أربعة مبادئ حاكمة قبل مراجعة مشروع قانون الإجراءات الجنائية

بيان صحفي

25 سبتمبر 2025

ورقة موقف 

 

على مدار عام كامل، منذ بدء تداول مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد في أغسطس 2024 وحتى تصويت مجلس النواب  بالموافقة عليه في أبريل 2025 دون أي تعديلات حقيقية على محتواه، أسهب المحامون والحقوقيون والفقهاء القانونيون، وأعضاء  مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية ونواب في البرلمان والخبراء الأمميون في تفصيل أسباب رفض مشروع القانون، والمطالبة بإرجاء مناقشته في البرلمان، وتوسيع قاعدة المشاركة المجتمعية في تعديل وتنقيح نصوصه عبر عقد جلسات استماع لكافة الأطراف من أصحاب المصلحة. لم تنجح كل هذه المساعي في إثناء مجلس النواب عن تمسكه بكل نصوص القانون المعيبة. 

وبينما رحبت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية - ضمن ائتلاف واسع من المنظمات الحقوقية المصرية والدولية- بقرار رئيس الجمهورية المعلن في 21 سبتمبر 2025، معلناً رفض التوقيع على القانون وإعادته  لمجلس النواب "لبحث الاعتراضات" على عدد من مواده، فإنها تشدد على أن المجلس لديه  فرصة نادرة لإعادة النظر في فلسفة القانون الإجمالية، وليس فقط في تعديلات هنا وهناك لنصوص بعض المواد. وذلك في سبيل خلق توافق مجتمعي وسياسي حقيقي حول هذا القانون الذي يعتبر مكملًا للدستور والعمود الأساسي لمرفق العدالة الجنائية.

 وبخلاف التحليلات القانونية المفصلة التي أوضحت أوجه العوار والخطورة المختلفة في مشروع القانون، فثمة إجماع على أن مشكلته الرئيسية- حتى  وإن  احتوى على بعض المواد الإيجابية - أكبر من مجرد مادة قانونية تشوبها عيوب أو تنقصها ضمانات؛ بل  المشكلة في فلسفة القانون الحاكمة ذاتها، والتي يمكن اختصارها في رغبة سياسية وأمنية في ترسيخ وتقنين وتأبيد الأوضاع القائمة، بما فيها من انتهاكات ممنهجة وعيوب هيكلية عصفت على مدى الأعوام الماضية بمنظومة العدالة الجنائية في مصر وأهدرت حقوق المتقاضين، وخاصة المتهمين منهم، بجريمة جنائية.

إن قانون الإجراءات الجنائية لا يُعنى فقط بتنظيم الأطر القانونية والإجرائية التي يعمل بداخلها القضاة ومؤسسات إنفاذ القانون، ولكنه معنى كذلك بضمان حقوق المتقاضين والمتهمين بجريمة جنائية أو المعرَّضين للمساءلة القانونية. بل إن أغلب مواد القانون - كأي قانون للإجراءات الجنائية- تدور في حقيقة الأمر حول تنظيم قواعد معاملة المواطن المتهم بجريمة لم تثبت إدانته بارتكابها بعد. من المنطقي إذن أن يكون الشاغل الرئيسي للمشرع عند التصدي لمهمة كتابة هذا القانون، هو كيفية تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وحماية حقوق المواطنين في كافة مراحل المحاكمة. لكن مشروع القانون كما أقره البرلمان في أبريل 2025 قام -عمدًا- بعكس ذلك بالضبط، فقلل من ضمانات المحاكمة العادلة وضاعف من صلاحيات سلطات التحقيق ومأموري الضبط القضائي على حساب المتهمين ودفاعهم، ضاربًا عرض الحائط في عدد من مواده بمبدأ افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته -  والذي يكاد يتوارى إلى حد الاختفاء في مشروع القانون.

إن السبب الوحيد المقبول - إذا كان هناك سبب- يستدعي استبدال قانون الإجراءات الجنائية بالكامل واستحداث إطار قانوني أحدث، هو أن يهدف القانون الجديد إلى تغيير الأوضاع القائمة إلى الأفضل، وتحديث مرفق العدالة المصرية بالشكل الذي يليق بميراثه العريق وبالمعايير الدولية الدنيا للحق في المحاكمة العادلة وقواعد إدارة العدالة؛ وليس  ترسيخ التراجع المروع الذي شهدته مؤسسات العدالة عن أهداف القانون القائم. عند إقراره قبل 75 عامًا، كان قانون الإجراءات الجنائية وقت صدوره سنة 1950،  وقبل التعديلات المدخلة عليه بعد 1952، يُنظر إليه باعتباره تشريعًا تقدميًا يضاهي بل ويتفوق على نظرائه في بعض باقي دول العالم. ومن حق المصريين ألا يقبلوا أقل من ذلك في  قانون جديد يصدر بعد قرابة قرن.  ومن هنا فإن الدستور المصري الصادر عام 2014 يجب أن يكون هو الأرضية التي ينطلق منها المشروع ليضيف إليها  طبقات إضافية من  الحمايات الدستورية والضمانات القانونية، استنادًا إلى التطورات المتلاحقة في فقه القانون الجنائي، وفي الاتفاقيات والمعايير الدولية.

من هذا المنطلق  نطرح هذه المبادئ الأربعة الحاكمة  والتي يجب أن تكون في قلب فلسفة أي تعديل لمنظومة القواعد والإجراءات الجنائية، بعيدًاعن  ترسيخ الأوضاع القائمة أو ترقيع ما هو موجود: 


1- الفصل بين السلطات وتعزيز الرقابة المتبادلة بين المؤسسات القضائية 

 

  • كان النظام الإجرائي القائم على فلسفة قانون 1950 الأصلية يضمن وجود "هرم إجرائي" تختص فيه كل سلطة قضائية بإجراءات محددة، وتخضع للرقابة والفحص من سلطة قضائية أعلى، ويسمح بالرقابة والمراجعة من اختصاصات قضائية مختلفة. تغير هذا الوضع بالكامل في تعديلات عديدة أدخلت على القانون القائم. ثم جاء مشروع القانون الجديد ليرسخ هذا الوضع، ويتوسع في منح سلطات إضافية للنيابة العامة دون أن يضع أية آليات للرقابة والمحاسبة على عملها. إن إعادة وضع مبدأ الفصل بين السلطات وتعزيز الرقابة المؤسسية في قلب عملية صياغة التشريع الجديد، قد لا تحقق بالضرورة العودة إلى الإطار القانوني الأصلي الذي أسس لوجود قضاة تحقيق مستقلين وغرفة اتهام منفصلة عن سلطة التحقيق؛ ولكنها قد تسهم في  تقييد سلطات النيابة والتأكيد على إشراف القضاة الجزئيين على أي إجراء يمس الحقوق اللصيقة بشخص المواطن بدون استثناءات (كتلك الواردة في المادة 116 من مشروع القانون بشأن مراقبة الاتصالات). فضلًا عن إلغاء أي نص منح صلاحيات القاضي الجزئي وقاضي الاستئناف للنيابة في قضايا أمن الدولة على سبيل المثال.


2- تكافؤ الفرص بين الادعاء  والمدعى عليهم

 

  • بسبب سنوات من الممارسة التشريعية والعملية التي تنحاز للسلطات وتبدع في تسهيل عملها على حساب حقوق المواطن، فقدت القوانين الجنائية في مصر بوصلتها الأساسية، فوصلنا للوضع الحالي الذي تضمن فيه مؤسسات الدولة للجهات التنفيذية في قانون الإجراءات حمايات وتسهيلات وسلطات واسعة، في حين تنتقص وتقيد حقوق المتهمين ودفاعهم. ثم جاء  المشروع الجديد ليضيف المزيد من الصلاحيات للنيابة العامة ويقلل من سبل الطعن والانتصاف ضد قراراتها. إن اعتماد مبدأ تكافؤ الفرص الذي يضمن أن يحصل المتهم ودفاعه في القضايا الجنائية على أكبر قدر من الحقوق المتساوية مع سلطة الإدعاء (النيابة العامة في حالتنا) يحتم تنقيح كل المواد التي تضيف سلطات بلا رقابة أو حساب للنيابة العامة. فلا يسمح هذا المبدأ الحاكم بتفويض مأموري الضبط في أمور قضائية بالتعريف، ولا يسمح بحجب هوية الشهود بشكل اعتباطي على سبيل المثال، بل يعزز من القيود على هذا الاستثناء الشديد الذي ينتقص من حق المتهم في الدفاع عن نفسه. ويضمن المبدأ ذاته بشكل صريح حق المتهم في الاتصال الدائم بمحاميه في أي وقت، وفي خصوصية كاملة وبمعزل عن السلطة التنفيذية. كما يضمن أن يتم التقاضي والتحقيق في أماكن محايدة وليس داخل السجون وأماكن الاحتجاز، وهو ما يوجب تعديلًا جذرياً وكاملاً للمواد المنظمة للتقاضي عن بعد. 


3- قرينة البراءة والحق في المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة

 

  • الحق في المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة نقطة انطلاق توجب مراجعة كاملة  لكافة نصوص المشروع المنظمة لأوامر القبض والضبط والإحضار والحبس وتجديده، والإجراءات الاحترازية الأخرى المصاحبة للتحقيقات. فهو ينطلق من الاعتراف بأن المتهم في جريمة جنائية بريء حتى تثبت إدانته. وقرينة البراءة وهي ألف باء القوانين الجنائية الحديثة والمنصوص عليها في المادة 96 من الدستور، تكاد تغيب عن مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، ومن ثم، فإن الإقرار بحق المواطن في المحاكمة في فترة زمنية معقولة يقتضي النظر لكل إجراء احترازي أو تحفظي بصفته إجراءً مقيدًا للحرية، يتعدى بالتعريف على حقوق أساسية لصيقة بشخص المواطن الذي لم يدن بعد، وبوصفها تتساوى تلك الإجراءات الاحترازية مع إجراءات الحبس الاحتياطي في كونها جميعًا إجراءات مقيدة لحرية مواطن برئ. وعلى  ذلك، فيجب تقييد كل تلك الإجراءات وضمان عدم إساءة استخدامها، وإخضاعها جميعًا وبلا استثناء لسقف زمني واحد. كما يضمن المبدأ ذاته خضوع تلك القيود بشكل مستمر لاختبارات التناسبية مع الغرض منها، والضرورة لتحقيق ذلك الغرض وتوفير كل سبل الطعن عليها. وفي الأخير، يتطلب  هذا المبدأ طرح تصورات تشريعية لكيفية تقييد الفترة الزمنية للتحقيقات الجنائية بشكل عام، حتى عندما لا تلجأ سلطات التحقيق لاستخدام إجراءات مقيدة لحرية المتهم.


4-إعادة التوازن الأصلي بين القاعدة والاستثناء

 

  • جاء مشروع القانون الحالي بعكس هذه الفلسفة بالضبط. إن تطبيق هذا المبدأ الحاكم لا يجوز معه لأي قانون جديد أن يحوي عبارات من عينة "بحسب الأحوال" دون تحديد هذه الأحوال، حتى ولو لم يكن بشكل حصري. أو بعبارات تفرغ القيود الزمنية من مضمونها على شاكلة يجوز التمديد "لمدة أو مدد أخرى مماثلة"، أو ربط التمتع بالحقوق الأساسية للمتهم ودفاعه "بمصلحة التحقيق". ويوحب ذلك بالتبعية إعادة صياغة كل المواد المنظمة للمحاكمات عن بعد في مشروع القانون المطروح، بحيث يؤكد نص القانون على أن هذا الوضع الشاذ -الذي لا يسمح فيه للمتهم بالتحدث بشكل مباشر إلى قاضيه ومواجهة المدعي عليه، ومناظرة الشهود والأدلة المقدمة ضده، وعرض شكاواه وإصاباته المحتملة على المحكمة لتناظرها- هو وضع استثنائي لا يجوز اللجوء إليه لأسباب محددة في  ضوء ضرورة بشكل يحولها من استثناء  إلى قاعدة كما هو الحال الآن في إجراءات تجديد الحبس.