من يحصل على الدعم في عام الجائحة؟ إجابات جديدة
حين تعلن الحكومة عن إجراءات وخطط، يلجأ الباحثون والأحزاب والإعلام وبشكل خاص مجلس النواب إلى بيانات الموازنة العامة للتأكد من أن تلك الخطط مخصص لها ما يكفي من الموارد لتغطيتها. وهذا ما قمت به حين أوحت لنا الحكومة بزيادة مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية خلال العام المالي 2020-2021. ولعلكم تفاجأون مثلي حين تعرفون ما عرفت.
هل زاد دعم السلع التموينية في عام الجائحة، أم نقص؟ هناك العديد من التصريحات الرسمية التي توحي بزيادة هذا النوع من الدعم.
وهو أمر منطقي في لحظة عالمية هي اﻷسوأ في التاريخ الحديث. حيث يتوقع البنك الدولي أن يسقط 100 مليون نسمة في عداد الجوعى في الدول النامية، بسبب آثار الجائحة. ولا تعتبر مصر استثناء. حيث تتوقع التقديرات الرسمية سقوط ملايين جدد تحت خط الفقر بنهاية 2020. خاصة مع فقدان أكثر مليون مصري ومصرية لوظائفهم، وبالتالي دخلهم.
ومع ذلك، في هذا التوقيت، تختار الحكومة أن تخفض مخصصات ميزانية الدعم التمويني. كما تقرر تخفيض الاحتياطيات التي تحتفظ بها الحكومة لمواجهة أي طوارئ تتعلق بالأسعار العالمية للغذاء. هكذا، في حين يؤكد نائب وزير المالية للأهرام إبدو على أن كميات السلع التموينية المدعومة لن تتأثر، يتقلص الإنفاق الحكومي على دعم السلع الغذائية بحوالي 4 مليار جنيه. ولم يذهب تقليص دعم السلع إلى دعم الخبز. فقد رأينا مع بداية العام المالي، صدور قرار بتخفيض حجم الرغيف المدعم من 110 جراما إلى تسعين جراما.
ولم يذهب تقليص دعم السلع التموينية لصالح الدعم النقدي للفقراء. بل زاد المبلغ المخصص للعلاج على نفقة الدولة مليار جنيه فقط. في حين ظلت مخصصات معاشات تكافل وكرامة تقريبا بلا زيادة تقريبا (19 مليار جنيه بدلا من 18.5). وظل معاش الطفل هزيلا وبلا أي زيادة. وهو ما يعتبر تجاهلا لمعدلات تضخم من المتوقع أن تصل إلى 9% (وقد تصل إلى 12%)، بحسب التوقعات الرسمية التي اعتمدت عليها وزارة المالية حين خططت للموازنة.
يستفيد من مخصصات الدعم التمويني أكثر من 22 مليون أسرة (حوالي 65 مليون مواطن)، ومن مخصصات تكافل وكرامة أكثر من 3 مليون أسرة (حوالي 15.5 مليون مواطن). وفي المقابل، اختارت الحكومة أن تزيد الدعم الموجه إلى التصدير إلى ما يقرب من الضعف ليبلغ رقما قياسيا هو 7 مليار جنيه. وهو دعم يذهب في نهاية الأمر إلى جيوب قلة صغيرة من المصدرين، ويستفيد منه بشكل خاص المواطن الأوربي والأمريكي. وذلك في لحظة تتباطأ فيها التجارة العالمية. وهو اختيار يدعو إلى التساؤل في ظل تفشي جائحة كورونا، حيث ينبغي إعطاء الأولوية إلى الإنتاج من أجل السوق المحلي على الأقل من السلع الغذائية والأدوية والخضر والفاكهة والتي شكلت صادراتها، في العام الأخير، ما قيمته 2.4 مليار دولار. إضافة إلى الصادرات الأخرى التي تعتمد على المدخلات الزراعية (مثل الألبان والعصائر). وذلك من أجل إتاحة تلك السلع الأساسية في السوق المحلي بكميات كافية وعدم وجود نقص في الكميات المطروحة في الأسواق. وهو ما حرصت عليه الحكومة في الشهور اﻷولى من اﻹجراءات الاحترازية. فهل قررت أن تتخلى عن هذا التحوط خلال العام 2020-2021؟
وأخيرا، قررت الحكومة أيضا أن تدعم الصناعات والشركات كثيفة استخدام الطاقة بمبلغ 10 مليار جنيه إضافية، وذلك في شكل أسعار طاقة أرخص، لمساندتها على تخطي الجائحة. حيث تقدر دراسة أعدتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان: "خالية من الكورونا: خطط الحكومة في العام 2020-2021"، أن دعم الطاقة التي تنوي الحكومة توجيهه إلى عدد ضئيل من الشركات يتساوى تقريبا مع إجمالي الدعم النقدي الموجه إلى ملايين الفقراء.
إجمالا، يذهب 9% من إجمالي ميزانية الدعم بكل أنواعه إلى شركات بعينها من شركات القطاع الخاص. وهو ما يثير تساؤلات حول رشادة السياسة الصناعية. ما هي الصناعات والشركات الأولى بالدعم؟ وكيف نضمن أن يحافظ تصميم الدعم على أن تبقى كل هذه المبالغ متاحة بشكل شفاف إلى جميع الشركات المراد دعمها وليست حكرا على البعض دون الآخر؟
القيصر يدعم القيصر؟
من الطريف، أن الحكومة تجمع الدعم الذي تخصصه للشركات والهيئات الحكومية وإلى القطاع الخاص إلى المزايا الاجتماعية التي يستفيد منها المواطنون (مثل دعم الغذاء). وهكذا تستطيع أن "تنفخ" في المبالغ الي تقول أنها توجهها إلى "الإنفاق الاجتماعي". وذلك تحت مسمى فخيم: باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية.ولكن في الواقع، تتبع الدول تقسيما أفضل ﻷنواع الإعانات والدعم، يوصي به صندوق النقد الدولي منذ عام 2014 (وتتبع مصر في الواقع دليل الصندوق الصادر في عام 2001). فكيف يصبح شكل الدعم في مصر إذا ما اتبعنا التقسيم الأدق؟ في تلك الحالة، نجد أي تحويلات أو مساعدات تقدمها الحكومة إلى المواطنين (أهمها التموين وتكافل وكرامة والبوتاجاز، ثم القليل من دعم الإسكان واشتراكات الطلبة في المواصلات ونثريات أخرى..) ينبغي أن تندرج تحت مسمى "المزايا الاجتماعية". ويزيد عليها في الدول الأخرى أيضا أنواع من التحويلات غير موجودة في مصر رغم أهميتها، مثل بدل البطالة وإعانة التعليم.
وهكذا نكتشف أن مخصصات الموازنة الموجهة إلى المواطنين أو ما يسمى عالميا "باب المزايا الاجتماعية" انخفضت إلى 140.7 مليار جنيه، مقارنة بمبلغ 171.8 في العام المالي السابق. وهو أقل من نصف المبلغ الموجه إلى إجمالي "الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية". إذا لم يكن الشعب، فمن يحصل على الباقي؟
إذا استمرينا في اتباع التقسيم الدولي الأدق، نجد أن نصف مخصصات باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية تذهب هذا العام إلى مؤسسات حكومية. نعم، الحكومة تدعم الحكومة.
حيث يعرف باب الدعم عالميا- على عكس الإيحاء الحكومي المصري- بأنه: "تحويلات بدون مقابل من الجهات الحكومية إلى شركات إما على أساس مستوى نشاطها الإنتاجي أو الكميات أو قيمة السلع والخدمات التي تنتجها أو تصدرها أو تستوردها. وقد يكون مقدمًا إلى مؤسسات حكومية أو تابعة للقطاع الخاص، مالية (مثل البنوك) وغير مالية". ويتشابه مع هذا التعريف أيضا تعريف باب "المنح" الذي هو بدوره تحويلات حكومية بدون مقابل. وقد تكون إلى شركات أو هيئات وقد تكون موجهة أيضا إلى دول أخرى (مثل المساعدات التي قدمتها مصر إلى السودان لمواجهة الفيضانات). فما هي الجهات التي اختارت الحكومة أن تدعمها وتمنحها خلال عام الجائحة؟
***
نجد أن ميزانية المنح موجهة جلها إلى جهات حكومية. كما أن ميزانية الدعم الذي يذهب إلى المؤسسات الحكومية تبلغ حوالي 158 مليار جنيه (أي حوالي نصف إجمالي مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية). معظم تلك الميزانية، هو سداد جزء من مديونية الحكومة إلى صناديق التأمينات الاجتماعية (المعاشات)، ويبلغ 130 مليار جنيه.
سداد المديونية هو أمر محمود بالطبع. ولكنه بالتأكيد ليس إنفاقا اجتماعيا. لهذا لا نفهم لماذا يظهر في "باب الدعم" بدلا من "باب سداد القروض"؟
المبلغ المتبقي تستفيد من معظمه جهات حكومية لا توضحها البيانات المتاحة. وبالتالي للمواطنين أن يتساءلوا ما هي تلك الجهات التي تحصل على دعم يقدر بعشرات المليارات من أموال ضرائبهم ومن أموال قروض تسددها الحكومة من جيوبهم؟ ولماذا تحصل عليه؟ تثير البيانات المتاحة شهية التساؤل أكثر منها تشبع الفضول بإجابات شافية.
وهكذا نتساءل: لماذا يسمى تمويل الحكومة لجزء من تكلفة توصيل الغاز إلى المنازل "دعما" لهيئة الغاز بدلا من "استثمارا"؟ وما هي "الجهات اﻷخرى" وفقا للتسمية الغامضة المعتمدة في جداول الموازنة التي تحصل على دعم ومنح تناهز مخصصات تكافل وكرامة؟
الخلاصة، أن التدقيق في أبواب وتفاصيل الموازنة العامة قد ينتهي بنا إلى التساؤل عن معلومات غائبة عن مستفيدين غير معروفين وتساؤلات أكثر حول أولويات الإنفاق العام وعدالة توزيعها. اﻷمر ليس بالضرورة سيء ولا بالضرورة وراءه مؤامرة. اﻷمر الأكيد هو أننا لا نعرف ما يكفي.
ولكننا نعرف جميعا بالسليقة ومن التجارب الدولية مخاطر إخفاء المال العام. اﻷمر إذن يدعونا إلى مزيد من الشفافية ويقتضي بالتأكيد إفساح المجال للمزيد من المساءلة للحكومة من طرف الشعب والصحافة وأعضاء مجلس النواب ذي الغرفتين.
وفي النهاية، قد تعتقد أن مجلس النواب لم يفطن إلى كل تلك الاكتشافات، ولهذا لم نسمع عنها أثناء مهلة اﻷشهر الثلاثة التي كفلها الدستور من أجل مناقشة الموازنة العامة قبل إقرارها أو تعديلها بحسب السلطة الممنوحة للنواب. ولكن بقراءة تقرير لجنة الخطة والموازنة تجد أنه فطن إلى كل ما سبق أعلاه، دون أن يستوقف أعضاءه أو يستدعي ذلك أي تغيير أو حتى مجرد تعليق. وكأن اﻷمر "عادي". ولا أي اندهاش.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 6 نوفمبر 2020