تاريخ تنظيم توزيع الإرث عند المسيحيين في القانون المصري حتى ثورة يناير
1-معاناة المسيحيات المصريات المتمثلة في حرمانهن من تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في تحديد الورثة وتوزيع أنصبة الإرث مع واقع الازدواجية الحالي بين نص دستوري صريح في إقراره بحق غير المسلمين من المسيحيين واليهود في اتباع مبادئ شرائعهم في مسائل الأحوال الشخصية، وتشريع غامض وملتبس يسمح للمحاكم بتجاهل النص الدستوري ـ قديمة وتعود إلى بواكير التقنين المدني الحديث.
2- في بداية عصر التقنين الحديث صدر "أمر عالي" بإصدار لائحة ترتيب واختصاصات مجلس الأقباط الأرثوذكس العمومي بتاريخ 14 مايو 1883، تلاه صدور عديد من اللوائح المنظِّمة للأحوال الشخصية لمتحدي الملة والطائفة، كالأقباط الإنجيليين والأقباط الكاثوليك. وكانت المجالس الملية هي المختصة بالحكم فى الوراثة وتطبق مبادئ الشريعة المسيحية.
3- قضت محكمة النقض في السنوات الأولى لنشأتها في الحكم الصادر في الطعن رقم 9 لسنة 4 قضائية أن "القاعدة الأساسية في مواريث المصريين غير المسلمين أنها تُجرى وفق أحكام الشريعة الإسلامية ما لم يتفق الورثة الذين تعترف الشريعة بوراثتهم ويتراضون على غير ذلك". والقانون الصادر في 14 مايو سنة 1883 بترتيب مجالس طائفة الأقباط الأرثوذكس، وبيان اختصاصها، لا يشذّ عن تلك القاعدة، بل إن المادة 16 منه، وهى التي أشارت إلى مسألة المواريث، لم تنص على أن الحكم فيها يكون حسب الشريعة المسيحية، بل نصت على اختصاص تلك المجالس بالحكم فى الوراثة متى قَبِل كل الورثة باختصاصها.
4- في غضون عام 1938 صدرت لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، التى أقرها المجلس الملي العام بجلسته المنعقدة في أول بشنس سنة 1654 الموافق 9 مايو سنة 1938، ويتضمن الفصل الحادي عشر منها أحكام الميراث، حيث ينظم كيفية توزيع الإرث وفقًا لمبادئ الشريعة المسيحية.
5- لكن في عام 1943 صدر قانون المواريث رقم 43 لسنة 1943 الذي ينص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المواريث. ثم تنبه المُشرِّع إلي وجود منتمين إلى ديانات أخرى بمصر، فهرع بإصدار القانون 25 لسنة 1944 ببيان القانون الواجب التطبيق فى مسائل المواريث والوصية لغير المسلمين، ليقرَّ أن الأصل هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، والتي تقرُّ تطبيق مبادئ الشرائع الأخرى على أصحابها في الميراث والوصية، شريطة أن يتفق أصحاب الشأن أن يكون التوريث طبقًا لشريعة المتوفَّى، بمعنى أنه إذا لم يتفقوا على ذلك تكون الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق.
6- القانون المدني 131 لسنة 1948، تعرض لمسألة الإرث كأحد الأسباب الناقلة للملكية، ولأن أغلب السكان من معتنقي الديانة الإسلامية، تم النص على إعمال أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة بشأنها، بما في ذلك قانون المواريث بكافة نصوصه وتعديلاته وملحقاته، أي تطبيق القانون رقم 25 لسنة 1944، والذي يقنن حكم الشريعة الإسلامية بتطبيق مبادئ الشرائع الأخرى على معتنقيها في مسائل الإرث.
7- بالرغم من ذلك أُغفلت الشرائع الأخرى من التطبيق في مسائل الإرث، وتمسكت المحاكم بتطبيق مبتور لحكم المادة 875 من القانون المدني المقررة أن تعيين الورثة وتحديد أنصبتهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة بشأنها. وذلك رغم أن القانون رقم 442 لسنة 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والملية وهو قانون لاحق على صدور القانون المدني، أي ناسخ له، تضمن في الفقرة الثانية من المادة السادسة منه أن القانون الواجب التطبيق في منازعات الأحوال الشخصية لغير المسلمين متحدي الطائفة والملة ولهم مجالس ملية قبل صدور هذا القانون هو "شريعتهم". وتطبيقًا لهذا النص تواترت أحكام محكمة النقض على أن أحكام الشريعة الإسلامية والتقنينات المستمدة منها تسري على جميع المصريين مسلمين وغير مسلمين، في شأن المواريث وذلك على ما تقضي به المادة 875 من القانون المدني، وأن قواعد التوريث وأحكامه المعتبرة شرعًا، بما فى ذلك تحديد أنصبة الورثة، تُعدُّ من الأمور المتعلقة بالنظام العام، وهو ما حال دون تطبيق الشرائع الأخرى على أصحابها فى مسائل الإرث.
8- بات تطبيق الشريعة الإسلامية في توزيع الميراث وتوزيع الأنصبة أمرًا مفروضًا على المصريات والمصريين المسيحيين، تطبقه المحاكم من تلقاء نفسها، حتى تناسى الأقباط أحكام شريعتهم المسيحية فى استحقاق وتوزيع الإرث وتوالت أجيال من الأقباط لا تعلم عنها شيئًا. وفي محاولة للتحايل على هذا الواقع الغريب، درج المسيحيون المصريون على التغاضي عمَّا يرد بإعلام الوراثة، والقيام بقسمة رضائية وفقًا لمبادئ الشريعة المسيحية بالمساواة بين الذكر والأنثى في الإرث. ومع هذا لاقت أحكام الشريعة الإسلامية قبولًا لدى قطاع كبير من الذكور المسيحيين، لأنها تمنحهم نصيبًا ضعف الإناث، وحاول بعضهم تبرير ذلك بأن لا إرادة لهم في الأمر، إنما هو قانون الدولة الذي تفرضه المحاكم.
9- عقب ثورة 25 يناير 2011 صدر دستور 2012، مقررة المادة الثالثة منه بأن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود، المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية. لكن لم يبادر أي من أصحاب الديانات الأخري للمطالبة بتطبيق مبادئ شريعته في مسائل الإرث، رغم أن نص المادة جاء مطلقًا بتطبيق شريعتهم في أحوالهم الشخصية، ولم يشترط مطالبة وموافقة الأطراف على تطبيقها، كما في قانون الميراث.
10- صدر دستور 2014 متضمنًا المادة الثالثة في الحكم ذاته. وبالفعل في غضون عام 2016 صدر حكم عن محكمة استئناف القاهرة فى الاستئناف رقم 11666 لسنة 133ق من الدائرة 158 (أحوال شخصية) بتطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في توزيع الإرث بين ورثة مسيحيين، والمساواة بين نصيب الذكر والأنثى وفقًا للمادة الثالثة من الدستور ونصوص لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة 1938 وتعديلاتها.
11- ينتظر النص الدستوري بأحقية المسيحيين في تطبيق مبادئ شرائعهم في مسائل الأحوال الشخصية التفعيل بإصدار قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين. إن مرور أعوام منذ إقرار النص الدستوري دون إصدار قانون واجب التطبيق في المحاكم يمكن الرجوع إلى أعماله التحضيرية لبيان قصد المشرع ولا يُترك لتفسير القائمين بتطبيقه، يعدُّ إشارة واضحة على غياب الإرادة السياسية لمعالجة هذا الغموض التشريعي الذي تدفع ثمنه مواطنات مسيحيات كاملات الحقوق.
12- نكرر مطالبتنا بتفعيل نص المادة الثالثة عن طريق المسارعة لإصدار قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين يتضمن نصوصًا قاطعة عن توزيع الإرث وفقًا لمبادئ الشريعة المسيحية التي تسمح بالتساوي بين الأنثى والذكر في الأنصبة الميراثية. وإلى حين استصدار هذا القانون نطالب المحاكم بتطبيق أحكام اللوائح المنظِّمة للأحوال الشخصية للمسيحيين السارية في مسائل الإرث، وأبرزها لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938 وتعديلاتها.