مواصفة قياسية لوقود السولار المنتج محليا تتوافق مع المعايير الأوروبية الـ«يورو 5» للحد من انبعاثات المركبات الملوثة بشكل عاجل.
- الاستثمار في تطوير مصافي البترول القديمة لإنتاج السولار بمعيار اليورو ٥ وإلزام القطاع الخاص بتطوير مصافي البترول والبنية التحتية للتكرير في إطار زمني محدد.
- وقف فوري لاستيراد السولار عالي الكبريت أسوة بالعديد من الدول التي نجحت في الحد من التلوث الناتج عن الكبريت.
٢- توصيات السياسات العامة لحماية صحة المواطنين والبيئة
- دمج البعد البيئي والاجتماعي في استراتيجية تطوير قطاع البتروكيماويات والاستراتيجيات والخطط المتعلقة بقطاعات الطاقة بصفة عامة وتكرير البترول بشكل خاص.
- إجراء مزيد من الدراسات لتقييم العبء الصحي الناتج عن تلوث الهواء ونشرها وإعلان نتائجها. وإدراج التكلفة الناجمة عن تدهور الصحة والبيئة في منظومة صنع السياسات وفي كل أوراق السياسات المختصة داخل وزارات الصناعة والبترول والثروة المعدنية والكهرباء.
- دعم التحول إلى المركبات الكهربائية، والاستفادة من فائض الكهرباء المتاح حاليا في تدشين البنية التحتية التي تساعدها على الانتشار وعلى استبدال السيارات المعتمدة على الوقود الأحفوري بشكل أسرع.
- تشجيع وسائل النقل النظيف مثل الدراجات و توفير مسارات أكثر لها داخل المدن المأهولة بالسكان، بالإضافة إلى الاستثمار في زيادة المساحات الخضراء داخل المدن وتشجيع التشجير الذي يحافظ على جودة الهواء.
٣- توصيات تخص تلوث الهواء
- إصدار تشريع " الهواء النظيف " كقانون خاص منفصل يشمل كل ما يتعلق بجودة الهواء في كافة القطاعات وإسناد الإشراف على تنفيذه إلى وزارة البيئة من أجل المزيد من الحماية وتذليل عقبات التنسيق بين الوزارات المعنية بقوة القانون.
- تحسين المعايير المصرية الخاصة بنوعية الهواء والانبعاثات المسموح بها والتي تزيد حاليّا على المعايير الموصى بها من منظمة الصحة العالمية بمقدار ضعفين أو ثلاثة لعدد من الملوثات.
- تحسين قوانين حماية البيئة واللوائح التنفيذية البيئية لتكون أكثر إحكامًا، وبناء قدرات ورفع كفاءة أجهزة المراقبة والتفتيش البيئي وأجهزة إنفاذ القوانين، ووضع كل ذلك على أولوية الأجندة التشريعية للبرلمان الحالي.
- توسيع نطاق نشر الإنذار المبكر وإبلاغ المواطنين في حالات التلوث الحاد.
- تحسين وتحديث وإتاحة ونشر المعلومات المتعلقة برصد ملوثات الهواء، وتسهيل متابعتها للجمهور والمعنيين بالبيئة، وتوفير منصة إلكترونية كمرصد بيئي على مدار الساعة واليوم.
- إصدار قرار بمنع تمويل مصانع التكرير الحكومية والخاصة في أي عمليات تطوير إلا بشرط الالتزام بإنتاج السولار بمعيار اليورو ٥.