الإدارة الرشيدة أو الحوكمة فى القطاع الصحى
أبرزت استراتيجية التنمية المستدامة فى مصر 2030، التزاما حكوميا لوضع وتطبيق أطر فعالة للحوكمة والإدارة الرشيدة للمنظومة الصحية. يشمل ذلك وضع آليات لاتخاذ القرار بشكل تشاركى مبنى على البراهين العلمية والمساءلة والشفافية واللامركزية وحكم القانون بلا تمييز.
تلك هى معضلة نظامنا عمومًا ونظامنا الصحى خصوصًا، وهى غياب السياسة الصحية طويلة المدى التى تحكمها قواعد حوكمة وشفافية، التى تتفرع منها كافة مشاكلنا القائمة من سنوات بدون رؤية أو حلول جذرية، وفق فهمنا وتحليلنا المبنى على شجرة التشخيص العلمى والسياسى والاقتصادى.
بالرجوع لواقع نظامنا الصحى فى العشرية الأخيرة، نرصد تحقيقه لبعض النجاحات مثل الحد من انتشار فيروس سى الكبدى، وصدور قانون التأمين الصحى الشامل، وفق المادة 18 فى الدستور، بعد رحلة طويلة من العمل والمعاناة والصراعات والبدء فى تنفيذه فعليا حتى الآن فى عدد من المحافظات بنسبة 80% من السكان، كما صرح وزير المالية.
إن الإطار الحالى للحوكمة يفتقر بشكل كبير لسياسات محددة واضحة وأطر تنظيمية تضمن تحقيق المحددات السابقة التى كتبناها. بل يبدو أن فى أغلب الأحيان تلك المحددات المتعلقة بإشراك الأشخاص المعنيين والمتعلقة بالشفافية ووضوح الرؤية الاستراتيجية والمساءلة قد تكون مخالفة بشكل واضح لاتجاهات وأولويات أصحاب القرار وهذا يهدد بشكل أساسى المجهودات الهادفة إلى إصلاح المنظومة والتى لن يمكن ضمان استدامتها وفعاليتها وعدم الاستخدام الرشيد لمواردها بكفاءة وشفافية دون توفير معلومات كاملة غير مجتزئة أو مضللة وإشراك المجتمع فى مناقشتها والإشراف عليها.
• • •
نرى فى هذا السياق إذا كنا نريد فعلا إصلاحا حقيقيا وجادا للمنظومة الصحية أن الخطوات الأولى والأساسية فى وضع وتفعيل إطار لحوكمة النظام الصحى هى إنشاء آليات دائمة لإشراك الأشخاص المعنيين (من المواطنات والمواطنين والخبراء المستقلين ومن يمثل النقابات) فى اتخاذ القرار، ومراقبة الأداء الخاص بالجهات التنفيذية وخاصة فيما يتعلق بتطبيق نظام التأمين الصحى الشامل الجديد كاستراتيجية للإصلاح. وتشمل هذه الآليات تشكيل لجان لحقوق المرضى فى جميع المؤسسات الصحية، ومجالس لأمناء المستشفيات، وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للصحة تشاركيا وفعالا للتوجيه الاستراتيجى فى الصحة.
وفى هذا الصدد، يمثل المجلس الأعلى للصحة بيتا للخبرة ولتمثيل الأشخاص المعنيين يهدف إلى وضع السياسات الخاصة بالقطاع الصحى ككل والخطة الاستراتيجية الخمسية والعشرية لها واعتمادها مجتمعيا ثم مراقبه الجهاز التنفيذى فى تحقيقه لها. ويتكون المجلس من مجموعة متنوعة من الشخصيات بصفاتهم المهنية يمثلون مختلف الأشخاص المعنيين والمؤثرين والمنتفعين من الخدمات الصحية بقصد توفير أعلى مستويات المشاركة المجتمعية، ويشترط فى هذا المجلس أن يكون مستقلا فى عمله غير تابع لوزارة الصحة ويعمل من خلال لائحة داخلية يكتبها الأعضاء ولا يتدخل فى عمله أى جهة تنفيذية وأن يكون رئيسه بالانتخاب من أعضاء المجلس غير العاملين بالجهاز التنفيذى، وأن تكون مخرجاته من استراتيجيات وتوجهات ملزمة للجهات التنفيذية وإلا تكون عضويته مصدرا للتربح، وأن تكون أوجه الصرف لعمله محددة ومقننة.
على صعيد آخر، يظهر للقطاع الصحى فى مصر العديد من التحديات الكبيرة والتى تحتاج للمزيد من التخطيط، على رأس هذه التحديات العبء المزدوج للمرض، حيث يزيد عبء الأمراض غير المعدية بالتوازى مع استمرار عبء الأمراض المعدية، من تحديات متوقعة مثل آثار التغير المناخى على الصحة العامة، هذا بالإضافة إلى حدوث ارتفاع مطرد لا يتوقف فى تكاليف الرعاية الصحية. هذا يضع عبئا مضاعفا على المجتمع بأكمله وبشكل أكثر قوة على الطبقات الاجتماعية الأفقر والأضعف والأكثر هشاشة. هل هناك استراتيجية لكيف يمكن للنظام الصحى (والتأمين الصحى الجديد) التعامل مع مثل هذه التحديات؟
• • •
خلاصة ما سبق تضع التساؤلات التالية للمسئولين فى القطاع الصحى:
أولا: تم تحصيل رسوم وضرائب موجهة لمنظومة التأمين الصحى الشامل الجديد فى إطار الجمهورية، فى حين أن التطبيق شمل فقط أربع محافظات بنسبة 80% من السكان. ماذا سيتم تقديمه لمواطنى ومواطنات المحافظات الأخرى من هذه الأموال التى بلغت قرابة 74 مليار جنيه وفقًا لتصريح وزير المالية الأخير، حتى يصل إليهم تطبيق القانون الجديد وكيف يمكن لوزير المالية إجراء دراسة اكتوارية للنظام الجديد فى ظل هذا الوضع الفريد؟
ثانيا: متى تصبح بيانات المسئولين عن تنفيذ القانون أكثر دقة ومصداقية فيما يخص معايير حقيقية لنسب التغطية الأسرية بالنظام الجديد؟ ونسب الإحالة فيه من مستوى الرعاية الأولية للمستويات الأعلى؟ وما هو عدد أطباء الأسرة الفعليين حاليًا العاملين فى المحافظات محل التطبيق؟ وما هو نظام الدفع المالى لهم لقاء عملهم؟
ثالثا: ماذا تم فيما يخص تسعير الخدمات المقدمة من القطاع الخاص داخل النظام الجديد؟ وهل تم وضع نظام محدد لذلك؟ أو الإعلان عنه؟
نقطة أخرى عن ضرورة التنسيق والتكامل ووضع إطار عمل ينظم عمل/ ويمنع تضارب مصالح الهيئات الثلاث القائمة على تطبيق التأمين. بالإضافة إلى تحديد العلاقة بين الهيئات الجديدة مع وزارة الصحة وإعادة هيكلة الوزارة لما يناسب دورها الجديد المستقبلى كمنظم.
وأخيرًا، ماذا تم فيما يخص تحديد دور القطاع الخاص الطبى فى تلك المنظومة الجديدة، وخاصة دور شركات التأمين الخاصة أو شركات إدارة الخدمة؟ وما موقف القطاع الخاص الربحى الكبير، المستشفيات الكبيرة الاستثمارية التى بالطبع لها مصالح وأهداف وموقف من قانون التطبيق، هل هناك أى استراتيجية للتعامل مع القاطع الخاص الصحى بمعناها الواسع بما يشمل قطاع الدواء وسلاسل الصيدليات وخلافه؟ ما زالت هناك فجوة فى هذا الشأن غير معلومة. وإن كانت هناك آليات للتعامل مع هذا القطاع هل تم بالشكل الذى يضمن علاقة تراعى ما نص عليه القانون فيما يتعلق بالعدالة فى تحصيل الرسوم والاشتراكات وجودة الخدمة؟
نقطة أخرى تحتاج للوقوف عندها، هل تم القيام بمراجعة اكتوارية لتنفيذ التأمين فى السنوات المقبلة مع التغيرات الاقتصادية والظروف الاجتماعية وتغير نسب الفقر فى المجتمع وتخفيض سعر العملة، أخذا فى الاعتبار الاعتماد المفرط على الاستيراد فى توفير مدخلات القطاع الصحى من أدوية ومستلزمات طبية وخلافه، فهل تم قياس تأثير كل هذه العوامل على خطط الاستدامة والاستمرارية الخاصة بالتأمين؟ هل هناك حساب لنسب غير القادرين التى قد تكون زادت؟
ويبقى الأساس فيما طرحته فى هذه التساؤلات التشديد على أهمية توفير المعلومات والشفافية الكاملة فيما يخص عملية تطبيق النظام التأمينى الجديد ومراحله وخططه الحاكمة بوضوح علمى غير دعائى، حتى يتمكن المجتمع من التفاعل معه بإيجابية توازى التاريخ والجهد الذى بذل فى سبيله كطريق عظيم مهدنا له بكثير من العرق للإصلاح.
نُشرت هذه المقالة في الشروق بتاريخ 1 يونيو 2023