اعتداءات بني مزار: مشاركة مسؤولي الدولة في توقيع العقوبات "العرفية" تكرس الطائفية بدلًا من علاجها

بيان صحفي

26 أكتوبر 2025

تدين المبادرة المصرية للحقوق الشخصية معالجة أجهزة الدولة لأحداث التوترات الطائفية التي شهدتها قرية نزلة جلف بمركز بني مزار شمال محافظة المنيا، الأربعاء الماضي 22 أكتوبر، على خلفية البحث عن  فتاة مسلمة ووجودها بمنزل إحدى الأسر المسيحية لعدة ساعات. واتهمت أسرة الفتاة شابًا مسيحيًا بخطفها، وتبع ذلك تنظيم مسيرات غاضبة بشوارع القرية، ورشق منازل مسيحييها بالطوب، وحرق عدد من عشش الأسر المسيحية بالأراضي الزراعية. إثر ذلك؛ عُقدت "جلسة عرفية" قضت بتغريم الأسرة المسيحية مليون جنيه وتهجيرها من القرية بعد بيع ممتلكاتها.

على مدار ما يقرب من عشرين عامًا قام باحثو المبادرة المصرية بتوثيق ودراسة استعمال "الجلسات العرفية" في سياق الوقائع الطائفية في عديد من المحافظات، وتحليل مخرجاتها وتتبع آثارها. وفي عام 2015، أصدرت المبادرة دراسة بعنوان "في عرف من؟ دراسة عن دور الجلسات العرفية في النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة" تضمنت أبرز نتائج هذا التحليل. وبالرغم من عدم الاعتراض من حيث المبدأ على التدخلات المجتمعية  ودور القيادات الطبيعية المحلية في حل النزاعات الطائفية، لما قد تلعبه من دور في السيطرة على أحداث العنف الطائفي وكبح تمدده، فإن هذا التوثيق يظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن اختلال موازين القوى في سياق المشكلة الطائفية يؤدي في الغالبية الساحقة من هذه الحالات إلى قرارات عرفية تحمي الجاني من المساءلة، وتعاقب الطرف الأضعف حتى عندما يكون الضحية، وتعمم التنكيل على أسرة الشخص المعني بل وجميع من يعتنقون ديانته في محيطه فقط لكونهم من المسيحيين.

 

 تشدد المبادرة المصرية مجددًا على أن هذه الجلسات بشكلها الحالي تمثل افتئاتًا على مبادئ المواطنة ومنع التمييز ونظامها القانوني، خاصة في ضوء رعاية قيادات أمنية ورسمية لتلك الجلسة، وإملاء بعض القرارات المعدة مسبقًا إلى لجنة التحكيم العرفي. وتؤكد المبادرة المصرية أن هذه الآلية ساهمت في تعميق النزاعات الطائفية لا  احتوائها، وأنها تحولت إلى مصدر إضافي لانتهاكات متعددة لحزمة من الحقوق الدستورية الأساسية للمواطنين في ظل غياب أدوار فعلية لمؤسسات الدولة السياسية والشعبية. 

وفقًا لعدة إفادات من أهالي القرية، تسود روايتان للواقعة:  الرواية الأولى من جانب أسرة الفتاة التي لاحظت اختفائها، فبحثت عنها داخل القرية، إلى أن أرشدها أحد الجيران إلى وجود الفتاة داخل منزل الأسرة المسيحية، وأنها فقدت الوعي داخل “دكان للبقالة” فحملها الشاب المسيحي إلى منزل أسرته الذي وجدت به. أما الرواية الثانية فهي للجانب المسيحي، ومفادها أن الفتاة المسلمة صديقة شقيقة الشاب المسيحي، وتجمع علاقة عاطفية بين الشاب والفتاة، وأنها ذهبت إلى منزل الأسرة بإرادتها.

في غياب حقيقة الواقعة من جانب صاحبة الأمر، تظهر طريقة معالجة هذه الأحداث رسوخ نمط من العلاقات يتعامل مع المسيحيين كـ"قبيلة"، يصبح كل أفرادها مسؤولين عن خطأ أي فرد منهم، حتى لو لم يمت أيهم له بصلة قرابة أو  معرفة مسبقة. وبالتوازي مع ذلك يصبح جميع المسلمين مسؤولين عن "شرف الفتاة أو السيدة المسلمة"، ومن ثم فكلهم مطالبون بالدفاع عنه.

ما يثير القلق هو طريقة الوصاية على الفتاة، وتجاهل اختياراتها، وعدم الاهتمام بالتأكد من سلامتها وعدم تعرضها لأي عقوبات من أسرتها نتيجة اختياراتها أو حتى نتيجة الاعتداء عليها في حال صدق رواية الأسرة. 

فور انتشار خبر العثور على الفتاة داخل منزل أسرة الشاب المسيحي، انتشرت "بوستات" ومقاطع فيديو تحمل تحريضًا على الاعتداء على مسيحيي القرية وكنيستها، ثم تجمهر العشرات ورشقوا منازل مسيحيين ليس لديهم أي صلة بأسرة الشاب بالحجارة، مما أدى لتحطيم بعض النوافذ. فيما أشعلت النيران في بعض العشش داخل الأراضي الزراعية المملوكة لمسيحيين. وتظهر منشورات ومقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي استغاثة بضرورة تدخل الجهات الأمنية لمنع تفاقم الاعتداءات، في حين كانت بعض المقاطع للاعتداءات، ومنها فيديو يظهر به سيدة وأطفال يرشقون أبواب منازل بالطوب. ونجحت قوات الأمن في تفريق المتجمهرين سريعا، وألقت القبض على الشاب المسيحي، فيما غادرت أسرته وأسرة عمه وجده القرية مع تصاعد أجواء التوتر والتحريض.   

خلال الأيام التالية، التزم مسيحيو القرية منازلهم خوفًا من تعرضهم للاعتداء في ظل استمرار موجة التحريض. وعقدت جلسة صلح عرفي  الجمعة 24 أكتوبر 2025، بمنزل العمدة محمود أحمد يحي، وبتنسيق مع القيادات الأمنية بمحافظة المنيا، وحضور عدد من المحكمين والقيادات الأمنية وأهالي قرية نزلة جلف وكاهن كنيسة القرية. 

خلال جلسة الصلح، استدعى جد الشاب المسيحي، وبحضور عدد من مسيحيي القرية تم حلف "يمين تبرئة"، لإبراء ساحتهم بأن الموضوع لم يكن له ترتيب ولا إعداد مسبق، إنما تفكير وليد اللحظة من شاب طائش. وقررت لجنة التحكيم العرفي الآتي:

- تغريم أسرة الشاب المسيحي مليون جنيه

- النص على شرط جزائي مليوني جنيه على الطرف المخل بشروط الاتفاق لصالح الطرف الملتزم

- استكمال الإجراءات القضائية ضد الشاب

- الامتناع عن الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي

كما أقرت لجنة التحكيم بقرار لم يتم تلاوته خلال قرارات الجلسة، لكن تأكدنا من صحته من أكثر من مصدر، وهو تهجير  أسرة الشاب المسيحي وجده من القرية وبيع ممتلكاتهم. 

ينص الدستور المصري في مادته 95 على أن العقوبة شخصية، فلا يجوز توقيع العقوبة إلا على الشخص الذي أدين بارتكاب مخالفة أو جريمة، لكن بالنسبة إلى محاكم الجلسات العرفية، فقد فُرضت ألوان مختلفة من العقاب الجماعي لأسباب عائلية ودينية. ويعد التهجير أحد أقسى العقوبات التي تطول أسرًا بكاملها، ذلك بالرغم أن  الدستور المصري نص في مادته (63) على حظر "التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم"، وهو ما لم تلتزم به لجنة التحكيم العرفي التي  لجأت إلى التهجير كتسوية ظالمة لإرضاء الأغلبية الغاضبة وتهدئة الشارع، برعاية وموافقة -بل وحضور- القيادات الأمنية التي دعت إلى تشكيل اللجنة العرفية. ووفقا لشهادة أحد المحكمين، فإن هذه القرارات كان متفقًا عليها قبل عمل اللجنة، وذلك بحضور اللواء عادل مكرم من مديرية أمن المنيا والعمدة محمود يحيى اللذان دعيا إلى تشكيل اللجنة العرفية. 

وتطالب المبادرة المصرية أجهزة الدولة بالتوقف عن دعم قرارات لجان الصلح العرفي التي تنتهك الدستور، وحماية المواطنين من التعرض لاعتداءات لمجرد الاشتراك مع أطراف المشكلة في نفس الديانة. إن نقطة البدء لحل هذه النزاعات الطائفية تتمثل في التطبيق الفوري لأحكام الدستور والقانون ذات الصلة بهذه النزاعات دونما تمييز أو انتقاء، مع ضمان سلامة وحماية حقوق النساء اللاتي يكن موضوعًا للانتقام أو الصراع الطائفي في مثل هذه الوقائع.

لمزيد من المعلومات، يمكن الرجوع إلى دراسة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.. في عرف من؟ دراسة عن دور الجلسات العرفية في النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة