أولًا: حقيقة أزمة الدولار: زيادة الموارد الدولارية بعد الثورة

جرى خلال السنوات الخمس الماضية تسييد خطاب "أزمة نقص الدولار". حيث جرى إلقاء اللوم على ثورة يناير بأنها السبب في تقلص إيرادات السياحة والاستثمار الأجنبي. وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار. وهذا خطاب غير دقيق بالمرة.

وبشكل عام، يمكن تقسيم فترة ما بعد الثورة إلى فترتين بحسب مصادر النقد الأجنبي، وشهدت الفترة الأولى تعويضًا فاق أثر نقص الموارد الدولارية، والفترة الثانية شهدت نقصًا طفيفًا، بما لا يجعل ندرة المتحصلات الدولارية هي السبب في ندرة الدولار:

الفترة 2011-2013:

طرأ نقص طفيف في بعض الموارد المعتادة للنقد الأجنبي، مثل السياحة وقناة السويس. إلا أن مقابل تلك الموارد كانت هناك زيادة في الاستثمار الأجنبي والصادرات وأخرى غير مسبوقة في تحويلات العاملين للخارج، وهو ما غطى كثيرًا على النقص.ورغم تلك الزيادة، خلال العامين الأولين من الثورة، شهدت الاحتياطات الدولية نزيفًا فقدت خلاله أكثر من 20 مليار دولار، لتقف عند 15.5 مليار دولار في مايو 2012.

ظل الخطاب الحكومي السائد ـ والذي تتبناه أيضًا بنوك الاستثمار الكبرى، الممثِّلة لمصالح الرأسمالية المالية المصرية والعالمية- هو اتهام نقص الموارد الدولارية. ويوضح الجدول (1) أهم مصادر النقد الأجنبي التي دخلت البلاد قبل وبعد الثورة.


الجدول (1): بعض أهم مصادر النقد الأجنبي

السنوات

السياحة

الاستثمار الأجنبي المباشر

قناة السويس

الصادرات

تحويلات العاملين من الخارج

القروض الخارجية*

2010/2011

10.6

9.6

5.1

23.9

9.8

1.5

2011/2012

9.4

11.8

5.2

25.1

18

2.6

2012/2013

9.8

10.3

5

27

18.7

4.6

2013/2014

5.1

10.9

5.4

26

18.5

11

2014/2015

7.4

12.9

5.4

22.2

19.3

16.3

2015/2016

3.8

12.4

5.1

18.7

17.1

19


المصدر: البنك المركزي المصري، النشرة الشهرية، أعداد مختلفة.

2015/2016: تقديرات أولية.

* القروض الخارجية هي تلك التي اقترضتها الحكومة والبنك المركزي من مصادر أجنبية بالدولار بكافة أنواعها. ولكنها لا تشمل قروض البنوك وهي ليست القيمة الصافية بعد خصم قيمة المسدد من القروض الخارجية.

من الجدول السابق (الجزء الأصفر) نستطيع أن نرى أن أهم البنود التي شهدت انخفاضًا يقابلها زيادة تفوقها من موارد من أخرى، جاءت تلك الموارد خلال العامين الأولين من الثورة خاصة من تحويلات العاملين من الخارج، تليها الصادرات.

مصادر النقد الأجنبي (مليار$)

أولًا: أهم البنود التي شهدت انخفاضًا 2010/2011 2012/2013

السياحة 10.6 9.8

قناة السويس 5.1 5

مجموع الانخفاض في هذين البندين (1)= 0.9 مليار دولار

ثانيًا: أهم البنود التي شهدت ارتفاعًا 2010/2011 2012/2013

الاستثمار الأجنبي المباشر 9.6 10.3

الصادرات 23.9 27

تحويلات العاملين بالخارج 9.8 18.7

القروض الخارجية 1.5 4.9

مجموع الزيادة في هذه البنود (2) = 15.4 مليار دولار

المصدر: البنك المركزي المصري، حسابات الباحثة.

الهدف من تلك الحسبة هو توضيح فكرة أنه مقابل الانخفاض الذي طرأ على بعض المصادر الدولارية التقليدية للاقتصاد المصري كان هناك ما يعوضها في شكل ارتفاع في مصادر أخرى.

إذن كانت هناك زيادة صافية في العائدات الدولارية للبلاد خلال الأعوام الثلاثة الأول للثورة. وتقدر هذه الزيادة (2-1) بأكثر من 14 مليار دولار.أيْ أنَّ أيَّ خطاب حكومي رشيد وموضوعي كان ينبغي أن يشيد بفضل الثورة على زيادة تدفقات النقد الأجنبي التي دخلت مصر خلال الأعوام الثلاثة التالية للثورة.وكان هذا الاعتراف سيثير الدهشة حين نتذكر أن قيمة الجنيه انخفضت وشح الدولار حتى وصل سعره إلى ما فوق 8 جنيهات وعادت السوق السوداء بعد اختفاء دام أكثر من سبع سنوات.

ويترتب على ذلك سؤالان:

لماذا لجأت حكومة شفيق، وأيضًا حكومة الإخوان، إلى طلب قرض من صندوق النقد الدولي، وإلى زيادة الاقتراض الخارجي، على الرغم من زيادة الموارد الدولارية؟

ولماذا انخفضت الاحتياطات الدولية لدى البنك المركزي؟

الإجابة هي هروب كمٍّ أكبر من الدولارات خارج البلد.

ويوضح الجدول (2) أهم بنود خروج رؤوس الأموال من مصر

السنوات

السياحة

خروج الاستثمارات

الأرباح المحولة

الواردات

سدادالقروض الحكومية 

التزامات البنك المركزي  والبنوك تجاه الخارج

2010/2011

2.1

7.4

6.5

54.1

--

-0.8

2011/2012

2.5

7.8

6.7

59.2

2.8

1.2

2012/2013

2.9

6.5

7.6

57.7

2.9

5.7

2013/2014

3

6.7

7.5

60.2

3.1

1.9

2014/2015

3.3

6.2

5.9

61.3

3.2

8.7

2015/2016

4.1

5.6

4.9

56.3

5.6

12

--غير متاح

* تقديرات أولية

المصدر: البنك المركزي، النشرة الشهرية، أعداد متفرقة. وزارة المالية، التقرير الشهري، أغسطس 2016.

يتضح من الجدول (2)( الجزء الأصفر)، أن أكبر نزوح للدولارات خارج البلاد في الفترة 2011/2010- 2013/2012، كان في شكل تحويل أرباح وخروج الاستثمارات.

إن مجموع المبالغ التي خرجت من مصر خلال الأعوام الثلاثة الأولى للثورة في شكل خروج استثمارات وتحويل أرباح فقط:

13.9+14.5+14.1=

42.8 = مليار دولار

ويعد المبلغ الذي خرج من مصر خلال تلك الفترة بشكل مشروع أكبر من (ثلاثة أضعاف تقريبًا) كل الإيرادات القياسية التي دخلت البلاد بعد الثورة.

على سبيل المثال، كشف تحقيق استقصائي (المصري اليوم، 2012) عن خروج 4.6 مليار جنيه خلال الأربعة أشهر قبل وبعد الثورة، بشكل مشروع خارج البلاد عن طريق البورصة، وذلك عن طريق 14 شركة مصرية مقيدة ببورصتي مصر ولندن1 وكان الأجدى وضع حوافز لإبقاء تلك الأموال داخل البلاد، أو فرض ضريبة رادعة على خروجها قبل مرور ستة أشهر مثلًا، وذلك حتى تستقر الأوضاع الاقتصادية، وتهدأ المخاوف.

كما وافقت الحكومة على انتقال مجموعة أوراسكوم للصناعة والبناء إلى خارج مصر، في أعقاب الثورة، وهو ما ترتب عليه خروج حوالي من 1.6 مليار دولار في صفقة واحدة (Reuters, 2013).

غياب مثل تلك السياسات وضع اللبنة الأولى لأزمة الدولار. أي أن اللوم يقع على البنك المركزي والحكومات المتعاقبة الذين سمحوا – عن وعي أو عن غير وعي- بنزوح كل تلك الأموال بدون رادع.

كما عرفت مصر خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة خروج الأموال بشكل غير مشروع كما يتضح من الجدول(3):

                                                     2010               2011             2012                    2013

مجموع الأموال غير المشروعة               2.15                    5.25                 5                       3.6

منها تزوير فواتير التجارة                        0                        2.4                  2.8                      2.3 

منها هروب أموال ساخنة                          *2.14                  2.9                2.2                   1.3 

1 تداركت هيئة رقابة سوق المال هذه الفجوة لاحقًا، لتغير من القواعد، وتجعل من الأصعب اللجوء لتلك الآلية.

* من الواضح أن تلك الأموال خرجت بشكل سريع في شهر ديسمبر، في أعقاب ثورة تونس، تحسبًا من قيام ثورة في مصر1.

المصدر: Illicit Financial Flows Report, 2015


في حين كانت هناك عمليات التهريب التي تمت بعد الثورة بالشكل الأقدم والأقل تعقيدًا من خلال المطار محمولة في حقائب السفر، بالمخالفة للقانون2.

الخلاصة هي أن تقصير البنك المركزي في تعقب ـ والحد من- خروج النقد الأجنبي من مصر بشكل خاص قد أوقع البلد في أزمة دولار.

كما كان الثمن الباهظ الذي دفعه الاقتصاد هو التضحية بالاحتياطات الدولية من أجل تغطية هروب الأموال إلى الخارج3.

  1. الفترة 2013-2016

  2. شهدت تلك الفترة تفاقم ما سمي بـ"أزمة الدولار". وصعد الدولار إلى ضعف سعره في الفترة السابقة في السوق السوداء التي أصبحت متحكمة تمامًا في عرض الدولار. وظل الخطاب الرسمي يردد التبرير غير الدقيق والذي يعزي الأزمة إلى تناقص الموارد الدولارية التقليدية بسبب "الفوضى التي خلقتها الثورة".

في هذه الفترة، قلت بالفعل الموارد التقليدية من الدولار. ولكن ظلت التحويلات الرسمية للعاملين بالخارج ـ على نقصها الطفيف- تعوض معظم ذلك الانخفاض. إضافة إلى الاستثمار المباشر والقروض الخارجية. (انظر الجدول (1)، الجزء الأخضر).

1يؤيد التحقيق الاستقصائي في المصري اليوم هذا التحليل.

2 بحسب حوار (2012) مع شيرين القاضي، رئيس بنك استثمار برايم القابضة المالية.

3 وهي أموال معظمها مملوك للمصريين. وبالتالي هناك مجال للشك بأنها يشوبها فساد وتخاف من المحاسبة في فترة ما بعد الثورة.

و يوضح الشكل(1) ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية بعد الثورة، وحتى بعد "الأزمة"، كما يوضح صافي الاستثمارات الأجنبية-أي بعد احتساب خروج استثمارات أخرى، وقد تضاعفت ثلاث مرات، خلال نفس الفترة.

الشكل (1):

يتم حساب صافي الاستثمارالأجنبي المباشر عن طريق خصم تدفقات الاستثمار التي تخرج من مصر من الاستثمارالأجنبي المباشر الذي يدخل مصر.

المصدر: النشرة الشهرية للبنك المركزي، أعداد متفرقة.

ويوضح الجدول (4): أهم مصادر تدفقات الموارد من النقد الأجنبي التي شهدت انخفاضًا وأهم المصادر التي شهدت ارتفاعًا، كما وردت في الجدول (1).

الجدول (4): أهم مصادر انخفاض النقد الأجنبي الداخل إلى مصر

الانخفاض في أهم مصادر النقد (مليار$)      2013/2014      2015/2016

قناة السويس                                          5.4                         5.1

السياحة                                               5.1                    3.8

الصادرات 26 18.7

تحويلات العاملين بالخارج 18.5 17.1

مجموع الانخفاض في المصادر(1) =

44.7-55= 10.3 مليار دولار


ثانيًا: الارتفاع في أهم مصادر النقد الأجنبي

الاستثمار الأجنبي المباشر 10.9 12.4

القروض الخارجية 11 19

مجموع الارتفاع في أهم المصادر(2)= 9.5 مليار دولار صافي الانخفاض في أهم الموارد الدولارية = (2)- (1)

= 9.5- 10.3

=-0.8 مليار دولار.

هنا بدأت أزمة نقص الدولار في الظهور. ولكنها مع ذلك ليست بتلك القسوة التي انعكست على سعر الصرف.

وبشكل عام، استمر الدولار في الارتفاع أمام الجنيه المصري، سواء حقق ميزان المدفوعات فائضًا أو عجزًا، كما يوضح الجدول (3). أي أن الارتفاع له أسباب أخرى عدا ندرة الدولار.

 

2013/2014 2014/2015 2015/2016

فائض ميزان المدفوعات (عجز)

بالمليار دولار 1.48 3.72 (2.81)

سعر الدولار الرسمي مقابل الجنيه 7.1* 7.8** 8.8***

* سبتمبر 2014

** سبتمبر 2015

*** أغسطس 2016

المصدر: البنك المركزي، النشرة الشهرية، أعداد مختلفة.

خروج الدولارات:

ولا تكتمل الصورة إلا إذا أدخلنا حجم الأموال التي تخرج من مصر. ويوضح الجدول رقم 2 (الجزء الأخضر) أهم مصادر خروج الأموال، والتي تتخذ أشكالًا مختلفة مقارنة بالفترة الأولى.

نجد في السنوات الثلاث الأخيرة استمرار الدولارات في الخروج بكثافة إلى خارج مصر، ولكن اتخذت بنودًا إضافية أهمها خدمة الدين الخارجي (أقساط وفوائد القروض).

أهم بنود المدفوعات إلى الخارج (مليار دولار) 2014/2013             2015/2016

عوائد الاستثمار                                                 7.5                    4.8

خدمة الدين الخارجي                                           3.19                5.16

السياحة الخارجية                                            3.04                       4.1

أقساط القروض                                                 5                  17.6

بحسب الجدول (2)، بلغ مجموع أهم المدفوعات في عام 2016/2015 (عدا الواردات)1 هي:

33.7 مليار دولار.

كما استمرت ظاهرة خروج الأموال بشكل غير مشروع، وانعكس ذلك على بند السهو والخطأ في ميزان المدفوعات. حيث بلغت قيمتها 0.9 مليار دولار في عام 2014/2013. في حين وصل هذا المبلغ إلى 4 مليارات دولار في عام 2016/2015.

وهنا أيضًا يمكن لوم البنك المركزي على سياسة الاقتراض الخارجي التي اتبعها منذ 2013/2012. حيث لجأ إلى الاقتراض قصير الأجل ومتوسط الأجل من أجل تغطية الاحتياطات الدولية. مما رفع من تكلفة خدمة الدين، لتبلغ 17.6 مليار دولار خلال العام 2016/2015، منها 12 مليار دولار التزامات على البنك المركزي فقط (الجدول 1).

وهي كلها قروض تبخرت جراء الهروب المتواصل للأموال خارج البلاد أو بسبب مشروعات قومية لم تتم دراستها جيدًا على الأقل. فقد بلغ صافي الاقتراض6.13 مليار دولار في عام 2016/2015، ذهب معظمها إلى البنك المركزي، وذلك لتدعيم الاحتياطات الدولية.

كما يتضح من حجم الأرباح المحولة إلى الخارج أنه يمكن لوم الحكومة على عدم تحفيز المستثمرين على إعادة استثمار أرباحهم داخل البلاد. أو فشل تدعيم السياحة الداخلية.

الخلاصة هي خطأ المقولات الحكومية القائلة بأن نقص الموارد الدولارية تسبب في ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه.

وأنه لولا غياب سياسات مناسبة للتعامل مع ظروف الثورة، لما خرجت كل تلك الأموال خارج البلاد، متسببة في الأزمة الحالية. ولما كان الاقتصاد قد احتاج إلى هذا الكم الكبير من القروض الخارجية ولا إلى التعويم.

1 نشير إلى حجم الالتزامات الدولارية التي كان من الممكن تفاديها والتي كان من الممكن أن تتبنى الحكومة والبنك المركزي سياسات لتحجيمها. كما أن الواردات انخفضت عبر السنوات الست الماضية، لذلك فهي لا تغير جوهر التحليل. بل بالعكس تثري الحجة التي تقدمها هذه الورقة.