"لمعتنقي 'الأديان السماوية' حصرًا؟" دراسات نقدية في أصول مصطلح الأديان السماوية واستخداماته الدستورية والقانونية في مصر
على مدار عمله البحثي والقانوني خلال السنوات الماضية، واجه فريق العمل بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية مصطلح "الأديان السماوية" في كافة الوثائق الدستورية والقانونية ذات الصلة بتنظيم حرية الدين والمعتقد. يشير المصطلح كما هو معروف إلى الأديان التوحيدية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية المعترف بها حصرًا من قبل الشريعة الإسلامية التي تعد وفقًا للدساتير المصرية منذ ١٩٨٠ "المصدر الرئيسي للتشريع". وتتمسك به هذه الوثائق بوصفه أحد المحددات الأساسية للنظام العام التي يشكل الخروج عليها مبررًا لفرض قيود على ممارسة الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور. ومن شأن هذا التعريف، كما هو معلوم أيضًا، استبعاد جماعات كاملة من المنتمين لأديان ومعتقدات ومواقف لا تتطابق مع هذا التعريف "للأديان السماوية".
دفعنا هذا الواقع إلى البحث في جذور هذا المصطلح القانونية والشرعية أملًا في تحريره على الوجه الذي يحول دون استخدامه كقيد تعسفي على الحقوق والحريات الأساسية. واقتضى هذا السعي منا العودة لكافة النصوص الدستورية والقانونية التأسيسية، والسوابق القضائية، التي يعتمد عليها النظام القانوني المصري، وكذلك العودة للنصوص الشرعية والاجتهادات الفقهية ذات الصلة أخذًا في الاعتبار الإحالة الدائمة للمادة الثانية من الدستور.
وخلال هذا البحث اتضحت لنا بشكل جلىّ الطبيعة الضبابية والمرتبكة لهذا المفهوم والتي لا تتوائم مع أي استخدام قانوني أو شرعي منضبط. فمن جهة أولى، يشكل اعتبار أديان وعقائد بعينها جزءًا من النظام العام واستثناء عقائد أخرى دون أي تبرير إلا الفتاوى الفقهية التقليدية تقييدًا متعسفًا لا يتسق مع الطبيعة القانونية الحديثة للدولة في مصر والتي ارتضت نخبها الحاكمة منذ أول دستور مكتوب الاحتكام لمبدأي المواطنة والسيادة الشعبية دون تمييز بين المواطنين على أساس الدين. ومن جهة ثانية، إذا سرنا مع الرؤى الفقهية التقليدية التي تستند لها النخب القانونية المصرية للنهاية، فسنواجه مأزقًا أشد صعوبة يتمثل في ضرورة اعتبار كل من لا ينتمي للأديان التوحيدية الثلاثة إما مرتدًا صريحًا وجب عقابه أو كافرًا غير معاهد ولا يتمتع بمزايا عقد الأمان الذمي. ومن شأن هذا الإعلان أن يفتح تداعيات سياسية لا يبدو أن أحدًا في مقاعد التشريع أو القضاء يرغب فيها. وعلى هذا قادنا استخدام هذا المصطلح الغامض إلى منطقة رمادية يتحول فيها عدد كبير من المصريين إلى مواطنين من الدرجة الثانية قانونًا وواقعًا منتقصي الحقوق والحريات.
يتكون هذا البحث المطول من ثلاثة أوراق موجهة بالأساس للنخب القانونية المصرية من محامين وقضاة ومشرعين. وهي تدعوهم إلى إعادة النظر في الاستخدامات الدستورية والقانونية لمصطلح "الأديان السماوية" والتي تتناوله كمسلمة ثقافية أو دينية انتقلت من ساحة الفكر والتعليم والإعلام إلى النصوص القانونية والدستورية والأحكام القضائية بما أدى إلى قصر نطاق الحريات الدينية على أصحاب الأديان الثلاثة، واستبعاد غيرهم من منظومة الحقوق والحريات المحمية دستوريًا.
تناقش الورقة الأولى التي أصدرتها المبادرة يوم 29 يونيو 2022 الأعمال التحضيرية للدساتير المصرية الصادرة عام 1923 و2012 و2014. وقد قدمت الورقة تحليلا لنقاشات أعضاء اللجان المنوطة بوضع هذه الدساتير حول قضايا حرية الدين والمعتقد وحول حدود الحريات الدينية وقصرها على الأديان الثلاثة المقصودة من عدمه. كما قدمت الورقة الأولى حججًا مهمة للمحامين وللقضاة ردًا على الأحكام القضائية التي تؤسس لقصر الحريات الدينية على أصحاب "الأديان السماوية" وحدهم استنادًا إلى الأعمال التحضيرية لدستور 1923. وذلك حيث تقدم تلك الأحكام القضائية قراءة مفتقرة للدليل لهذه الأعمال التحضيرية، مفادها أن النقاشات التحضيرية لدستور 1923 شهدت اتفاقًا حول حصر الحريات الدينية لأصحاب الأديان السماوية وحدهم. وهي قراءة تنتقدها الورقة الأولى من هذا المشروع وتقدم بديلًا مغايرًا لها. كما سلطت الورقة الضوء على الكيفية التي تمت بها دسترة مصطلح الأديان السماوية منذ دستور 2012 ومن بعده دستور 2014، وطبيعة النقاشات والخلافات التي شهدتها هذه العملية في الأعمال التحضيرية للدستورين.
الورقة الثانية التي تم إصدارها في ديسمبر 2022 تناقش الجانب الآخر من المعضلة، أي تعريف الشريعة الإسلامية لهذا المفهوم الغامض. عادت الورقة لجذور هذا المصطلح و مضمونه في أدبيات العقيدة والفقه الإسلامي منذ عصر التدوين. كما تناولت استخدامات المفهوم في خطاب عصر النهضة الذي يعتبر أحد أهم مصادر الخطاب الوطني والقومي المصري المعاصر. وتتساءل هذه الورقة عن مدى انضباط مصطلح "الأديان السماوية" وأصالته وعن الكيفية التي اكتسب بها هذا الشيوع في الفكر والخطاب المعاصرين بما يتضمن تأثيره في إقصاء غير المؤمنين بالأديان التوحيدية من منظومة الحريات الدينية. كما تتساءل هذه الورقة الثانية عما إذا كان الاستخدام القانوني للمصطلح يعبر عن ممارسة مستمرة ومتوارثة من التراث الإسلامي الفقهي والتاريخي تستند إلى المدلول المشابه لمصطلح "أهل الكتاب" كما يقول بذلك بعض الفقهاء والمعاصرين. وذلك بينما تطرح الورقة السؤال من ناحية أخرى حول وجود اختلافات مهمة بين مصطلحي الأديان السماوية و"أهل الكتاب"، وإذا ما كان ثمة اتجاهات أخرى في التراث الإسلامي - فقًها وممارسةً - تختلف عن ذلك الاتجاه الإقصائي في استخدام مصطلح الأديان السماوية الذي تتبناه الدولة المصرية؟
وأخيرًا، تعود الورقة الثالثة لبحث كيفية ربط الأصلين القانوني والشرعي في التشريع والقضاء المعاصرين. فتقدم شرحًا تفصيليًا للاستخدامات المتعددة لمصطلح الأديان السماوية في التشريعات المصرية، وفي النصوص الدستورية والأحكام القضائية. كما توضح كثافة استخدام هذا المصطلح على مستوى التشريعات المصرية، وتبين أن التشوش المبدئي الذي حكم نشأة هذا المفهوم مازال يؤثر على استخدامه الحالي بشكل يحول دون اعتباره معيارًا موضوعيًا يمكن استخدامه دستوريًا وقانونيًا.