الصحة حديد!
فى ٢٣ يناير الماضى، قطع الأب الرحلة قادما من يوهان الصينية عبر القطار ليزور ابنه الذى يعمل فى إحدى مدن فيتنام، «هو تشى منه». وهكذا ظهرت أول إصابة فى تلك الدولة النامية محدودة الإمكانيات والتكنولوجيا..
منذ تفشى الجائحة، يرد ذكر فيتنام كثيرا فى الأخبار الدولية (ولا نسمع عنها فى مصر). لأنها واحدة من الدول الأنجع والأنجح فى التصدى للفيروس. هى دولة متوسطة الدخل ذات إمكانيات محدودة ماليا وتكنولوجيا. تفوقت على الدول الكبرى فى الحرب ضد كورونا.
حين تقرأ أخبار فيتنام قد تندهش.. حيث تصاعد القلق منذ بداية الأسبوع الماضى هناك مع تصاعد أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد. حيث شهدت البلاد ٣٠ إصابة جديدة فى العاصمة هانوى ومدينة هو تشى منه، والإقليم المركزى المرتفع. وسرعان ما رحّلت ٨٠ ألف زائر لمدينة سياحية وتستعد حاليا لإغلاقات متعددة لمدن وأحياء. وذلك بعد أن ظلت ثلاثة أشهر بلا أى إصابات، وتخفيف محدود لإجراءات الحظر.
فكم بلغ عدد الإصابات الإجمالية منذ يناير الماضى؟
أجرت فيتنام ٤٣٠ ألف اختبار وهو عدد ضئيل مقارنة بدول أخرى متوسطة الدخل (وضعف عدد الاختبارات لكل مليون نسمة، مقارنة بمصر، بحسب (مركز التحكم والوقاية من الأمراض) (مركز حكومى أمريكى). أظهرت تلك الاختبارات أن إجمالى عدد الإصابات هناك بلغ ٤٥٩ حالة فقط. تعافى منها ٣٦٩ ولا توجد ولا حالة وفاة واحدة. وتؤكد دراسات مستقلة درجة ثقة مرتفعة فى البيانات الرسمية.
معقول؟ نعم.
يبلغ عدد سكان فيتنام أقل قليلا من ١٠٠ مليون نسمة وتشارك الصين حدودا طويلة. وقد تحولت خلال العقدين الماضيين من واحدة من أفقر دول العالم حيث كان متوسط دخل الفرد يبلغ ١٠٠ دولار فى العام إلى دولة ذات دخل متوسط منخفض (وضع مشابه لمصر).
تراكمت خبرة لدى الدولة فى التعامل مع الأمراض المعدية، مثل سارس وإنفلونزا الطيور وغيرها، وتعلم الحكومة أن إمكانيات نظامها الصحى لا يتحمل ولو عددا ضئيلا من الإصابات. لذلك اتبعت فيتنام منذ اليوم الأول أسلوبا أسماه الخبراء «المبالغة فى رد الفعل»، وفقا لتقرير على موقع «بى بى سى». وهو أسلوب ثبتت جدواه، وتكلفته المنخفضة نسبيا.
اتخذت فيتنام سريعا إجراءات احتاجت دول أخرى شهورا لاعتمادها. ففرضت قيودا على السفر، وأغلقت الحدود المشتركة مع الصين، وكثّفت من إجراء الاختبارات الصحية المجانية للكشف عن الفيروس على الحدود، وفى أماكن أخرى معرضة لنقل المرض، وبدأت حملة واسعة لتعقب الوافدين وتتبع المصابين والعزل على نفقة الدولة. والأهم، نجحت الدولة فى التمسك بالإغلاقات المحلية لأى منطقة مصابة ولو بعدد قليل، رغم الضغوط الاقتصادية.
وعلى الرغم من أنه من الصعب تكرار نجاح فيتنام فى وقف انتشار الڤيروس، لأن التوقيت المبكر كان هو العامل الأساسى وراء عدم الانتشار، فإن المقارنة الأهم هى فى مجال الإنفاق الحكومى لمواجهة البطالة ونقص الدخول لدى المواطنين، وهى أمور تحتمل التحسين والمراجعة، وينطبق عليها المثل الإنجليزى «أن تأتى متأخرا أفضل من ألا تأتى». كما أن أى إجراءات للحظر لا تستقيم بدونها. خاصة وأن العالم يستعد لموجة جديدة من الإغلاق.
ويرصد موقع (منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية) (نادى الدول الغنية) استجابات عدد كبير من الدول تجاه الجائحة، منها ما يتعلق بالإجراءات الصحية، ومنها الإجراءات الاقتصادية الرامية لتخفيف العبء عن المواطنين التى لا غنى عنها مع إجراءات الحظر.
من تلك الإجراءات الاقتصادية ما يشبه مصر ولكنى أخص بالذكر هنا ما زاد عنها، وله طابع اجتماعى، لم أجد له شبيها مصريا، مثلا توزيع دخل نقدى على ٢٠ مليون مواطن وإعانات نقدية للأسر التى تقع على خط الفقر وحوله. إعفاء قروض الموظفين من الفوائد. وتوزيع إعانات بطالة على أولئك الذين لا يتمتعون بالحماية الاجتماعية التى توفر لهم تلك الإعانات بشكل تلقائى ويبلغ عددهم مليون نسمة. كما تقرر تخفيض فاتورة الكهرباء المنزلية وكذلك التجارية بـ١٠٪ لمدة ثلاثة أشهر.
اللافت للنظر أيضا إلى جانب غلبة المخصصات الموجهة إلى المواطنين وأصحاب الأعمال الصغيرة على حزم مساندة الشركات الكبيرة، هو أن كل المبالغ التى تخطط الحكومة أن تنفقها موضحة فى البيانات الرسمية ومصادر التمويل من الموازنة العامة، على عكس الحالة المصرية.
حيث تغيب خطط مواجهة كورونا من البيانات الرسمية لدينا، ومعظم المبالغ المعلن عنها فى مصر غير مدرجة فى الموازنة العامة، كما أن وزير المالية أعلن فى البيان المالى أمام البرلمان أن الموازنة (التى وافق عليها البرلمان منذ شهر) لم تتضمن أى إجراءات خاصة بمواجهة كورونا.
تقدم ورقة بحثية، صدرت حديثا عن المبادرة المصرية، تحليلا لاستجابة الموازنة العامة لانتشار فيروس كورونا والآثار الاقتصادية التى تسبب فيها على حياة ملايين المصريين، لتجد أن خطط الحكومة للعام ٢٠٢٠ــ٢٠٢١ خالية من الكورونا.
فلنبدأ بأن الحكومة قررت أن تخفض مخصصات الدعم التموينى، فى هذا العام الأعجف الذى يتوقع أن يفقد فيه الملايين وظائفهم وقوت يومهم، بمقدار حوالى ٤ مليارات جنيه. كما لم تقم سوى بزيادة طفيفة جدا فى مخصصات برنامجى تكافل وكرامة (لا تراعى التضخم المتوقع ولا تخطط لزيادة أعداد المستفيدين). ولم تخطط الحكومة لأى إعانات بطالة خلال العام الذى بدأ فى يوليو ٢٠٢٠.
الحكومة هى المستفيد الأكبر من الدعم
يوضح تحليل فاتورة الدعم لهذا العام أن الحكومة تختار أن توجه أموال الضرائب والقروض إلى دعم مؤسسات حكومية أكثر من الأسر المصرية.
أكبر جهة تتلقى الدعم الحكومى هى هيئة التأمين الاجتماعى (المعاشات). وتسمى هذه المبالغ دعما وهى فى حقيقتها سداد مديونية متراكمة عليها لصالح تلك الهيئة. وبعد ذلك، تخصص الحكومة منحا لعدد من المؤسسات الحكومية التى لم تُطلع الشعب عليها، ولا على أسباب دعمها بما يعادل تقريبا مخصصات تكافل وكرامة. إضافة إلى بند يسمى «دعم أخرى» يبلغ 8,6 مليار جنيه. (٥,٥٪ من ميزانية المنح والدعم). والتساؤل الواجب هو: لماذا تدعم الحكومة ــ الحكومة، من جيوب دافعى الضرائب، بدلا من العاطلين والمرضى والفقراء؟
كورونا يواجه أربع سنوات من الالتفاف
أما على خط المواجهة المباشر مع الكوفيدــ19، تخطط الحكومة لزيادة الإنفاق على الصحة بحوالى ٢٠ مليار جنيه، إلا أنها لم تعلن عن أوجه إنفاق ثلاثة أرباع هذا المبلغ، مما لا يتيح المتابعة والتأكد من حسن إنفاق تلك الزيادة. ومن تلك الزيادة ٣ مليارات جنيه موجهة لإنشاء إحدى هيئات التأمين الصحى. ولا تسأل لماذا يتكلف إنشاء هيئة هذا المبلغ الضخم فى عام واحد؟
الأهم، وعلى الرغم من تصريحات وزير المالية أمام مجلس النواب، توضح البيانات المنشورة على موقع وزارة المالية أن الإنفاق الحقيقى على الصحة ما زال أقل من نصف الحد الأدنى الدستورى للإنفاق على الصحة. حيث تبلغ النسبة هذا العام 1,37٪ من مجموع الإنفاق على كل السلع والخدمات المنتجة محليا، (مقابل الحد الأدنى الدستورى ٣٪). وهى ثالث أدنى نسبة إنفاق فى السنوات السبع الماضية. وتشرح الورقة أيضا الخدعة التى وافق عليها البرلمان منذ أربع سنوات للالتفاف على النص الدستورى وعواقب تلك الخدعة على جودة الصحة والتعليم.
الخلاصة، لم تلزم الحكومة نفسها خلال عام الجائحة بأى إجراء لتخفيف انتشار الجائحة أو لعلاج المواطنين، أو مساندتهم اقتصاديا، بحسب المنشور من وثائق الموازنة الرسمية. وفى غياب دور فعال للرقابة على المال العام من خلال البرلمان أو الإعلام. وغياب أى كتل مستقلة ومعارضة عن الحياة السياسية، فلا نملك إلا أن نهلل حين نسمع عن هذا الإنجاز الطبى أو ذاك، وندعو فى سرنا أن يكون صحيحا. ولن نعلم الحقيقة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٣١ يوليو ٢٠٢٠