كيف رد مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر على سؤالنا: "لماذا أوصيتم برفض تخصيص مقابر للفئة الرابعة؟"
في صباح يوم الثلاثاء الحادي عشر من يناير الماضي توجهت إلى مقر مجمع البحوث الإسلامية بمدينة نصر لمقابلة الدكتور نظير عياد الأمين العام للمجمع؛ وكنت قبلها بأيام نجحت بيُسر لم أكن أتوقعه في التواصل معه عبر تطبيق الواتساب والحصول على موعد لمقابلة بحثية في مكتبه بمقر المجمع؛ بعد أن عرفت نفسي له كباحث دكتوراه في العلوم السياسية وباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وأخبرته برغبتي في مناقشة بعض الملفات والقضايا المستجدة المتعلقة بالمجال الديني ومواقف الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية منها.
ذهبت مستحضرًا مجموعة متنوعة من التساؤلات المتعلقة بالمجال الديني في مصر؛ ولكن كانت القضية الأبرز التي دفعتني لهذه الزيارة هي حكم محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية برفض إلزام محافظة الإسكندرية بتخصيص مقابر لغير أصحاب الأديان السماوية الثلاثة "وهم الفئة الرابعة من فئات التنوع الديني في مصر يحملون في بطاقاتهم القومية علامة (-) قرين خانة الديانة"؛ حيث استندت المحكمة في حكمها إلى مذكرة أعدها مجمع البحوث الإسلامية بعد أن طُلب منه إبداء رأيه في هذا الشأن؛ وورد في هذه المذكرة أنه "لا يجوز تخصيص قطعة أرض لدفن الموتى ممن يحملون علامة (-) الشرطة أو غيرها، لما يؤدي إليه من التمييز والمزيد من التفرقة والانقسام وتمزق نسيج المجتمع الواحد"؛ وبرر المجمع رأيه بأنه "من المعلوم شرعا أن الدفن حق ثابت لكل إنسان بعد وفاته، وذلك دون تمييز بين إنسان وآخر (...) بيد أن هذا الحق لا يجوز أن يكون ذريعة للتمييز الديني أو الإعلان عن الهوية الدينية والعقائدية، أو وسيلة للترويج لأفكار معينة أو مذاهب محددة، لأن هذا التمييز يخالف مبدأ المساواة العامة في الحقوق الإنسانية الثابتة للإنسان حال حياته وبعد وفاته، كما يؤدي إلى استغلال حق الإنسان في الدفن للترويج والدعاية لما يخل بتلك المساواة، ولا يتفق وحق الدفن وجلال الموت".
ولذلك كان هدفي توجيه سؤال مباشر للمسئولين بالمجمع عن أسباب توصية المجمع برفض تخصيص الدولة مقابر لغير أتباع الأديان الثلاثة المعترف بها رسميا؟ وإذا كانت الدولة لن تقوم بتخصيص مقابر لهؤلاء المواطنين فما البديل الذي يمكن لهؤلاء اتباعه لدفن موتاهم؟ ولماذا لم يقتصر رد المجمع على الرأي الشرعي وتطرق إلى مسائل سياسية وأمنية لا يعد هو المنوط بتحديدها؟
بعد وصولى إلى مكتب الدكتور نظير عياد حالت بعض الظروف دون إتمام اللقاء المباشر معه لكنه دعاني إلى ترك أسئلتي مكتوبة على أن يصلني الرد عليها مكتوبًا في أقرب وقت. شكرته على ذلك وطلبت منه السماح لي بمقابلة بعض الباحثين من المجمع للنقاش معهم إلى جانب ترك أسئلتي مكتوبة وانتظار إجابته عليها أيضًا؛ فقبل بذلك واستدعى اثنين من الباحثين بالمجمع إلى جانب مدير مكتبه للجلوس معي والاستماع إلى تساؤلاتي.
وبعد لقاء ونقاش لم يدم طويلًا استعرضت فيه أهم تساؤلاتي بشأن الحالة الدينية في مصر ومواقف المؤسسة الأزهرية منها؛ طُلب مني ترك التساؤلات مكتوبة لكي يتم بحثها وإرسال إجاباتها إلي في وثيقة رسمية يُمكن استخدامها بشكل أكثر موثوقية في أبحاثي؛ وبالطبع وافقت على ذلك مُرحبًا وشاكرًا حسن الاستقبال والمعاملة الراقية لباحث يزور المجمع بشكل فردي دونما معرفة سابقة بأحد مسئوليه ودون أي توصية من أحد المعارف أو القيادات بالأزهر.
في نهاية مارس الماضي أتى رد المجمع على تساؤلاتي في وثيقة من ثلاث ورقات؛ وهي إجابات لم تأت مفصلة بالقدر الكافي، ولكن من المفيد عرضها والتعليق عليها في هذا المقال كمقدمة لفتح حوار مع الأزهر والمؤسسات الدينية عمومًا حول أبرز الإشكاليات التي تواجه الحريات الدينية في مصر.
فقد أجاب المجمع عن سبب رفضه تخصيص الدولة مقابر لغير أصحاب الأديان السماوية وعن عدم اكتفائه بالرأي الشرعي وتطرقه للجوانب السياسية والأمنية في فتواه بهذا الشأن بقوله "لقد جاءت الشريعة الإسلامية لجلب مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، والأحكام الشرعية لها أصول وطرق استنباط يراعيها الفقهاء عند إصدارها، ومسألة تخصيص مقابر لغير المؤمنين بالأديان السماوية تُعد من المستجدات الفقهية في البلاد المصرية، وعند إبداء الرأي الشرعي فيها لا بد من دراسة جميع جوانبها، وهؤلاء المواطنون بغير الأديان السماوية مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات، ويجب مراعاة مصلحتهم ولكن بما لا يتعارض مع المصلحة العامة للشعب والدولة، فسياسة الدولة وأمن الوطن ثوابت لابد من مراعاتها عند استنباط الحكم الشرعي".
و رغم تأكيد المجمع على مواطنة غير أصحاب الأديان الثلاثة ووجوب مراعاة مصلحتهم بما لا يتعارض مع مصلحة الشعب والدولة؛ ؛ إلا أن الرد لم يفصل أو يشرح كيف يمكن أن تتعارض حقوقهم الأساسية في المواطنة مع مصلحة الشعب والدولة.
ويُثير ذلك الاحتجاج بالحسابات الأمنية والسياسية في رد المجمع مجموعة من الإشكاليات والتساؤلات التي ينبغي أن تُطرح على القيادات الدينية والسياسية في مصر؛ فكيف يُتصور أن يُمثل تخصيص أراضي كمقابر لدفن الموتى من غير أصحاب الأديان السماوية تهديدًا للأمن القومي والنظام العام في مصر؟
أليس من دواعي الحفاظ على الأمن والنظام العام حماية الحقوق والحريات لكل الفئات ومواجهة التمييز؟ ألا يفتح إنكار الحقوق والإقصاء الاجتماعي والسياسي الباب نحو خطاب الكراهية الذي يمكن أن يرتبط بالاعتداءات الطائفية؟
ويتعارض مع تلك الحجج السياسية والأمنية، أن الدولة المصرية منذ القرن التاسع عشر وحتى السبعينات خصصت بالفعل مقابر لهذه الفئة، فبحسب تقرير "تجاهل الموتى" الصادر مؤخرًا عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حول تاريخ تخصيص المقابر لغير أتباع الأديان الثلاثة ؛ فإن الدولة المصرية سبق وخصصت في أوقات سابقة أراضي لدفن من أُطلق عليهم "أحرار العقيدة" أو "أحرار الفكر" بالإضافة لمقابر خصصت "لغير أصحاب الأديان المعترف بها في مصر"، بل على العكس من ذلك؛ فإن روايات تاريخية تشير إلى إن أحد قرارات التخصيص كانت حلا لمواجهة توترات ووقائع تجمهر حدثت في مدينة الإسماعيلية بسبب محاولة دفن شخص بهائي في الجبانات العامة للمسلمين لعدم توافر مقابر خاصة بهم؛ وبالتالي فإن استجابة الدولة بتخصيص مقابر لهم حتى لو لم تعترف رسميا بالديانة البهائية يعد حفاظا على الأمن ومنعا لأي توترات طائفية لا العكس.
ومن المثير للتأمل، أن قرار التخصيص صدر بعد استشارة مفتي الديار المصرية آنذاك، حيث جاءت فتواه عام 1939 لتوصي فقط بعدم دفن غير المسلمين في في مقابر المسلمين، وبعدها بسنوات صدرت قرارات ملكية بتخصيص جبانات لدفن موتى من يدينون بغير الديانات المعترف بها في القاهرة وبورسعيد والسويس والإسماعيلية.
وفي سياق متصل، جاءت إجابة المجمع عن التساؤل بشأن سبب قصر الدولة المصرية للحقوق والحريات الدينية على أصحاب الأديان الثلاثة دون غيرهم وعما إذا كان ذلك مستمدًا من المرجعية الإسلامية للدولة أم أنها توجهات سياسية وأمنية للدولة فحسب؛ أجاب المجمع قائلًا: "من المعلوم أن لكل دولة دستورها الذي يحدد لها سير العمل من خلال التصويت الحر، ودستور الدولة المصرية ينص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، والمواطنون مسلمون وغير مسلمين سواء أمام الدستور، وتكفل الدولة لأصحاب الأديان السماوية الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، حيث إنها نابعة من مشكاة واحدة، وتدعو إلى عبادة رب واحد، أما أصحاب الأفكار المنحرفة فلا يؤمنون بدين ولا وطن".
ولا تخفى في هذه الإجابة النبرة الحادة في وصف مواطنين لهم أفكار وعقائد توصف بـ"المنحرفة" واتهامهم بعدم الانتماء للوطن؛ و بالنظر للسياق الذي جاء فيه هذا الاتهام والمتعلق بالسؤال حول الحقوق الأساسية لغير أصحاب الأديان الثلاثة؛ فإن اتهام هؤلاء المواطنين بفقدان الانتماء للوطن قد يُفهم منه بشكل غير مباشر تبرير حرمانهم من أبسط حقوق المواطنة وهو حق تخصيص أراضي لدفن موتاهم، وتتعارض هذه الطريقة الحادة الهجومية من مجمع البحوث الإسلامية مع الخطاب الأزهري في السنوات الأخيرة بشأن الاختلاف الديني والمواطنة متمثلة في تصريحات مهمة صادرة عن مشيخة الأزهر.
ففي إجابة شيخ الأزهر عن سؤال بشأن أوضاع غير المؤمنين بالأديان السماوية في المجتمعات الإسلامية، في أحد البرامج التليفزيونية، أكد الطيب تمتعهم بحقوق المواطنة والحريات والبر من قِبل المسلمين؛ حيث قال "نحن دائمًا نتحدث عن انفتاح الإسلام على المسيحية وانفتاح الإسلام على المسيحيين واليهود وأهل الكتاب، لكن لنفترض أنهم ليسوا أهل كتاب ولا مؤمنين بأديان مثل الملحدين والوثنيين ممن لا يوجد بيننا وبينهم علاقة دين لكنهم يعيشون معنا، هل لهم قانون أم ليس لهم قانون؟ نعم لهم قانون، وهو لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم... الوثني الذي لايقاتلني ولا يتآمر مع أعدائي ليخرجني من دياري... قانوني معه البر أي المودة مع الرحمة والقسط أي العدل... إذًا ما هو المشترك الذي بيني وبينه يرتب عليّ أن أُعامله بهذا الشكل، يتضح أنه لا مكان لرابطة الدين في هذا المقام، وإنما هي الإنسانية".
كما شارك الأزهر في إصدار وثيقة الأخوة الإنسانية في فبراير 2019 والتي احتفى بصدورها الأزهر والفاتيكان احتفاءً كبيرًا؛ وتضمنت هذه الوثيقة إشارات مهمة تدعو إلى ضرورة تأكيد التآخي بين جميع المؤمنين بالأديان على تنوعها؛ وحتى بين المؤمنين وغير المؤمنين وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة.
هناك مسافة بين هذا الخطاب العام الصادر عن مشيخة الأزهر عن الأخوة الإنسانية التي تتجاوز الاختلافات الدينية، وبين الآراء والردود الصادرة عن مجمع البحوث الإسلامية، الجهة المختصة بإعداد رأي الأزهر وتوصياته لمؤسسات الدولة والمجتمع، ورغم التحفظ على الاستشارة الرسمية لهيئة دينية بخصوص حقوق المواطنة الأساسية لفئة من المصريين، فإن آراء الأزهر وتوصياته يمكن أن تساهم في تأكيد احترام التنوع الديني رسميا ومجتمعيا، أو يمكنها أن تساهم في عكس ذلك كما حدث في توصية المجمع التي أرسلت للقضاء الإداري واستندت لها المحكمة وساهمت في استمرار حرمان فئة من المواطنين من أحد حقوقها الأساسية.