البرامج الصحية الرأسية و نظام التأمين الصحي الشامل الجديد

7 أكتوبر 2020

نشرت هذه الدراسة المشتركة في مجلة الديمقراطية عدد (أكتوبر 2020)

يسعى متخذو القرار من التنفيذيين و السياسيين إلى الوصول إلى دعم المواطنين من خلال تدخلات صحية محددة و ملموسة ، فالبرامج و الخطط الصحية العظمى مثل نظام التأمين الصحي الشامل ، على قدر أهميته و قدرته على تحقيق نقلة مستدامة في تقديم الخدمات الصحية و التغطية الصحية الشاملة ، إلا أن تعقيد تنفيذه و تكلفته و التنفيذ التدريجي له يحول دون قدرته في بعض الأحيان على تحقيق مكتسبات مجتمعية أو سياسية قصيرة المدى يشعر بها المواطن . لذلك ، تصاعدت فى الآونة الأخيرة اتجاهات وسياسات صحية تتبنى حزمة من البرامج والمبادرات الصحية الرأسية مثل البرنامج القومى لمكافحة الفيروسات الكبدية بالمسح واﻻكتشاف المبكر والعلاج والذى استهدف نطاقا واسعا من السكان فى سابقة لم تحدث من قبل إقليميا ودوليا وأكدت القراءات الأولية لهذه المبادرة نجاح مؤشرات الاستهداف وإقبال المواطنين عليها.


الرعاية الصحية الأولية و إعلان ألما آتا: 

بداية ، الرعاية الصحية الأولية هي نهج للصحة والرفاهة يشمل كل المجتمع ويتمحور حول احتياجات وأولويات الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية. وهي تتناول الصحة والرفاهة بجوانبهما البدنية والنفسية والاجتماعية الشاملة والمترابطة.

وجوهرها هو توفير الرعاية للشخص ككل فيما يخصّ الاحتياجات الصحية طوال الحياة، ولا تقتصر على مجموعة من الأمراض المحدّدة. وتضمن الرعاية الصحية الأولية حصول الأشخاص على رعاية شاملة، تتراوح بين الإرشاد والوقاية إلى العلاج وإعادة التأهيل والرعاية الملطِّفة كأقرب ما يمكن إلى بيئة الناس اليومية. وترتكز الرعاية الصحية الأولية على التزام بالعدالة الاجتماعية والإنصاف وعلى الاعتراف بالحق الأساسي في التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه. ففي بعض السياقات، يشير إلى توفير خدمات الإسعاف أو المستوى الأول من خدمات الرعاية الصحية الشخصية. وفي سياقات أخرى، تُفهَم الرعاية الصحية الأولية على أنها مجموعة من التدخّلات الصحية ذات الأولوية للسكان ذوي الدخل المنخفض (وتسمّى أيضاً الرعاية الصحية الأوّلية الانتقائية). ويفهم آخرون الرعاية الصحية الأولية كعنصر أساسي للتنمية البشرية، يركِّز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ووضعت منظمة الصحة العالمية تعريفاً متماسكاً يستند إلى ثلاثة عناصر وهي: 

  • تلبية حاجات الناس الصحية من خلال رعاية شاملة إرشادية وحمائية ووقائية وعلاجية وتأهيلية وملطِّفة طوال فترة الحياة، تحدّد على أساس استراتيجي أولويات المهام الأساسية لخدمات الرعاية الصحية التي تستهدف الأفراد والأسر من خلال الرعاية الأولية وتستهدف السكان من خلال الصحة العمومية كعناصر مركزية لتقديم الخدمات الصحية المتكاملة؛
  •  والتعامل بمنهجية مع المحدّدات الأوسع للصحة (بما في ذلك الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وكذلك خصائص وسلوكيات الناس) من خلال سياسات وإجراءات عامة مستندة إلى أدلة في جميع القطاعات؛
  •  وتمكين الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية من تحسين صحتهم على النحو الأمثل، كمدافعين عن سياسات تعزّز وتحمي الصحة والرفاهة، وكمشاركين في تطوير الخدمات الصحية والاجتماعية، وكمقدّمين للرعاية لذاتهم وللآخرين.

في السنوات التالية مباشرة لاجتماع منظمة الصحة العالمية في ألما آتا في عام  1978 ، كان هناك اهتمام  بشأن التحديات السياسية التي يتعين التغلب عليها حتى يمكن تنفيذ مفهوم الرعاية الصحية الأولية و تحقيق حلم الصحة للجميع . لقد كان هناك تفاؤل واسع النطاق بأن الموارد اللازمة ستكون متاحة . لم يتحقق هذا الحلم بطبيعة الحال ، فما يزال نصف سكان العالم على الأقل يفتقرون إلى التغطية الكاملة بالخدمات الصحية الأساسية. حدث تحول في المناخ السياسي عن الالتزام بتوفير "الاحتياجات الأساسية" لإعلان ألما آتا  ، و بدلا من تطبيق برامج تأمين صحية قائمة على مفهوم الرعاية الأساسية ، اتجه العديد من صناع القرار الصحي إلى البرامج الرأسية في الصحة حيث يرى البعض أن الاتجاه إلى البرامج الرأسية هي الطريق لإنتاج قصص نجاح والحفاظ على حماسة الجهات المانحة والحكومات للاستثمار في الصحة العامة.

لماذا إذن حدث هذه التغير أو بدأ الاهتمام بكثرة بالبرامج الرأسية ؟ في الثمانيينات كانت هناك بعض التحديات الصحية الكبرى مثل  الأمراض المعدية كالسل المقاوم للأدوية و فيروس نقص المناعة البشرية و الملاريا في بعض الدول النامية  حيث كانت هذه التحديات من ضمن الأسباب التي دفعت في الاتجاه إلى البرامج الرأسية ، هذه التحديات الثقيلة خاصة في ظل ظروف الموارد القليلة ( المالية و البشرية ) في الدول النامية دفعت القائمين على التخطيط الصحي ، سواء على مستوى المؤسسات الدولية أو الاقليمية أو الوطنية، إلى التفكير في الانتقائية أو المبادرات المحدودة التي تستهدف مرضا محددا ، و أيضا بسبب التكلفة العالية و المجهود الكبير الذي يحتاجه إنشاء نظام تأمين صحي شامل قائم على وحدات الرعاية الأولية .

البرامج الصحية الرأسية :

"البرنامج الرأسي" هو أحد الاتجاهات في السياسة الصحية  من أهم خواصه :   

 • له أهداف محددة ، يعمل على مرض واحد  أو مجموعة صغيرة من المشاكل الصحية ، تركز الأهداف على المدى القصير أو المتوسط.

• لديه إدارة مركزية و اليات عمل  منفصلة عن وزارة الصحة. 

المنهج الرأسي خاص بمرض محدد ، يسهل معه غالبا الحصول على التمويل ، وتحقيق نجاح سريع في التعامل مع مرض بعينه  ، والمنهج الأفقي هو منهج أكثر شمولاً يسعى إلى التغلب على المشاكل الصحية الأساسية .

يرى بعض الخبراء أن الاتجاه للبرامج الرأسية سببه يعود إلى رغبة الجهات المانحة و الحكومات في تحقيق  نجاحات سريعة و ملموسة في مجال الصحة  ، تكون ذات أهداف محددة ، تستهدف مشاكل صحية محددة ، بالاضافة إلى انها تكون جذابة بشكل كبير للمانحين  .

 و مع انخفاض رواتب العاملين في مجال الصحة من أطباء و تمريض  ، قد تكون هذه البرامج مغرية للأطباء عن طريق  البدلات التي تقدمها البرامج الرأسية  . وقد تؤثر على العمل في المستشفيات و الوحدات الصحية بالسلب ، خاصة عندما يكون هناك نقص في عدد الأطباء أو التمريض ، فالعاملون في البرامج الرأسية منتدبون من المستشفيات و الوحدات الصحية بوزارة الصحة ، مما قد يؤدي إلى العجز في هذه الوحدات و المستشفيات التي يعمل بها هؤلاء الأطباء. 

يفتح هذا نقاشا  واسعا عن الرعاية الصحية الأولية مقابل الرعاية الانتقائية لمرض بعينه . يعتمد النموذج الرأسي على استخدام الرصاصة السحرية ، أي التدخل الطبي  السريع ، من أجل تنفيذ برامج محددة للتعامل مع أمراض معينة على سبيل المثال في مصر البرنامج الوطني لمكافحة فيروس نقص المناعة المكتسبة و حملة القضاء على فيروس سي الأخيرة .يكون المنهج الرأسي أكثر جاذبية  لأنه يسمح  بالوصول إلى العديد من الأشخاص لمنحهم علاجًا لمرة واحدة و حل المشكلة الصحية المحددة ( كما في حالة فيروس سي ) . 

و لكن ،  المشكلة أن هذا المنهج الرأسي به العديد من أوجه القصور لأنه لا توجد رصاصة سحرية بالنسبة للغالبية العظمى من التحديات الصحية التي نواجهها ، بالإضافة إلى أنه في مرحلة ما  ستظهر أهمية دمج البرامج الرأسية  في نظام التأمين الصحي ، و نقل أنشطتها إلى وحدات الرعاية الأساسية في نظام  التأمين الصحي ، أو أن يتوقف البرنامج فور توقف التمويل . 

 تهدف الرعاية الأساسية الشاملة إلى عكس ذلك ، إنه في الأساس منهج أفقي ، يعتمد على وحدات الرعاية الأساسية ، و هو المنهج الذي يعتمد عليه نظام التأمين الصحي الشامل الجديد ، فالنظام الصحي الجديد قائم على فكرة طبيب الأسرة  ، الذي يستطيع التعامل مع حوالي 60% من الحالات الطبية و يقوم بالإحالة إلى المستوى الثاني أو الثالث في حالة عجزه عن التدخل الطبي . أي أن نظام التأمين الصحي الشامل الجديد يقدم تغطية للأمراض من خلال وحدات الرعاية الصحة الأساسية عن طريق طبيب الأسرة بدلا من تخصيص برنامج لمرض بعينه . 

البرامج ( المبادرات ) الصحية في مصر : 

 عند التفكير في كيفية مواجهة  المشاكل و التحديات الصحية في مصر ، هناك اتجاهان رئيسيان للتعامل معها ، هما المنهج الرأسي و المنهج الأفقي. 

و الملاحظ أن وزارة الصحة تميل مؤخرا إلى البرامج الرأسية ( مثل حملة القضاء على فيرويس سي ، و حملة صحة المرأة ، حملة للكشف المُبكر عن أمراض السمنة  و سوء التغذية)  بدلا من الاهتمام بالبنية التحتية لتطبيق قانون التأمين الصحي الشامل عن طريق إنشاء وحدات رعاية أساسية مجهزة تجهيزا جيدا في محافظات المرحلة الأولى في التأمين الصحي الشامل الجديد ، بدلا من ذلك ، تقوم وزارة الصحة مؤخرا بإطلاق العديد من المبادرات الصحية . 

بالإضافة إلى ذلك ، تخلق البرامج الرأسية ازدواجية ، حيث يتطلب كل برنامج رأسي بيروقراطية خاصة به ،  و قد يؤدي إلى فجوات في تقديم الرعاية الصحية الشاملة خاصة في حالة المرضى الذين يعانون من أمراض  متعددة. علاوة على ذلك ، فإن البرامج الرأسية التي يتم تمويلها عبر جهات خارجية مانحة قد تقوض قدرة الحكومة في التفكير في مصادر تمويل مستدامة ، لا تتوقف على المنح الخارجية ، بحيث ينتهي البرنامج فور انتهاء المنح ، لتحسين الرعاية الصحية من خلال خدماتها الخاصة ( أي إنشاء نظام تأمين صحي ) . أدت البرامج الرأسية جيدة التمويل ، و الممولة من المانحين الدوليين إلى "تحويل" العاملين الصحيين المحليين المهرة بعيدًا عن نظام الرعاية الصحية المحلي (الأولي). في إثيوبيا ، على سبيل المثال ، لتنفيذ مقترح الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا ، تم تعيين موظفين طبيين محليين بموجب عقود استشارية بثلاثة أضعاف رواتب القطاع العام. ونتيجة لذلك ، أصبح القطاع الصحي منظمًا بشكل عمودي ، مما يعرض للخطر الوصول إلى الخدمات الصحية الشاملة ويثير مخاوف عميقة فيما يتعلق بالإنصاف .

و في هذا السياق ، تحدثت الأخبار عن عودة العمل بالحملات الرأسية مؤخرا  مثل حملة الكشف عن الأمراض المزمنة.  و لكن  هناك العديد من التساؤلات التي لم يظهر إجابة لها ، و التي يجب البحث عن إجابات لها قبل عودة هذه الحملات   : هل هناك خطة معدة لدمج هذه البرامج في نظام التأمين الصحي الشامل ؟ و إن كانت هناك خطة ما هي ؟ و كيف ستتم عملية الدمج ؟ و ما هي اليات الدمج ؟ و لماذا لم يتم نشر التقارير و المستندات الداخلية لهذه الحملات حتى الان ؟ أو إجراء دراسات مستقلة ، و بإشراف هيئات صحية دولية ، لتقييم مدى نجاح هذه الحملات ( كحملة القضاء على فيروس سي )  في ضوء ما كان مخطط لها قبل البدء ؟ و أين هي قواعد البيانات الخاصة بهذه الحملات بحيث يمكن تقييمها و الخروج برأي حول مدى نجاحها ؟ و لماذا تم البدء بهذه الحملات قبل إجراء مسح صحي سكاني جديد بحيث يتم تقييم الوضع الصحي تقييما علميا أولا و بعدها يتم تطبيق البرامج التي يرى المسح الصحي أنها ضرورية ؟ 

 و هناك نقطة أخرى يجب الإشارة إليها هو أن هذه البرامج قد تنقل لصناع القرار شعورا بالإنجاز و النجاح ، و تغفل الجانب المهم الذي يحتاج إلى الكثير من العمل و الجهد و التخطيط في بناء منظومة التأمين الصحي الشامل من وحدات رعاية أساسية ، و التغلب على المشاكل التي ظهرت في التطبيق التجريبي في بورسعيد مثل سوء توزيع الخدمات والتخصصات على المنشآت المختلفة خاصة المستوى الثاني الذي يمثل عبء على المواطنين مما يضطر الكثيين منهم لركوب  أكثر من وسيلة انتقال و غيرها من المشاكل و أوجه القصور التي ظهرت خلال التطبيق التجريبي في بورسعيد .

الخلاصة :

و لا يعد هذا النقد تقليلا من الحملات الرأسية التي تمت مؤخرا ، خصوصا حملة الكشف عن فيروس سي ، و التي لاقت إشادات كثيرة حتى من منظمة الصحة العالمية ،  و بعضها برامج جيدة بالفعل ، و لكن الأهم هو أن يكون  هناك تقييم علمي مستقل لها ، و أن يتم نشر التقارير و المستندات الداخلية الخاصة بالحملة حتى يمكن الخروج برأي و تحليل لها ،  فضلا عن أهمية أن يكون هناك خطة لدمجها ( و تكاملها )  في نظام التأمين الصحي الشامل  ،على أن تقوم وحدات الرعاية الأساسية في النظام الجديد بتوفير و إتاحة الخدمات التي تقدمها هذه الحملات مثل الكشف عن فيروس سي أو الكشف عن الأمراض غير السارية ، لكي تصبح روتينا يوميا ، ليس مرتبطا بحملة بعينها أو ببرنامجا بعينه ، يتوقف تقديم الخدمات مع توقف البرنامج .

مع قيام البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بإصلاحات في النظام الصحي لتقديم خدمات صحية أكثر إنصافًا وحماية المواطنين من النفقات الصحية الكارثية ، فهم يواجهون خيارات مهمة عن مستقبل البرامج الرأسية الحالية ، بما في ذلك ما إذا كان سيتم دمجها في نظام صحي أوسع . يدافع البعض عن الدمج الكامل للبرامج الرأسية في الرعاية الصحية الأولية ، في حالتنا في مصر في نظام التأمين الصحي الشامل الجديد ، لتعزيز قدرة النظام على تلبية الاحتياجات الصحية للأفراد بشكل أكثر شمولية. و لكن على الجانب الاخر ، لا يخلو هذا الدمج الكامل من المخاطرة بالنتائج السريعة التي تهدف البرامج الرأسية إلى تقديمها و تحقيقها  . و ايضا بعض المدافعين عن البرامج الرأسية  يقاومون دمج البرامج الرأسية خشية أن يؤدي ذلك إلى تقليل الاهتمام السياسي بالصحة و عدم جذب التمويل . من الممكن أن يكون هناك مسارًا وسطيًا - طريقة للتفكير في التكامل تتجاوز مقاربات الكل أو لا شيء أو الكل مرة واحدة. نقترح أن يكون دمج البرامج الرأسية في أنظمة الرعاية الصحية الأولية في نظام الـتأمين الصحي الشامل  بشكل تدريجي ومرحلي و متماشيا مع مراحل تطبيق النظام الجديد. و الأهم ، هو مشاركة البيانات الخاصة بهذه البرامج و فتح نقاش حقيقي مع باحثين و خبراء مستقليين و المجتمع المدني ، في ظل توافر كامل لقواعد البيانات ، حتى نستطيع فهم نقاط القوة و الضعف في هذه البرامج .