
المحاكمات عن بُعد: قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء
بيان صحفي
في نهاية سبتمبر 2025 قرر رئيس الجمهورية عدم التصديق على مشروع قانون الإجراءات الجنائية، ورده إلى مجلس النواب لبحث الاعتراضات على مواده، بعد خمسة أشهر مع موافقة المجلس النهائية على المشروع المعيب في 29 أبريل الماضي.
حين عقدت آخر الجلسات العامة للمجلس في 23 فبراير، التي خصصت لمناقشة مواد مشروع القانون والتصويت عليها، وافق مجلس النواب على كل مواد الفصل المنظم لإجراءات التحقيق والمحاكمة عن بُعد (بداية من المادة 525 وحتى المادة 531). ولعل هذا الفصل هو الأخطر على الإطلاق في مشروع القانون، إذ أنه يستحدث إطارًا جديدًا تمامًا يهدف إلى تنظيم التقاضي عن بُعد أو التقاضي الإليكتروني، والذي بدأ اختباره عمليًا للمرة الأولى عام 2021 بعد جائحة كورونا. غير أن هذا الفصل لا يوجد مثيل له للقياس عليه في قانون الإجراءات الجنائية الساري أو في أي تشريع مصري آخر.
خطورة هذا الفصل ونصوص مواده بالشكل الذي خرجت عليه، هو أنها تسمح بترسيخ الوضع الذي بدأ كاستثناء ارتبط بصعوبة إجراء جلسات تجديد الحبس أثناء فرض الإجراءات الاحترازية وقت جائحة كورونا، ثم تحول هذا الوضع الاستثنائي إلى أساس سائد في أحد أوجه عمل منظومة العدالة الجنائية، وهو جلسات تجديد الحبس الاحتياطي والتي أصبحت تُعقد بالكامل عن بُعد منذ أكتوبر 2021.
يجيز نص المشروع المرفوض للقاضي إجراء جلسات الاستماع والمحاكمة والتحقيق وكل ما يتعلق بإجراءات العدالة الجنائية عن بُعد. فتنص المادة 526 على أن "يجوز لجهة التحقيق أو المحاكمة المختصة بحسب الأحوال اتخاذ كل أو بعض إجراءات التحقيق أو المحاكمة عن بُعد مع المتهمين، والشهود، والمجني عليه، والخبراء، والمدعي بالحقوق المدنية والمسؤول عنها".
إلا أن الممارسة العملية تخبرنا بأن النص بشكله الحالي وبدون قيود واضحة، يفتح الباب لاستبدال منظومة القضاء في شكلها الأصلي بمنظومة إلكترونية تنتقص من حقوق المتهمين في المحاكمة العادلة والنزيهة، كما تنتقص من تكافؤ الفرص مع الخصوم بشكل صريح، ولا تستخدم الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا لزيادة حقوق المتهم، أو لتسهيل النفاذ إلى العدالة وتحقيق مبادئ الشفافية والعلانية، تمامًا كما حدث مع جلسات تجديد الحبس التي أصبحت تنعقد بالكامل وبنسبة 100% عن بعد، وبشكل مثل انتقاصًا حادًا من حقوق المتهمين في مصر.
ومن بين هذه الانتهاكات التي عرضها المحامون في مائدة مستديرة عقدتها وحدة أبحاث القانون والمجتمع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في ديسمبر 2021: صعوبة تعامل القضاة وسكرتارية المحكمة مع المنصة الخاصة التي يظهر من خلالها المتهم في محبسه، وعدم سماع المتهم لما يجري في مكان انعقاد الجلسة، والعكس أحيانا، وعدم ظهور المتهم بشكل واضح وثابت ورائق يسمح للقاضي بمراقبته عن كثب والاستماع إليه، وعدم قدرة المحامي على التواصل مع المتهم بشكل خاص ومؤمّن، وعدم قدرة المتهم على متابعة عمل المحامي وتمثيله إياه بأمانة وبما يعبر عن مصالحه، وعدم وضوح ظروف المتهم ومن بصحبته في مكان عرضه داخل محبسه، وعدم السماح بوجود محام آخر بصحبة المتهم، وتعذر سير الجلسات بانسيابية ويسر بسبب ضعف الشبكات.
ترى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ضرورة أن يُنص القانون صراحًة على أن المحاكمات الإلكترونية أو إجراءات التحقيق والمحاكمة عن بُعد هي استثناء يمكن اللجوء إليه في ظروف بعينها، خاضع لقيود مشددة، ولا يمكن اللجوء إليه في غير تلك الحالات المحددة مهما بلغت درجة الضرورة، كأن يُحظر اللجوء إليها في المحاكمات الجنائية حين تكون حياة أو حرية المتهم معرضة للخطر وبشكل خاص في المحاكمات على اتهامات قد تؤدي إلى الإعدام. كما يجب أن يضع القانون العبء في المقام الأول على عاتق جهة التحقيق والمحاكمة التي ترغب في اتخاذ إجراء من إجراءات التحقيق أو المحاكمة عن بعد، بحيث تكون هي الطرف الذي يُجوز له طلب انعقاد الجلسات عن بُعد، شريطة إيجاد أسباب مقنعة لهذا الطلب، وأن يخضع ذلك في كل مرة لموافقة جهة قضائية أعلى بصفته طلبًا استثنائيًا.
وقد اقترح أكثر من نائب في مجلس النواب أثناء المداولات البرلمانية صياغات بديلة متعددة في هذا الفصل، تضمن أن تستمر المحاكمة بشكلها الأصلي الذي يضمن نزاهة المحاكمة وتكافؤ الفرص وشرط العلانية، وأن لا تسري أحكام الفصل الأخير إلا في ظروف القوة القاهرة أو لأسباب يتم تبيانها في كل حالة على حدة، مثل تلك المتعلقة بحماية الشهود في قضايا بعينها.
لكن المجلس رفض كل طلبات النواب لتعديل صياغة المواد بحيث تقتصر المحاكمات عن بُعد على ظروف بعينها. ويمكن اختصار الكثير من منطق دفاع أغلبية أعضاء المجلس عن النص بشكله الحالي في رد وزير الشؤون القانونية والنيابية والتواصل السياسي في آخر جلسات التصويت والتي انعقدت في شهر فبراير حين قال ""لن نستطيع إيقاف عجلة التطور، العالم أجمع يتجه نحو الاعتماد على التكنولوجيا".
كيف استفادت باقي دول العالم من "عجلة التطور"؟
تحتوي مداخلة الوزير التي أبرزتها الصحف والمنصات الإعلامية على جزء من الحقيقة، ولكنها تغفل مجموعة مهمة من الحقائق. صحيح أن استخدام تقنيات الاتصال عن بُعد أصبح أمرًا واقعًا وجزءً لا يتجزأ من منظومة العدالة الجنائية في الكثير من دول العالم التي سبقت مصر في تنظيمها ووضع ضوابط قانونية مشددة لها. والحاجة إلى تنظيم استخدام تقنيات الاتصال عن بُعد في مرفق العدالة أصبحت ضرورية منذ بدأت السلطات القضائية في اللجوء إليها بالفعل في أكتوبر 2021 بدون وجود إطار قانوني منظم، أو أي سند قانوني يذكر، حتى أصدر وزير العدل القرار رقم 8901 لسنة 2021 في ديسمبر من نفس العام والذي وفر غطاء تشريعيًا محدودًا لعمليات تجديد الحبس إليكترونيًا.
غير أنه حتى في الدول التي سبقتنا في إدخال تقنيات الاتصال عن بُعد في منظومة التقاضي والتي يمتلك بعضها بنية رقمية وتكنولوجية أكثر استقرارًا وتطورًا من المتوفرة لدينا في مصر، لم يتم استبدال الأصل، أي حضور المتهمين بنفسهم ومثولهم أمام قاضيهم وخصومهم وإمكانية مناظرة ومناقشة الخصوم الشهود بنفسهم بالكامل. ولا نجد حتى الآن نموذجًا تشريعيًا يصبح فيه الأصل هو جواز إجراء كافة إجراءات التحقيق والمحاكمة وسائر العملية القضائية عن بُعد بدون موافقة مسبقة من كل أطراف المحاكمة، مع استبدال تلك الموافقة بالنص على حق المتهم أو محاميه في الطعن اللاحق على قرار إجراء المحاكمة عن بعد. هذا النوع من قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء، بحيث يتحول الاستثناء إلى الأصل، قد يتحول إلى إنجاز تشريعي يتفرد به القانون المصري إذا مر قانون الإجراءات الجنائية بشكله الحالي، والذي يحتوي على عدة أمثلة أخرى في أكثر من موضع على تحويل الاستثناء إلى الأصل. والمقصود بالأصل هنا هو الإطار العملي الطبيعي الذي يضمن نزاهة وسلامة الإجراءات وحقوق كل أطراف التقاضي وتكافؤ الفرص ما بينهم، في حين أن الاستثناء هو أي إجراء بديل على ذلك الأصل من ِشأنه أن يقوض من تكافؤ الفرص وحق المتهم في المثول أمام قاضيه ومناقشة خصومه. فلا يجب أن يقع عبء الالتزام بالأصل على المتهم ومحاميه أن بتقديم طلبات أو طعون تخضع لموافقة وتقدير موافقة السلطات القضائية - وإنما يفترض أن يقع هذا العبء على من طلب اللجوء للإجراء الاستثنائي.
لم تتطرق اعتراضات رئاسة الجمهورية إلى المواد المنظمة للمحاكمات عن بعد رغم خطورتها. وقررت اللجنة العامة لمجلس النواب عند مناقشتها للاعتراضات أن تقتصر مناقشات المجلس للمواد الثمانية التي تضمنتها رسالة رئيس الحمهورية دون مراجعة شاملة لمشروع القانون وباقي مواده المعيبة رغم المطالبات الحقوقية المتكررة باستغلال هذه الفرضة التاريخية لمراجعة المشروع بأكمله.
في الكثير من الدول التي نحاول اللحاق بركب التطور التكنولوجي كما أوضح وزير الشؤون القانونية المستشار محمود فوزي، سمحت المحاكمات عن بُعد لنظام العدالة أن يستمر فاعلًا في لحظة شديدة الاستثناء، وهي الطوارئ المرتبطة بجائحة كورونا والتي تسببت في إغلاق العديد من المرافق العامة لفترات مختلفة في كل بلد، كما سمحت للمزيد من المشاركة المجتمعية في جلسات المحاكمة العلنية. وقد تابعنا على مواقع التواصل كيف استخدمت الأجهزة القضائية تقنية الفيديو كونفرنس لإجراء جلسات محاكمة بل واجتماعات للمسؤولين الحكوميين، ما سمح باستمرار نظام الحكم ومرفق العدالة في العمل أثناء الغلق الإجباري الذي مرت به نُظم التقاضي في عدة دول. ويجدر هنا ذكر أن واحدًا من الأسباب التي أدت إلى انتشار مقاطع عدة من جلسات المحاكمة الافتراضية في العامين 2020 و2021 هو المواقف الطريفة التي نتجت عن المشاكل التقنية أو الأخطاء البشرية المتكررة في المحاكمات عن بعد. نستحضر هنا مثالين لواقعتين من المحاكمات عن بُعد اتسمتا بالطرافة وحصلتا على اهتمام واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، ولنتذكر كذلك أن قدرتنا على مطالعة هذه الوقائع سببه في المقام الأول أن الجلسات المنعقدة عن بُعد سمحت للجمهور أو لعدد أكبر من الحضور بالمشاركة عن بُعد ولنشرهم بشكل علني على مواقع التواصل الاجتماعي - أي أن الطفرة التكنولوجية استخدمت بالأساس للتوسع في العلانية والشفافية وهو ما لا يتوقع أن يطبق في مصر حيث تتجه المنظومة القضائية بشكل متزايد إلى إلغاء شرط العلانية.
في الواقعة الأولى دخل أحد المحامين إلى جلسة محاكمة افتراضية منعقدة عن بُعد في محكمة جزئية بولاية تكساس الأمريكية، ولم ينتبه إلى أنه كان قد قام بتفعيل "فلتر" أظهره في شكل قطة منزلية. ويبدو أن السبب في ذلك كان تفعيل واحد من أطفاله في وقت سابق للفلتر على تطبيق الاتصال عن بُعد المستخدم للمشاركة في الجلسة الافتراضية. وقد فشل المحامي في تعديل الوضع أو إلغاء الفلتر المستخدم لعدة دقائق، وبدا عليه التوتر ما دفعه لأن يقول "أؤكد لك سيادة القاضي أنني محاميًا ولست قطًا"، وهي الجملة التي خلدت هذه الواقعة - حتى ساعده رئيس الجلسة بنفسه في إرشاده لكيفية إلغاء تلك الخاصية على تطبيق زووم.
تكثر الأمثلة التي تحتل فيها القطط موقعًا بارزًا من الجدال حول استخدام تقنيات الفيديو كونفرنس في الاجتماعات الرسمية والجلسات القضائية. في واقعة مشابهة، سابقة على جائحة كورونا، شارك أحد الوزراء الباكستانيين في مؤتمر صحفي كان يُبث على الهواء مباشرة على أحد تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي وهو يظهر على شكل قط، ولم ينتبه إلى هذا الخطأ لفترة طويلة فيما يبدو حتى تحول إلى "ميم" واسع الانتشار. والسبب في ذلك الانتشار الواسع لهذا المقطع الذي أدى إلى تحول الموقف برمته إلى ظاهرة إنترنتية - هو أن البث المباشر عبر الانترنت لوقائع جلسة رسمية كان يستخدم لتوسيع المشاركة المجتمعية وإشراك عدد أكبر من المواطنين في هذه الفعالية وليس لإضافة المزيد من العقبات أمام المواطن العادي.
ليست كل الوقائع ذات الصلة بذات الدرجة من الطرافة. فهناك وقائع أخرى تدلل على الأثر السلبي الملموس لغياب التواصل الإنساني المباشر وعدم حضور كل الأطراف في نفس المكان الذي تتساوى فيه كافة الأطراف - أي في حرم المحكمة نفسه - بل وعلى المخاطر الكامنة لتغييب الضمانات التي يحققها مثول كافة الأطراف أمام القضاء بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس الافتراضي. في واقعة أخرى تعود إلى مارس 2021 حين كانت إجراءات التباعد الاجتماعي ما زالت تطبق في مؤسسات الدولة في عدد كبير من دول العالم، انعقدت جلسة إجرائية في محكمة جنائية أمريكية للنظر في قضية عنف منزلي، وأثناء انعقاد الجلسة عبر تطبيق زووم فطنت ممثلة الادعاء لحقيقة أن المتهم، والذي كان مطلق السراح وقتذاك، كان متواجدًا في نفس المنزل الذي تتواجد فيه الضحية أو الشاكية في مخالفة لشروط إخلاء سبيله، وأن كل منهما يشارك في الجلسة عبر الهاتف الخاص به ولكن من نفس المنزل. وقد فطنت ممثلة الادعاء لذلك فيما يبدو من الخوف البادي على الشاكية والتي كانت مترددة في الإجابة على الأسئلة التي وجهها لها القاضي. وتمت مواجهة المتهم وسؤاله عن مكان مشاركته في الجلسة الافتراضية، فارتبك بدوره وادعى أن الهاتف الذي ولج منه إلى الجلسة الإفتراضية على وشك أن يفقد الاتصال - فتم إرسال قوة من الشرطة إلى منزل الضحية والقبض على المتهم لمخالفة إجراءات إخلاء السبيل وهو ما حدث بسرعة شديدة وأثناء استمرار انعقاد الجلسة افتراضيًا وعلى مرأى من الجميع - وقد حازت هذه الواقعة على تغطية إعلامية واسعة وقتذاك، ;كما أن تسجيًلا مصورًا للجلسة كان متوفرًا لفترة على قناة اليوتيوب الخاصة بدائرة المحكمة التي انعقدت بها الجلسة والتي تنشر وقائع بعض الجلسات العلنية أثناء انعقادها. .
أحد مواضع الاختلاف الرئيسية بين النقاش حول التوسع في استخدام المحاكمات الافتراضية وكيفية تنظيمها وتقييدها في الحالات السابق ذكرها مقارنة بمصر، هو أن التوسع الذي حدث بسبب جائحة كورونا في الكثير من الدول كان أحد أهدافه، كما رأينا في الأمثلة السابق ذكرها، تذليل العقبات وتوسيع المشاركة وزيادة العلانية في المحاكمات. وكما تقول التوجيهات الإرشادية المبدئية التي نشرتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة:"فخلال الجائحة سمح اللجوء للمحاكمات عن بُعد لنظام العدالة أن يستمر فاعلًا. ويمكن لجلسات المحاكمة هذه أن تساهم في تحسين فرص الوصول إلى العدالة وكفاءة المؤسسات القضائية، وضمان سلامة الضحايا والشهود، كما يمكن لها أن تكون شكلا من أشكال التيسير المعقول للأشخاص ذوي الإعاقة".
ومع ذلك، ما زال هناك جدل واسع على المستويات السياسية والتشريعية، بل والبيروقراطية داخل مرفق العدالة. في الكثير من الدول التي تحاول تنظيم هذه المسألة حول تحقيق التوازن المطلوب بين استخدام التكنولوجيا من أجل تذليل العقبات وحماية جوهر العدالة، بحيث لا تتأثر حقوق المواطنين في ظروف بعينها بعدم القدرة على عقد المحاكمات حضوريًا. وبحيث لا تلغي أهمية التواصل الإنساني المباشر والتعاطف الإنساني مع أطراف القضية، وهو الأمر الذي يحتاجه القضاة بشكل خاص، ويصعب تحقيقه في اجتماعات زووم والمداخلات الافتراضية.
ما زال الأصل هو الحضور في أغلب دول العالم - على المستوى العملي والتشريعي. والبعض قد توسع في استخدام الجلسات الافتراضية في الجلسات المختصة بالقضايا المدنية دون غيرها، على سبيل المثال، أو الجلسات التي لا تحتوي على تقديم أدلة أو مساءلة للمتهمين أو حضور للشهود (جلسات الموضوع). ولا يوجد دليل على أهمية التواصل الإنساني المباشر أبلغ من أن الحكومات المتعددة - بما فيها الحكومة المصرية بطبيعة الحال - تراجعت عن إجراء الاجتماعات الوزارية عبر تقنية الفيديو كونفرنس بعد تجاوز الظرف الاستثنائي المرتبطة بالجائحة. فلا يفهم إذًا وجه الاعتراض على النص بشكل صريح على أن تكون المحاكمات عن بُعد مقيدة في قانون الإجراءات الجنائية الجديد بظروف قهرية مثل الجوائح، أو لحماية الشهود في القضايا شديدة الحساسية، أو لتيسير مشاركة الأشخاص ذوي الإعاقة. والنص على أن بعض أوجه المحاكمة بعينها لا يمكن أن تنعقد إلا بحضور المتهمين والمدعين بشكل فعلي.
قد يرى البعض أن تخوفنا من أنه، بدون النص على هذه القيود والضمانات بشكل صريح في القانون، ستتحول المحاكمات عن بُعد إلى الأصل مبالغًا فيه. ولكنه خوف مدعوم بخبرة جلسات تجديد حبس المتهمين التي تحولت في غضون سنة واحدة إلى منظومة افتراضية بالكامل، تتعدد فيها الانتهاكات وتنعدم فيها تمامًا مبادئ العلانية وتكافؤ الفرص كما ورد أعلاه. بالإضافة إلى تغييب الشهود والمصادر التي تستند إليها الأجهزة الأمنية في تحرياتها في قضايا أمن الدولة بالكامل منذ سنوات - أي أن لدينا شواهد عدة على سهولة تحول الاستثناء إلى القاعدة إذا فتح القانون الباب لذلك ولم يضع الضوابط الكافية.
ولهذا، ومن أجل إعادة قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء بحيث تتخذ التكنولوجيا مكانها الطبيعي كعامل مساعد وميسر، وليس عقبة إضافية، نقتبس بعضًا من أهم الأفكار والتوصيات التي تقدمها التوجيهات الإرشادية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان:
-
ينبغي أن يخدم قرار عقد المحاكمة عن بُعد عن بُعد هدفًا مشروعًا وأن يستند إلى تقييم قضائي لمدى ملاءمة المشاركة عن بُعد مع مراعاة خصائص القضية ومصالح أطرافها. ويشمل ذلك تحديد أي عوامل تؤثر على قدرة الأشخاص على المشاركة بفعالية، وينبغي أن يتضمن القرار ذلك تعديلات إجرائية إذا لزم الأمر؛أي أنه الاستثناء وليس الأصل. ولا تعد مجرد سهولة إجراء المحاكمة عن بُعد أو توفير نفقات انتقال المتهمين للمثول أمام قاضيهم غرضًا مشروعًا.
-
بمجرد القبض على شخص أو احتجازه، يجب إحضاره على الفور للمثول "جسديًا" أمام قاض، وهذا حق لا يقبل أي استثناء. ويجب أن يكون الحضور أمام القاضي تلقائيًا ولا يتوقف على اختيار الشخص المعني.
-
المحاكمات الجنائية بشكل عام (خلافًا للمدنية أو الإدارية) يجب أن تعقد دائمًا بحضور المتهم ومثوله أمام القاضي، ولا يجب أن تنعقد عن بُعد إلا استثنائيًا ولأحد الظروف القهرية المبينة في التوجيهات الإرشادية وبعد موافقة حرة ومبنية على معرفة بالإجراء من قبل المتهم (ما يعرف بالموافقة الحرة والمستنيرة).
-
أي جلسة تحتاج إلى تحقيق شرط العلانية من أجل اكتمال الإجراءات يجب ألا تتم عن بعد، ويسمح استثناءً بالعقد عن بُعد لجلسات التي لا تحتاج إلى شرط العلانية. على سبيل المثال " لا ينطبق شرط علانية المحاكمة بالضرورة على جميع إجراءات الطعن أو النظر في طلبات الاستئناف، ففي بعض الأحيان تتم هذه الإجراءات على أساس الدفوع المكتوبة. ولذلك، يمكن عقد بعض جلسات النظر في الطعون الجنائية عن بُعد رهنا بالشروط والضمانات" الواردة في المبادئ. حتى الجلسات الإدارية والنظر في الطعون ذات الطابع المدني أو الإداري يجوز أن تتم عن بُعد بدون الافتئات بشكل مبالغ فيه على حقوق المتقاضين، خلافًا لأي جلسات تحتوي على أي تقييم أو نظر في مسائل الإدانة والبراءة والتي يحق للمتهم بشكل شخصي فيها الحضور ومطالعة الأدلة ومناقشة أو مناظرة الخصوم. في مثل هذه الجلسات، ينبغي للمحكمة أن تشترط موافقة صريحة وحرة ومستنيرة من المتهم لعقد الجلسة عن بُعد رهنًا بالشروط والضمانات (التي تعددها التوجيهات الإرشادية). ما يعني أنها لا يمكن أن تنعقد عن بُعد إلا في حالات استثنائية.
-
عقوبة الإعدام: أي جلسة محاكمة أو أي جلسة استماع ترتبط بمحاكمة قد تؤدي إلى عقوبة الإعدام، يجب أن تنعقد دائمًا في حضور المتهم شخصيًا، وذلك احتراما لضمانات المحاكمة العادلة بالنظر إلى طبيعة عقوبة الإعدام التي لا يمكن الرجوع فيها. وزيادة احتمال حدوث أخطاء إجرائية وتقنية في الجلسات المنعقدة عن بُعد تجعل مثل هذه الجلسات غير مقبولة في القضايا التي تنطوي على عقوبة الإعدام.
وفي جميع الأحوال، وأيًا كانت الظروف التي تنعقد تحتها جلسات محاكمة أو استماع عن بعد، فيجب أن تخضع دائما لمجموعة من الاعتبارات والقيود التي أوضحتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، مثل: ضمان الوصول الفعال إلى المشورة القانونية قبل المحاكمة وأثناءها وبعدها، بما في ذلك توفير وسيلة اتصال آمنة وسرية بين المتهم ومحاميه. وضمان أن يتمكن المتهم أو محاميه من فحص الأدلة وتقديمها أثناء المحاكمة. وضمان تعليق إجراءات المحاكمة عند حدوث انقطاع في الاتصال الإلكتروني إلى أن يتم حل المشكلة، وذلك من ضمن حوالي عشرة ضمانات أخرى تقدمها المفوضية السامية لحقوق الإنسان باعتبارها الحد الأدنى المقبول في التنظيم القانوني لانعقاد المحاكمات عن بعد، والتي نستعرضها في الترجمة غير الرسمية التي ننشرها على هذا الرابط.
للاطلاع على التوجيهات الإرشادية الصادرة عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان اضغط هنا