مقمدمة- تعد "الصحة" من الحقوق الأساسية التي لا غنى للإنسان عنها، وهو حق مكمل لغيره من حقوق الإنسان الأخرى التي يجب أن يتمتع بها الفرد. كما أن لكل إنسان الحق في الحصول على أعلى مستوى يمكنه الحصول عليه من الخدمات الصحية، وبالقدر الذي يعزز شعور المرء بأنه يعيش بكرامة.
ويقع على الحكومة عبء الالتزام التام بضمان حصول كل فرد من أفراد المجتمع بقدر متساو من الخدمات الصحية، وتهيئة بيئة العمل الصحية والآمنة له، وتوفير القدر الكافي من عدد المساكن، والحصول على الغذاء، ومياه الشرب الجيدة، والعيش في ظل بيئة صحية خالية من الأمراض.
وفي سياق التزام الحكومة السابق ذكره، يقضي القانون المصري بأن تختص وزارة الصحة تحديدًا بـ "الحفاظ على صحة المواطنين عن طريق تقديمها الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية على المستوى المركزي وعلى المستوى المحلي، بالاتفاق مع الأجهزة الأخرى المحلية المختصة. ويشمل ذلك خدمات تحسين صحة الأفراد والبيئة والوقاية من الأمراض، والاكتشاف المبكر لها، والعلاج والتأهيل، وتطوير هذه الخدمات ورفع مستواها، وتيسير حصول المواطنين عليها"1.
وحتى تتمكن وزارة الصحة من القيام بهذه المهام المنوطة بها، فإن الدولة تخصص نسبة مالية من الموازنة السنوية موجهة للإنفاق على الخدمات والرعاية الصحية. ويندرج تحت هذه النسبة المخصصة بند "العلاج على نفقة الدولة".
وبالنظر إلى القرارات الجمهورية المنظمة لشأن العلاج على نفقة الدولة، سواء في داخل مصر أو خارجها، نلاحظ أن الحالة الاجتماعية للفرد - أي مدى غنى أو فقر الشخص المتقدم للعلاج - كانت من أهم اشتراطاتها. وذلك أمر طبيعي لأن نظام العلاج على نفقة الدولة، قد وضِع خصيصًا من أجل الفقراء غير القادرين على تحمل أعباء العلاج ونفقاته. ومن ناحية أخرى فإن نظام العلاج على نفقة الدولة يطبق على ما يسمى "الأمراض الكارثية" أيضًا. فقد يكون المريض غنيّا، إلا إنه عند إصابته بمرض كارثي، مثل الفشل الكلوي أو السرطان، أو غيرهما من الأمراض المزمنة التي قد تؤدي تكاليف علاجها باهظ النفقات إلى إفقاره؛ مما يجعله تمامًا في وضع من يحتاج إلى "العلاج على نفقة الدولة". كما أن هناك بعض الحالات الطارئة التي تستلزم استصدار قرار فوري بالعلاج على نفقة الدولة، دون انتظار أو بحث الحالة الاجتماعية، وهي الحالات التي قد يؤدي الانتظار فيها إلى الوفاة، ومنها إصابات الحوادث. وهذا ما أكدت عليه القواعد الحاكمة لإجراءات استصدار الحصول على قرار علاج العاملين والمواطنين على نفقة الدولة بداخلها.
ومن المتعارف عليه دوليّا، وحسب ما أقرته منظمة الصحة العالمية، وفي ظل غياب نظام تأمين صحي شامل في مصر، فإن ما يمكن اعتباره علاجًا على نفقة الدولة، ما يعد جزءًا حيويّا من برامج صحية وعلاجية، تستهدف أفرادًا مصابين بأمراض معينة (خصوصًا الفشل الكلوي، والتليف الكبدي، والأورام والسرطانات) التي تكلف المصاب بها نفقات باهظة. وهذه البرامج يمكن التنبؤ بكلفتها الإجمالية، فضلاً عن تحديد مواردها اللازمة، وأعداد المستفيدين منها من واقع إحصائيات الأمراض والدراسات المتصلة بها. كما يمكن إدارة خطة مالية لمثل هذه البرامج بموارد محددة ومعروفة سلفًا، أو تحديد برامج صحية علاجية مخصصة لمجموعات سكانية معينة، مثل المسنين والفقراء، وهي المجموعات البشرية التي يمكن حصرها إحصائيا والتكهن بتكلفة علاجها.
إن نظام "العلاج على نفقة الدولة" في مصر، الذي استنته الدولة كمرحلة انتقالية، لحين مدها مظلة التأمين الصحي لتشمل كافة المصريين، قد تصاعدت أزمته في الوقت الحالي، حيث بلغت ديونه قرابة ملياري جنيه مصري، عجزت وزارة المالية عن تسديدها لعدم توقعها المستقبلي؛ فلم يحسب لها حساب في نصيب وزارة الصحة المالي من الموازنة العامة، بما يعكس عدم الكفاءة في تخصيص موارد الدولة، والفشل في استخدامها بعدالة تعكس نموذجًا دالاّ على سوء إدارة نظام العلاج على نفقة الدولة، وكذلك سوء استخدامه السياسي، دون مراعاة لطبيعته الانتقالية المرحلية. وخلال هذه الأزمة تبارت الأطراف كلها في إلقاء عبء مسئولية ما حدث بعيدًا عن كاهلها.
ومع بداية العام الحالي (2010) تفجرت مشكلة المديونيات المتراكمة على وزارة الصحة للمستشفيات الجامعية، نتيجة عشوائية استصدار العديد من قرارات العلاج على نفقة الدولة للمواطنين. مما حدا بهذه المستشفيات إلى التوقف عن تقديم الخدمات العلاجية للمرضى الحاصلين على قرارات علاج على نفقة الدولة، لحين استيفاء وزارة الصحة ما عليها من مديونيات، حيث إن الميزانية المخصصة للمستشفيات الجامعية تعد جزءًا من مجمل الميزانية المخصصة لوزارة التعليم العالي التي تتبعها هذه المستشفيات، وليست من الميزانية المخصصة لوزارة الصحة. وفي طور جديد من أطوار هذه الأزمة، اضطر مسئولو وزارة الصحة إلى التصريح بأن هذه الأزمة هي نتيجة استحواذ عدد من نواب مجلسي الشعب والشورى على معظم قرارات العلاج على نفقة الدولة. ومن ثم ثارت أزمة بين وزارة الصحة وبين بعض من نواب المجلسين. وأخذ كلا الطرفين يلقي بالمسئولية على الآخر. وهو ما دعا الجهات الرقابية، ومن بينها الجهاز المركزي للمحاسبات، إلى التدخل من أجل فحص قرارات العلاج على نفقة الدولة في الداخل والخارج، للتحقق من وجود مخالفات من عدمه2.
وفي منتصف هذا العام طالعتنا الصحف المصرية، ومن بينها جريدة "الأهرام" القومية، بأخبار تفيد تسلم رئيس مجلس الشعب المصري الدكتور فتحي سرور، تقارير من الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية ووزارة الصحة، تكشف عن قيام ثمانية من النواب (ذُكِرتْ أسماؤهم) باستغلال نظام العلاج على نفقة الدولة، ووجود أخطاء وانحرافات خطيرة كإجراء عمليات جراحية لا ينطبق عليها النظام، والعلاج في مستشفيات استثمارية بأسعار مبالغ فيها، والحصول على قرارات علاج بمبالغ باهظة لأسماء وهمية، واستصدار قرارات علاج لمواطنين يتبعون نظام التأمين الصحي، وغير مستحقين للعلاج على نفقة الدولة، وكذلك استصدار قرارات علاج بمبالغ باهظة لأسماء وهمية لشراء أجهزة تعويضية، وكذلك الحصول على قرارات علاج دون المرور بالإجراءات المتبعة. لذلك قام الدكتور سرور بتسليم كافة هذه التقارير وما يؤيدها من مستندات للسيد النائب العام للتحقيق والذي طلب من نيابة الأموال العامة التحقيق في الموضوع3. ومازالت التحقيقات جارية حتى كتابة هذا التقرير.
فجّرت هذه الأزمة عديدًا من الإشكاليات، وكشفت عن كثير من التجاوزات، سواء من جانب بعض نواب البرلمان، أو من المجالس الطبية المتخصصة، كما أظهرت مدى قصور دور الدولة في توفير وتأمين الرعاية الصحية اللازمة للمواطنين.
وفي هذه الورقة، تقدم "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" تلخيصًا لأهم القرارات الحاكمة لنظام العلاج على نفقة الدولة في مصر، كما تعرض بإيجاز دال لأهم المشاكل المتعلقة بهذا النظام، تلك التي ظهرت في مصر خلال الآونة الأخيرة.