أسئلة الطاقة الواجبة
هل الطاقة النووية السلمية هى أداة تقدُّم وعلم، أم أداة دمار للبشر وللموارد؟ فى الثمانينيات والتسعينيات، كان نظام مبارك يراوغ الإسرائيليين ويروض المعارضة فى الداخل عبر خطاب مزدوج.. أحدهما دولى مناوئ لانتشار السلاح النووى؛ حيث كانت إسرائيل (وما زالت) هى القوة الإقليمية الوحيدة التى يعتقد أنها تمتلك السلاح النووى، ولم توقـّع ــ حتى الآن ــ على معاهدة انتشار السلاح النووى، على عكس كل الدول العربية وإيران. والخطاب المباركى الآخر، هو خطاب ملوح بتهديد مبطن بامتلاك القدرة على صنع سلاح نووى. وذلك عن طريق إعلان النية عن إنشاء مفاعل نووى للأغراض السلمية، والشروع فى اتخاذ إجراءات امتدت بلا نهاية.
آمن الكثيرون من أبناء جيلى ــ وأنا منهم ــ بأن بناء المفاعل النووى هو فعل مقاوم حميد.
وآمن الكثيرون من المتخصصين فى ذلك الوقت بأن الطاقة النووية تظل أكثر أمنا وأقل تكلفة وأكثر استدامة من أنواع الطاقة الأخرى، إضافة إلى ما تستلزمه من بناء كوادر علمية على أعلى مستوى، وهو أمر جيد فى بلد لا يتسم بالتقدم العلمى. ولم يكسر حادث تشرنوبل، وهو أكبر حادث انفجار لمفاعل نووى، وقع فى أوكرانيا ــ الاتحاد السوفيتى، عام 1986، من الحماس للفعل المقاوم الذى يدعو لامتلاك طاقة نووية سلمية. ولكنه ربما أقنع نظام مبارك بمجرد التلويح به دون التنفيذ. وجاء القرن الواحد والعشرون حاملا تطورين جديدين ليقلب الميزان.
الرحلة من الشك إلى الإيمان
أولا، انخفضت تكاليف إنتاج الطاقة المتجددة النظيفة. يجمع الكل على أن الطاقة المتجددة من الشمس والرياح هما الأفضل والأكثر استدامة والأنظف. ولكنها كانت الأكثر كلفة. إلى أن حملت السنوات الأخيرة معها من التطورات العلمية ما يجعلها الأوفر. فى مصر، تعادل تكلفة إنتاج نفس القدر من الكهرباء من الطاقة النووية ستة أضعاف إنتاجها من الرياح وثلاثة أضعاف إنتاجها من الخلايا الفوتوڤولتية (الشمسية). وأيضا 12 ضعفا تكلفة إنتاجها من الغاز الطبيعى.
ثانيا، ظهر جيل من المفاعلات ما بعد تشرنوبل، ليتفادى تكرار الحادثة، أو هكذا كان الظن. حيث تم رصد حوالى 200 حادث نووى فى الولايات المتحدة وحدها خلال الثلاثين عاما التى تلت تشرنوبل. وثق التاريخ حادثة نووية كل عشر سنوات حول العالم. وتتنبأ الدراسات بأن احتمال وقوع حادثة نووية خلال الثلاثين عاما القادمة يصل إلى 50٪.
وفى 2011، انهارت مفاعلات فوكوشيما دايتيش فى اليابان عام 2011، أحد أخطر الحوادث، بسبب زلزال وأمواج تسونامى التى ضربت المنطقة ما أدى إلى تعطيل وحدة إمداد الكهرباء الخاصة بالطوارئ فى محطة الطاقة النووية، ليذكرنا بما يمكن أن تفعله عوامل التغير المناخى وغضب الطبيعة، رغم كل الاحتياطات. إن العبرة ليست فقط باحتمالية تكرار الحوادث، ولكن بفداحة العواقب.
ألقى هذان التطوران الشك لدى الكثيرين حول جدوى إقامة المفاعلات النووية، وخاصة فى مصر.
جاء ذلك، وكل ما تقدمه هذه المقالة من معلومات فى دراسة متعمقة محايدة، تمت على مدى عامين، معتمدة على أكثر من مائتى مرجع ومقال علمى والمشاركة فيما سمى بالحوار المجتمعى الذى أقامته الحكومة فى الضبعة، ولقاءات مع المتخصصين والمسئولين. وتزخر الدراسة بالأشكال البيانية والصور حول العالم لتوفر كمًّا هائلا من المعلومات عن الطاقة النووية ومقارنتها بأنواع الطاقة الأخرى، مع التطبيق على الحالة المصرية. «بدون ضمانات: دراسة حول الطاقة النووية ومشروع الضبعة»، الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، هى قراءة علمية ــ لكنها مبسطة ــ تأخذ بيد المترددين من أمثالى فى رحلة من الشك إلى اليقين.
اعط ظهرك للحقائق وانطلق..
لم تفتر عزيمة الحكومة المصرية بعد التطورات الحديثة. اختفى البعد الدولى والخطاب المناوئ لإسرائيل القائم على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ولم يتبق من خطاب مبارك سوى أهمية بناء المفاعل النووى.
لم تكن الطاقة النووية يومًا واسعة الانتشار. تستخدمها 31 دولة فقط من دول العالم فى توليد الكهرباء، وخمس دول من هؤلاء تولد 70٪ من إجمالى الطاقة. وفى السنوات الأخيرة، بدأ عدد من الدول المتقدمة فى التخلص تدريجيّا من المفاعلات النووية، وتصدير بلاويهم إلى الدول النامية. وباستثناء الصين، هناك عدد قليل من المنشآت الجديدة قيد الإنشاء فى الوقت الراهن، والتوقعات المستقبلية للطاقة النووية فى تراجع والشركات تراكم الخسائر.
ورغم أفول نجم الطاقة النووية حول العالم، شرعت مصر فى السير عكس الاتجاه لبناء أربعة مفاعلات نووية فى بقعة تتميز بشواطئها الخلابة، وأرضها الزراعية الخصبة البكر التى بإمكانها أن تصبح سلة غذاء مصر اعتمادا على مياه الأمطار والمياه الجوفية، دون حاجة تذكر من مياه النيل.
كم ثمن صحة الأطفال؟
لا تعيش الطاقة النووية بدون دعم حكومى سخى. وتُستخدم عدة أشكال من الدعم لإخفاء التكاليف الباهظة لإنتاجها. وقد وفر تعديل القوانين والتشريعات المصرية الخاصة بالطاقة النووية الأخيرة عددًا من أشكال الدعم لمحطة الضبعة.
يبقى أنه بإضافة التكاليف غير المباشرة للطاقة النووية، مثل تكاليف تلوث البيئة والتكاليف الصحية، نجد أن الطاقة النووية هى بالفعل أعلى مصادر توليد الطاقة تكلفة على الإطلاق. كم يبلغ ثمن تلوث التربة والبحر والمياه الجوفية والهواء بمواد مشعة؟.
الطاقة النووية ليست طاقة نظيفة. يعتقد معظمنا أن الخطر النووى يجيء فقط من حوادث انفجار المفاعلات. ولكن هذا غير صحيح. فجميع مراحل التشغيل تزيد من إصابات السرطان وخاصة للأطفال، فى الأماكن المحيطة بالمفاعلات. وفى عام 2006، صدر تقرير حاسم عن لجنة المجلس القومى الأمريكى للبحث عن تأثيرات المستويات المنخفضة من الإشعاعات. والذى أكد أنه لا يوجد ما يسمى «جرعة آمنة»، مهما كانت ضئيلة، من الإشعاعات الأيونية.
من ناحية، يتلوث الهواء جراء تسرب مواد مشعة مسرطنة إلى الهواء أثناء التشغيل. ويؤدى تبريد المفاعلات إلى تسخين مياه البحر وتلويثها بالمياه المشعة، ومن ثم قتل الأحياء المائية وإمكانية إصابة المصطافين والصيادين بالسرطان، وغيره من أمراض التلوث الكيميائى. كما يقضى الاتفاق بين مصر وروسيا بنقل الوقود المستنفذ بعد استخدامه إلى روسيا لتنقيته وإعادته إلى مصر، وهى عملية تؤدى إلى تسرب إشعاعى أثناء عمليتى التعبئة والنقل. وأخيرا وليس صغيرا، التخلص من جزء من الوقود المستهلك كل 18 شهرا، وذلك عبر دفنه فى التربة. وهو أمر يحمل مشكلتين: الأولى هى تلوث التربة بالمواد المشعة، إلى الأبد، بكميات متراكمة من النفايات السامة. كما أن الجماعات الإرهابية تنقب حول العالم عن تلك النفايات لإعادة استخدامها فى تصنيع أسلحة نووية (قنابل قذرة).
أهالى الساحل الشمالى أين صوتكم؟
ينفذ مشروع محطة الضبعة النووية على ساحل البحر المتوسط، على مساحة 45 كيلومترًا مربعًا بطول 15 كيلومترًا بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وتقع المحطة فى منتصف الطريق بين سيدى عبدالرحمن وخليج فوكا، وعلى بعد خمسة إلى عشرة كيلومترات من منتجعات تلال وبالم دى مايوركا وكورونادو.
وتتميز منطقة شرق المتوسط، حيث تقع الضبعة، بأنها واحدة من أكثر المناطق البحرية فى العالم مناسبة للسباحة وصيد الأسماك. وسوف يؤثر إنشاء محطة الطاقة النووية فى الضبعة على جودة المياه وعلى تنوع النظام البيئى فى المنطقة وعلى أنشطة الصيد والسباحة. بينما تتراكم المخلفات من المفاعلات النووية حول العالم لا تلوح فى الأفق حلول للتخلص طويل الأمد منها. وتخزن كميات كبيرة من هذه المخلفات فى أحواض مياه أو فى براميل جافة. وتعتبر المخلفات النووية من الوقود المستهلك أكثر إشعاعا بملايين المرات من الوقود «الطازج» لليورانيوم وتبقى كذلك لآلاف السنين.
حين دعا أهالى المنطقة للحوار المجتمعى، عملا بالقانون المصرى المنظم للطاقة النووية، لم تتم دعوة المصطافين من أبناء الطبقة الوسطى والعليا الذين لا يقل عددهم عن عدد سكان أهالى الضبعة، ممن يمتلكون وحدات سكنية فى أكثر من 150 منتجعا، وتقدر استثماراتهم بعشرات المليارات من الجنيهات، وهم أصحاب مصلحة أصيلة وينبغى أن يستمع إلى رأيهم فى المشروع الذى يقع فى قلب استثماراتهم.
الخلاصة أن درء الضرر ينبغى أن يتقدم على جلب المنفعة، وذلك للحفاظ على المال والبنين والآتى من السنين. فلنعد التقييم استماعًا إلى العلم وإلى المنطق وإلى المصلحة القومية. هى دعوة من أجل إعادة النظر فى المشروع، قبل أن يفوت الأوان. بعد أن صار لدينا أمر واقع عبارة عن اتفاق وقرض خارجى عملاق ومدرسة فنية وتصريح بناء لمدفن نفايات ومجموعة من التشريعات (أهم ثلاثة قوانين تمت الموافقة عليها فى جلسة واحدة فى مجلس الشعب، واعترض على بعض بنودها كل من مجلس الدولة ووزارة المالية).
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٧ ديسمبر ٢٠١٩