الدين الخارجي 2020: كورونا ترفع الاستدانة

مقدمة

قفز الدين الخارجي في مصر قفزة هي الأكبر في عشرة أعوام. كورونا هي المبرر المباشر الذي يقفز إلى الذهن لأول وهلة. لكنها القفزة الرابعة خلال عشرة سنوات، بحسب البيانات الرسمية.

يشرح هذا التقرير أسباب زيادة الدين الخارجي، ومصادره، ويقيم خطة الحكومة لإطالة آجال السداد. تقرير هذا العام يتناول أكثر من مجرد ما جرى خلال العام الماضي.

أولا  يقدم توضيحا لما جرى في عام الجائحة، كيف أثرت تداعيات الوباء الاقتصادية على الاقتراض الخارجي. فقد تأثر ملف الدين الخارجي تأثرا كبيرا بعام الجائحة، حيث اتخذت الحكومة المصرية العديد من التدابير لتفادي انخفاض العملة المحلية، أهمها اللجوء إلى الاستدانة من الخارج في ظل النقص في الموارد الدولارية بسبب تداعيات كورونا. ويشير التقرير إلى تجاهل الحكومة لمحاولات العديد من دول العالم الثالث وخاصة أفريقيا للضغط من أجل تأجيل سداد فوائد وأقساط الديون الخارجية لمدة عام أو اثنين، لخلق مساحة مالية، أو تخفيف الضغط على الموارد الدولارية، في وقت أصبحت فيه التحديات التي تواجهها الدول النامية من قبيل: هل نسدد الديون أم نشتري الطعام؟ هل نسدد أم نشتري اللقاح؟ 

ثانيا، في ختام عقد مضى من الألفية الثالثة، وجدنا أنه من المفيد تقييم الملف من منظور اﻷجل الطويل: تقييم عقد من زيادة الاعتماد على الاقتراض الخارجي، ما له وما عليه.  النظر إلى العقد الأخير، يوضح أن زيادة الدين الخارجي في عام الجائحة ليست استثناء.. بل يلاحظ ما يلي:

-  زاد الدين الخارجي في شكل قفزات في الأعوام 2013، 2016، ثم في 2017 وأخيرا في عام 2020، مما يطرح أسئلة عن هشاشة الاقتصاد المصري وإلى أي مدى تمت تقوية قدراته خلال تلك السنوات العشرة على مواجهة وامتصاص الصدمات.

- هناك اتجاه حكومي، متزامن مع اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي للاعتماد المتزايد على القروض الخارجية. وهكذا نجد أن الدين قد زاد بأكثر من الضعف خلال الفترة 2017-2020. وإجمالا  زاد ما يقرب من أربعة أضعاف مستواه في عام 2010. وبلغت نسبته حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 في مقابل 15% في عام 2010. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل تلك النسبة إلى 38% بحلول 2023. 

وفي هذا اﻹطار، جدير بالذكر أنه على الرغم من كم البيانات الحكومية المتاحة، إلا أنه يلاحظ هذا العام أنها تتسم أكثر فأكثر بعدم الاتساق وعدم الترابط وعدم الانتظام في النشر، وهي كلها من علامات نقص الشفافية. 

وفي النهاية يقدم التقرير توصيات حول كيفية تحسين التعامل مع هذا الملف المركب الذي يمزج بين السياسة والاقتصاد.

زيادة الدين الخارجي في شكل قفزات، آخرها كورونا

تضاعف الدين الخارجي في العقد الأخير، بمعدلات أسرع من معدلات النمو. ويمكن تقسيم هذا العقد إلى أربعة محطات متباينة:

1- ظل مبلغ الاقتراض الخارجي السنوي ثابتا خلال الفترة 2010-2012، وهي أولى سنوات الثورة.

2- شهد الدين الخارجي أولى قفزاته في عام 2013. ثم محاولات للاستقرار عند نفس المبلغ خلال الفترة 2013-2015. وشهدت هذه الفترة أمرين مقلقين: تنامي حصة القروض متوسطة وقصيرة الأجل، وتآكل نصيب الحكومة المركزية من إجمالي محفظة القروض الخارجية. 

وكلا الأمرين يدلان من ناحية، على أنها استدانة "لسد الخانة" وليست الاستدانة المخططة بغرض التنمية. ومن ناحية أخرى، فإنها استدانة مخفية، لا يظهر سوى نصفها فقط في الموازنة العامة.

3- شهد الدين قفزة أخرى في عام 2016، مع سقوط طائرة مصر الطيران فوق شرم الشيخ وتوقف السياحة. شهدت البلاد أزمة نقص دولارات، وبدأت عودة السوق غير الرسمية للعملة وظهور سعرين للدولار. وانعكس ذلك بالزيادة في الاقتراض الخارجي.

4- ولكن مع  نهاية عام 2016، بدأ عهد جديد شهد تسارع وتيرة الاقتراض الخارجي. وذلك بالتزامن مع توقيع مصر لاتفاقية التمويل الممتد مع صندوق النقد الدولي، والذي بلغ 12 مليار دولار على ثلاثة سنوات. فكانت الزيادة أكبر من أي وقت مضى. حيث اشترط الصندوق مثلا أن تدبر مصر تمويلا خارجيا يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف ما يقدمه الصندوق سنويا، حتى يوافق على القرض. ودبرت مصر حينها ما يقارب من 20 مليار دولار. ثم تكرر نفس الشرط في عام كورونا حين طلبت مصر الحصول على قرض يقدر بـ 5.2 مليار دولار مقابل اتفاق الاستعداد الائتماني، ومن قبله التمويل الطاريء في مايو 2020 بمبلغ 1.8 مليار دولار " يخفف كل من الاتفاقين من عبء الاحتياجات التمويلية، كما يساعدان في تعبئة وسائل أخرى من أجل سد ما يتبقى من الفجوة التمويلية". 

5- جاءت الجائحة لتزيد الدين الخارجي ولكن بقدر أكبر مما يظهر في الشكل 1، كما سنرى لاحقا.

وهكذا، ارتفع الدين الخارجي بأكثر من الضعف خلال السنوات الخمس الماضية ليصل إلى نحو 30% من إجمالي الدين العام، بحسب مذكرة بحثية لشركة فاروس القابضة . ومن المتوقع أن يواصل الدين الخارجى الارتفاع ليصل إلى 139.4 مليار دولار في العام المالى الحالى 2021/2020 (لم يعلن الرقم بعد رغم نهاية العام المالي)، مقارنة بـ 123.5 مليار دولار فى العام المالى السابق 2020/2019. بينما تبقى نسبة الدين الخارجى إلى الناتج المحلى الإجمالى مستقرة إلى حد ما، إذ بلغت نحو 35% خلال العامين الماضيين، ومن المرجح أن ترتفع بدرجة طفيفة لتسجل 36% بحلول عام 2023، وفقا لنفس المصدر.

ويتوقع صندوق النقد أن تصل نسبة الدين الخارجي إلى 38% من الدخل المحلي الإجمالي، في نهاية عام 2021، ثم تبدأ تلك النسبة في الانخفاض لمدة عامين، ثم تدور في الأجل المتوسط حول النسبة الحالية، وذلك بحسب السيناريو الأكثر تفاؤلا في تقرير الخبراء عن اتفاق الاستعداد الائتماني مع مصر، والذي بمقتضاه تقترض مصر مبلغ 5.2 مليار دولار، وتبدأ سداده بعد عام واحد. 

جدير بالذكر أن الصندوق منح مصر هذا الائتمان بشكل استثنائي حيث أنها تجاوزت الحد الأقصى المتاح لها من الاقتراض من الصندوق، لتصبح ثاني أكبر دولة مقترضة من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين.

الإطار 1: تراجع شفافية البيانات المتعلقة بالدين الخارجي

تجدر الإشارة إلى أن البيانات الرسمية المعلنة صارت تعاني من عدم الاتساق، وعدم الترابط والتأخر في النشر بالشهور، وهي كلها من علامات نقص الشفافية. 

على سبيل المثال:

يلاحظ أن هناك تأخر كبير في النشر، بلغ حوالي عاما كاملا في حالة تقرير الوضع الخارجي لمصر الصادر عن البنك المركزي، ويبلغ خمسة أشهر في التقرير الشهري للبنك المركزي.

على نفس المنوال، أعلن البنك المركزي في بيان صحفي عن حجم الديون في سبتمبر 2020 خلال شهر يناير 2021،  أي بتأخير أربعة أشهر. ولم تشمل النشرة الشهرية لشهر نوفمبر، رقم 283، والتي صدرت في نهاية ديسمبر 2020 أي إشارة لرقم الدين الخارجي ولا تفاصيله. و"كشف البنك المركزي المصري، عن ارتفاع الدين الخارجي لمصر بنحو 1.847 مليار دولار خلال الربع الأول من العام المالي الجاري 2020/2021، ليصل إلى 125.337 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضي، مقابل 123.490 مليار دولار بنهاية يونيو 2020”.  ومن المتوقع أن يواصل الدين الخارجى الارتفاع ليصل إلى 139.4 مليار دولار في العام المالى الحالى 2021/2020، وهو ما يمثل 35% من الدخل المحلي للعام الثاني على التوالي بحسب نفس المصدر. 

تشير بيانات البنك المركزي إلى رقم أقل فيما يخص نسبة الدين إلى الدخل الإجمالي، اعتمادا على بيانات تقديرية غير محدثة عن الدخل المحلي الإجمالي. وهو ما يشي بأن البيانات المتاحة لبعض بنوك الاستثمار أكبر من تلك المتاحة للجمهور العام.

الشكل 1: تطور الدين الخارجي خلال عشرة سنوات:

* جميع الأعوام منتهية في يونيو.

المصدر: البنك المركزي، النشرة الشهرية 283، أكتوبر 2020، ص 95.

بناء على ذلك التسارع في الاقتراض الخارجي، زاد نصيب الفرد من الدين بأكثر من الضعف، ليصل إلى حوالي ٩٠٠ دولار للفرد مقابل ٤٠٠ فقط في نهاية العقد الأول من القرن ال٢١. ويرمز هذا الرقم إلى الحمل الذي يولد به الفرد، فعلى كل مصري دين بهذه القيمة عليه سداده من جيبه.

مصادر القروض الخارجية:

تتميز تركيبة الدائنين بالتنوع الكبير، ومن ثم تنوع الشروط وآجال السداد وأسعار الفائدة. إلا أن المعلومات المتاحة عن تلك الشروط غير كافية للحكم على سهولة السداد، فيما عدا القروض من المؤسسات الدولية والسندات، والتي تعلن معدلات الفائدة عليها. وفي حالة المؤسسات الدولية، تعلن معظم شروطها بشرط موافقة الحكومة المصرية وتعلن باللغة الإنجليزية فقط.

ظلت مصر معتمدة على الدول العربية (ودائع السعودية والإمارات والكويت لدى البنك المركزي)، وعلى المؤسسات الدولية مثل البنك والصندوق الدوليين. وذلك وفقا للشكل 3. 

الشكل3: مصادر الاقتراض الخارجي في العام المنتهي في مارس 2020

المصدر: البنك المركزي، تقرير الوضع الخارجي لمصر، العدد 69، يوليو مارس 2020.

حجم القروض الخارجية أكبر مرتين من المعلن

يلاحظ أولا أن حجم القروض الخارجية الجديدة الذي يظهر في الموازنة العامة لا يتجاوز 7 مليار دولار،

بينما زاد الدين الخارجي بحسب بيانات البنك المركزي بمقدار 14.5 مليار في عام 2019-2020 . 

أما المبلغ الإجمالي للقروض الخارجية فأكبر من الرقم المعلن أيضا (البالغ 123.5 مليار دولار)، حيث تضاف إلى هذا المبلغ أذون الخزانة المملوكة من غير المقيمين، وهي قروض بالجنيه المصري قصيرة الأجل، أي واجبة السداد خلال أقل من سنة. 

لكن أولئك المضاربين غير المقيمين حين يستردون قيمة أموالهم، إضافة إلى ما ربحوا من الفوائد، يستبدلون تلك الأموال بالدولارات بغرض تحويلها إلى الخارج. وتسمى تلك العملية حديثا بعمليات المراجحة carry trade، وهي ما كانت تعرف باﻷموال الساخنة، وهي المضاربة التي تستفيد من التفاوتات في معدلات الفائدة بين البلدان. وفي لحظات الأزمات، يكون هؤلاء المقرضين "أول من يترك الحفل"، يلوذون بدولاراتهم لتخلق تلك العمليات نقصا في العملة الصعبة داخل مصر، ومن ثم ضغوطا في اتجاه تخفيض قيمة الجنيه.

وهكذا تخلص الأجانب من 60% من أذون الخزانة التي اشتروها من السوق المصرية، أثناء الإغلاق الجزئي في الفترة بين مارس ومايو 2020، بسبب التخوف من الأخطار الاقتصادية التي قد تصيب العالم مع انتشار جائحة كورونا، مما أدى إلى خروج موارد دولارية تقدر تقريبا بـ 18 مليار دولار. 

إلا أن ارتفاع أسعار الفائدة التي تقدمها السلطات المصرية سرعان ما أغرى الأجانب بالعودة إلى إقراض الحكومة عن طريق شراء أذون الخزانة، سعيا وراء ارتفاع الأرباح (رغم تصنيف مصر بلدا مرتفع المخاطر، إلى جانب جنوب أفريقيا وتركيا)، حيث تمنح مصر أعلى عائد حقيقي على أذون الخزانة بين 50 من دول العالم التي تتابعها وكالة بلومبرج في هذا اﻹطار. كما عزز من ظاهرة العودة توقيع الاتفاق مع صندوق النقد على قرض جديد بمبلغ 5.2 مليار دولار.

وهكذا، تبلغ قيمة القروض بالعملة المحلية المملوكة للأجانب في يناير 2021 ما يعادل  26 مليار دولار، بحسب تصريحات وزير المالية، وهي قروض ينبغي جمعها مع الاقتراض الخارجي، لأن حائزيها غير مقيمين وسدادها يتم بالدولار، ومن ثم يمثل عبئا على سوق الصرف. 

الجدول1: إجمالي القروض التي اقترضتها الحكومة في عام 2020 وفقا لوزارة التعاون الدولي


القطاع المقترض

المبلغ (بالمليار دولار)

الجهة الدائنة

دعم الموازنة

0.64

صندوق النقد الدولي

إسكان اجتماعي وشبكات المياه والصرف

1.42

الصندوق العربي، البنك الدولي، الصندوق   الكويتي، بنك التنمية اﻷفريقي، ألمانيا، البنك الأوروبي

النقل والمواصلات

1.79

الوكالة الفرنسية، بنك الاستثمار الأوروبي، البنك الأوروبي، الصين، الصندوق الكويتي

الكهرباء والطاقة المتجددة والبترول

0.68

الوكالة الفرنسية، بنك التنمية اﻷفريقي، البنك الأوروبي

المشروعات الصغيرة والمتوسطة

0.46

صندوق الأوبك، الصندوق العربي، البنك الدولي، ألمانيا، بنك التنمية الأفريقي

التعليم والتعليم العالي

0.25

الولايات المتحدة، الصندوق السعودي، كوريا، إيطاليا، ألمانيا

التضامن

0.50

البنك الدولي، ألمانيا، إيطاليا

الصحة

0.48

البنك الدولي، الصندوق العربي، الولايات المتحدة،  اليابان، كندا، بنك التنمية الأفريقي

الزراعة والتموين والري

0.10

الوكالة الفرنسية، البنك الأوروبي، الولايات المتحدة، صندوق الأوبك، ألمانيا

البيئة

00.2

البنك الدولي، ألمانيا

أخرى

0.09 

 

المجموع

6.7

 

قروض للقطاع الخاص

3.19

 

المجموع الكلي

9.89

 

المصدر: وزارة التعاون الدولي (يناير 2021)، صياغة المستقبل في عالم متغير، التقرير السنوي 2020، وزارة التعاون الدولي، القاهرة.

https://issuu.com/moic/docs/final_magazine_arabic

ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام: هي انخفاض حصة التعليم والصحة ومساعدات الفقر من إجمالي اقتراض الحكومة الخارجي. حيث يبلغ مجموع القروض الحكومية الخارجية الموجهة إلى تلك القطاعات 1.3 مليار دولار (من نحو 36 مليار دولار)، كما يوضح الشكل 4.

الشكل 4: نصيب التعليم والصحة والتضامن الاجتماعي من القروض الخارجية للحكومة المركزية

تعليق: يلخص الشكل 4 معظم مشاكل الاقتراض الخارجي: حيث يلاحظ أن الحكومة المركزية لا تستفيد سوى بحصة صغيرة من الاقتراض الخارجي، كما يوضح أن القروض لا توجه إلى مشروعات مدرة للعوائد الدولارية،كما لا يوجه إلى أولويات الإنفاق الاجتماعي مثل التعليم والصحة والمساعدات الاجتماعية. 

 ما هي أهم الجهات الحكومية التي تقترض من الخارج؟

يعاب على سياسات الاقتراض الخارجي خلال العقد الأخير أن الحكومة المركزية لم تعد وحدها المسؤولة عن القروض الخارجية، بل عدد من الجهات الحكومية. 

وبالتالي، من ناحية، يصعب تتبع الدين الخارجي، لأن معظمه لا يظهر في الموازنة العامة كما ذكرنا. كما أن البرلمان لا يناقش تلك القروض في كثير من الحالات، ولا تحصل بالتالي على موافقته ولا تحظى بمراقبته، وذلك بالخلاف للدستور.

يوضح الشكل 5 أهم الجهات الحكومية المقترضة من الخارج (بخلاف أذون الخزانة). يلاحظ كيف كانت الحكومة مسؤولة عن أكثر من 90% من الاقتراض الخارجي في عام 2010. أما في عام 2020، فإن الحكومة مسؤولة فقط عن 56.7%.

لا يراقب البرلمان على قروض البنك المركزي ولا البنوك التجارية المملوكة للدولة، كما لا يراقب على الاقتراض الخارجي عبر أذون الخزانة ولا السندات الدولية بأنواعها. 

الشكل5: تنامي ظاهرة الاقتراض عبر مؤسسات حكومية من خارج الموازنة في عشر سنوات

يمنح هذا الوضع ميزة  للحكومة، هي إخفاء الصورة الإجمالية للدين الخارجي، كي يبدو أقل من حقيقته. تبدو المؤشرات أفضل أمام الرأي العام، وأيضا في الحسابات المنشورة لدى صندوق النقد الدولي. ولكن، في المقابل، يعاب على هذا الوضع عدم اتساق سياسات الاقتراض، وتآكل قدرة الحكومة على تحديد أولويات الإنفاق وأخيرا تقليص القدرة التفاوضية للحكومة من أجل الحصول على أفضل الشروط للسداد. 

يمكن من الشكل 5  حساب حجم القروض في عام 2019-2020 التي لا يراقب البرلمان على أوجه صرفها والغرض منها :

قروض البنك المركزي+ البنوك= 11.9 + 27.9= 39.8 مليار دولار في عام واحد.

وجدير بالذكر أن الوضع لم يكن دائما هكذا، حيث كانت الحكومة المركزية  دائما هي المقترض الرئيسي، لأكثر من 90٪ من الدين الخارجي حتى نهاية العقد الماضي كما يوضح الشكل 5.

فخ المديونية والديون الصعبة: 

يعاب على هيكل الدين الخارجي أيضا، إلى جانب اللجوء إلى الاقتراض من جانب مؤسسات حكومية غير الحكومة المركزية، أن القروض الخارجية معظمها قصيرة الأجل، أي تُرَد خلال أشهر، وهو ما يعني أن الدولة تقع تحت رحمة الدائنين بشكل مستمر. فهي تضطر إلى الاستدانة كي تسدد ما اقترضته وهكذا، وهو ما يسمى بـ"فخ المديونية". باختصار، الدولة تقترض من أجل السداد وليس لأغراض التنمية.

يتناقض هذا الوضع مع سياسات الاقتراض الرشيد، حيث يفترض أن تخطط الدولة احتياجاتها التنموية، ثم تقوم بتقدير النقد الأجنبي المطلوب توفيره وفقا لتلك الاحتياجات، ومن ثم معرفة ذلك القدر من الدولارات الذي تحتاج إليه ولا تغطية مواردها الرئيسية من العملة الصعبة، والتي تشمل  الصادرات، وجذب الاستثمارات الخارجية، وعائدات السياحة وتحويلات العاملين في الخارج وقناة السويس.

وقد أعلنت الحكومة عن خطة خمسية لإطالة آجال سداد الدين في عام 2018. وبدأت بالفعل في بيع سندات دولية دولارية لآجال بلغت  5و 7 أعوام، و٣٠ عاما، ثم مؤخرا ٤٠ عاما، وهو توجه محمود، إلا أنه غير كاف، لأن الفائدة التي تدفعها  الحكومة سنويا على تلك السندات هي الأعلى في العالم. وتعكس هذه الفائدة في أحد جوانبها درجة الخطورة العالية (ارتفاع مخاطر عدم السداد، و/أو عدم الثقة في الاقتصاد المصري و/أو تدهور مؤشرات الدين الحكومي). 

إلا أن الشكل6 يوضح أن الأمر لا يسير على هذا النحو، حيث زادت مخصصات سداد القروض الخارجية والتزاماتها المحتملة إلى 50% من مخصصات الاحتياطيات الدولية في سبتمبر 2020 (مقابل 48% في العام السابق). أي أن أكثر من نصف الاحتياطيات الدولية التي يحتفظ بها البنك المركزي موجهة لسداد مستحقات ديون قصيرة الأجل. وإذا كان أحد مؤشرات سلامة سوق الصرف هو عدد الشهور التي تغطيها احتياطيات النقد الأجنبي من اللوازم المستوردة ا، والتي بلغت 8 أشهر وفقا لبيانات البنك المركزي في ديسمبر 2020 ، إلا أنه باستبعاد مستحقات الديون قصيرة الأجل  فإن حقيقة الوضع هي أن المتبقي من الاحتياطيات لا يغطي سوى أربعة أشهر من الواردات.

الشكل 6: أكثر من نصف الاحتياطيات مخصص من أجل سداد الدين المستحق خلال عام

المصدر: البنك المركزي، النشرة الشهرية 286، ديسمبر 2020، ص 60-63.

ورطة السداد

ظل المعلم الأبرز في هيكل المديونية خلال السنوات الستة الماضية هو قصر آجال السداد، واستمر هذا الوضع في العام الأخير.

دائما ما تتفاخر الحكومة المصرية بأن حوالي ٩٠٪ من القروض الخارجية طويلة المدى، لأن هذا علامة على حسن التخطيط وعلى تقسيم أعباء السداد على فترات طويلة. 

ولكن في الحقيقة هذا لا ينطبق بالضبط على الحالة المصرية، حيث تستند الحكومة في ذلك إلى تعريف البنك الدولي، والذي يصف أي دين يرد خلال فترة أكثر من سنة واحدة بأنه دين طويل الأجل.

لذلك، فإن الاستعانة بمؤشرات حكومية أخرى غير هذا التعريف المضلل، تبرز صورة أكثر تركيبا وأكثر تعبيرا عن الواقع.. واقع تزايد أعباء السداد عاما بعد آخر.

متوسط آجال السداد:

بلغ متوسط آجال سداد الدين العام نحو 3.2 عام في يونيو 2020، بدلاً من 1.3 عام فى يونيو 2013، ونحو 1.8 عام في يونيو 2014، ومن المستهدف أن يصل إلى 3.8 عام فى نهاية يونيو 2021، حيث لجأت  وزارة المالية إلى إصدار السندات الدولارية بأنواعها المختلفة كي تطيل من آجال السداد خلال العامين الماضيين بحسب استراتيجية متوسطة اﻷجل للدين. 

إلا أن ذلك النجاح في إطالة متوسط آجال السداد لم يخفف من حجم الدين مستحق السداد خلال عام واحد:

تزايدت المبالغ السنوية التي تخرج من مصر  لسداد أعباء ديونها خلال السنوات الأخيرة، كما يوضح الشكل ٧، وخلال العام المنتهي في مارس ٢٠٢٠  كان على مصر أن تسدد للخارج مبلغا قياسيا يقدر بـ٢٨.٦ مليار دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الصادرات (26.4 مليار في يونيو 2020). و يعادل خمسة أضعاف دخل قناة السويس.

يساوي هذا المبلغ إذا تم حسابه بالجنيهات نحو 3 أضعاف ميزانية التعليم الحالية، وحوالي خمسة أضعاف ميزانية الصحة.

وبالتالي فمخصصات سداد القروض هي موارد كان من اﻷولى أن تبقى في مصر وتوجه من أجل التنمية العادلة والخضراء.

الشكل 7: المبالغ التي تخرج سنويا من مصر لسداد الدين الخارجي

    المصدر: البنك المركزي (2020)، تقرير الوضع الخارجي لمصر، أعداد متفرقة. 

إعادة تدوير الديون: 

بسبب سداد تلك المبالغ الكبيرة سنويا، تضطر مصر إلى إعادة تدوير ديونها أي إعادة الاقتراض من أجل السداد. "هناك نسبة معتبرة من الدين الخارجي تستحق السداد خلال السنوات المقبلة" بحسب صندوق النقد الدولي. منها حلول أجل سداد "ودائع كبيرة مملوكة لثلاثة دول خليجية مودعة لدى البنك المركزي". وتم الاتفاق على تمديد أجل استحقاق  ودائع تقدر قيمتها بـ13.4 مليار دولار، لمدة عام. ويشير صندوق النقد الدولي إلى أن استمرار التمديد في اﻷجل المتوسط من شأنه أن يساعد على تقليل مخاطر التعثر في السداد.  

وبالمثل، يقدر صندوق النقد أن أحد مخاطر الدين الخارجي لمصر أن عليها تدبير مبلغ معتبر خلال العامين الماليين 2023/24 و2024/25 من أجل سداد مستحقات صندوق النقد الدولي، والتي تبلغ 11.5 مليار دولار أو نحو 25% من إجمالي الاحتياطيات الدولية. ويربط الصندوق بين قدرة مصر على السداد وبين استمرار قدرتها على الاقتراض من أسواق المال الدولية. 

وأخيرا، يشير الصندوق إلى أن "حجم الدين الكبير واحتياجات مصر التمويلية من الخارج يجعلها منكشفة أمام تقلبات ظروف التمويل الدولي"، و ذلك حسب البيان الصحفي الذي صدر عقب الزيارة اﻷولى التي قام بها خبراؤه، لتقييم أداء الحكومة بعد الشريحة الأولى من قرض الاستعداد الائتماني. 

ولهذا كله، على الرغم من أن مؤسسات التصنيف تعطي مصر علامة B بأفق مستقر، إلا أن سعر الفائدة مقارنة بباقي الدول الناشئة يعكس موقع مصر مرتفع الفائدة/مرتفع المخاطر.

دور صندوق النقد الدولي في زيادة المديونية الخارجية:

يلاحظ أن صندوق النقد الدولي يشترط على مصر عادة أن تدبر تمويلا خارجيا يفوق ما يمنحه لها من قروض كشرط مسبق كي يوافق على إقراضها. ثم يلعب دورا يسمى بـ"شهادة الثقة"، الذي يعطي ضوءا أخضر لسائر المقرضين الدوليين كي يقرضوا مصر على إثر القرض الذي تأخذه منه. وهكذا نجد قفزات الدين الخارجي الكبرى في 2016، 2017 و2020 تترافق مع توقيع برامج مع الصندوق. 

يوفر طرح السندات الدولية  للحكومة تنويعا في أدوات الدين، وإمكانية تحديد آجال أطول للسداد من معظم أدوات الدين الأخرى.

إلا أن السندات الدولارية المطروحة دوليا لها عيب هو الأخطر، بحكم القوانين المنظمة لها، وهو صعوبة تأجيل السداد أو الامتناع عنه  في أوقات الكوارث الطبيعية والأزمات. ويظهر هذا العيب في لحظات مثل تلك التي تسببت بها جائحة كوڤيد-19 في كل دول العالم وخاصة الدول النامية، مثل مصر، حيث يشكل عقبة في إعادة هيكلة الدين، أو تجميد مؤقت لسداده في أوقات اﻷزمات الكبيرة.

وفي الفترة مارس 2019 إلى مارس 2020، أي قبل أزمة كورونا، بلغ حجم السندات الدولية في مصر 18% من إجمالي القروض، وهي نفس النسبة تقريبا للعام السابق، وهي ضعف نسبتها مقارنة بعام  2010. 

استنتاجات:

اعتمدت مصر على الاقتراض الخارجي لمواجهة تبعات كورونا، والتي تضمنت باﻷساس خروج المضاربين في أوراق الدين العام قصير اﻷجل، وكذلك ضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي وإيرادات السياحة. وكانت أهم أدوات الاقتراض هذا العام هي أذون الخزانة (قصيرة اﻷجل) والتي بلغت 26 مليار دولار في يناير 2021، يليها صندوق النقد الدولي والذي بلغ حوالي 8 مليار دولار. وأدى ذلك الاقتراض إلى حماية قيمة الجنيه المصري من الانخفاض.

قفز الدين الخارجي قفزة كبيرة (لا يظهر سوى نصفها في البيانات المنشورة عن البنك المركزي). وتنوعت آجال سداده. ووصلت نسبة الدين الخارجي إلى الدخل المحلي 35%. كما كان سعر الفائدة على الدين اﻷعلى عالميا (ضمن مؤشر بلومبرج الذي يضم 50 دولة ناشئة)، وهو ما يعكس معدلا عاليا لخطر التعثر في السداد.  

أحرزت مصر في مارس 2020 (قبل أزمة كورونا) رقما قياسيا في المبلغ المستحق سداده للعالم الخارجي، وهو 28 مليار دولار. ورغم تنوع هيكل الدائنين وتمديد متوسط آجال السداد، إلا أن نسبة كبيرة من رصيد الدين ما زال قصير اﻷجل. وتتزايد أعباء السداد خلال السنتين القادمتين.

توصيات:

1- تراكم الدين الخارجي في شكل قفزات خلال السنوات العشرة الماضية. وتزداد الحاجة إلى مزيد من الشفافية والرقابة والمحاسبة على أوجه إنفاقه، حيث تتباين وتتعدد الاحتياجات التنموية. كما ينبغي إعادة فتح النقاش العام للمفاضلة بين الديون الخارجية والديون الداخلية.

2- إعادة ملف الديون الخارجية إلى يد الحكومة، ووضعه تحت إشراف البرلمان، بحيث لا ديون خارجية بدون استئذان البرلمان، أيًّا كانت الجهة المقترضة، على أن تقدم إلىه خطة للسداد وخطة لاستخدام الأموال.

3- وضع خطة خمسية معلنة مسبقا للمشروعات المراد تمويلها بالاقتراض الخارجي، وخطة موازية لتنمية الموارد الدولارية التي تتيح السداد، يقرها البرلمان في تشريع، وتحاسب الحكومة على درجة التزامها بتلك الخطة.

4- وضع سقف قانوني للاقتراض الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (في فترة حكم مبارك كانت موجودة بدون التزام تشريعي)، وسقف آخر لاقتراض البنك المركزي الخارجي (كنسبة من الاحتياطيات).

5- إعادة هيكلة الدَّين الخارجي بغرض إطالة آجال السداد، والعودة إلى نسبة 90% ديون طويلة الأجل، أي التي تسدد على أكثر من خمس إلى عشر سنوات، منخفضة الفائدة (الديون السهلة). وذلك بدلًا من الخطة الحالية التي علق عليها نائب وزير المالية لرويترز بأن متوسط آجال الدَّين العام (داخلي + خارجي) لا يتعدى عامين، وأن هدف الحكومة هو إطالة الأجل إلى ثلاث سنوات ونصف. ولكن تلك الخطة تُبقي متوسط آجال الدَّين أقل من المرغوب به، لأن أعباء السداد تزاحم الموارد المتاحة للتنمية والعدالة الاجتماعية.

6- نشر شروط القروض وشروط سدادها. حتى الآن، لا نعرف مدى صعوبة شروط السداد في ثلثي الحالات (باستثناء القروض من الصندوق والبنك الدوليين وعدد من المؤسسات الدولية)، لأن البيانات الخاصة بتلك الشروط لا تُنشر، والتي تشمل فترة السماح قبل بدء السداد وعدد سنوات (آجال) السداد وسعر الفائدة.

7- معظم البيانات الرسمية المعلنة حتى بداية العام الجاري 2021، تتوقف عند مارس 2020، وبعضها يمتد إلى يونيو 2020، مما يعني تأخرا لا يقل عن ثمانية أشهر (وقت إعداد الدراسة)، ولا توجد بيانات مجمعة سهلة الفهم عن الدين الخارجي. ويجدر تحسين شفافية وانتظام النشر التزاما بالمعايير الدولية.

  •