الكوارث غير الطبيعية
تعرضت القاهرة وعدة مناطق أخرى يوم الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019، لموجة من الأمطار الخاطفة أدت إلى سيول نتج عنها وفاة عشرة أشخاص وإصابة 22 آخرين وانهيار منازل وشلل مرورى وغرق المطار وانهيار فى الطريق الإقليمى الدائرى وتعطيل المدارس والأعمال، وقد علق آلاف بمن فيهم أطفال المدارس والمرضى فى الشوارع حتى الفجر. حدث هذا فى العاصمة التى تحظى بأكبر قدر من اهتمام الحكومة وخشيتها من أزماتها، ورغم ذلك، ورغم تصريحات المسئولين بإتمام استعدادات مواجهة الأمطار، فقد غرقت القاهرة حرفيا فى أقل من ساعتين.
لم تكن هذه الأمطار مفاجئة فى الواقع، فقد نبهت إليها هيئات الأرصاد المحلية والعالمية، كما أنها ليست المرة الأولى التى تتعرض فيها منطقة ما إلى أمطار «مفاجئة» فتغرق الشوارع وتنهار البيوت ويلقى الأشخاص حتفهم، فقد حدث مثلها فى العام الماضى فى القاهرة الجديدة، وفى 2016 فى محافظات الوجه القبلى والبحر الأحمر وفى 2015 فى الإسكندرية والبحيرة، وغيرها.
بنفس القدر لم يكن مفاجئا أيضا فشل الجهات المسئولة فى مواجهة هذه الأمطار ولا إصرارها على تكرار التبريرات نفسها، فالأمطار مفاجئة أو كثافتها استثنائية أو البنية التحتية غير مجهزة أو أننا فقراء لا نستطيع تحسينها أو أن هذا يحدث فى كل الدول… وهكذا فلا يوجد شىء كان يمكن عمله، ولا مسئول بعينه مسئولا، ولا حل سوى التسليم بقضاء الله وقدره وانتظار الكارثة القادمة واعتياد تقبل خسائرها.
***
فما الذى حدث؟ ما تعرضت له القاهرة كان موجة من «الطقس المتطرف» معتدلة الشدة، لحسن الحظ، فقد هطل المطر بمعدل 15 ملليمتر فى الساعة لمدة ساعة ونصف دون رياح عنيفة. وموجات الطقس المتطرف من ظواهر التغير المناخى، والتى قد تأتى فى شكل أمطار وسيول، أو موجات شديدة الحرارة أو البرودة أو الجفاف أو العواصف الرملية وهى مرشحة للزيادة فى الشدة والتكرار فمصر من ضمن أكثر الدول عرضة لمخاطر التغير المناخى، والطقس المتطرف ليس أسوأ هذه المخاطر، بل هناك مخاطر أصعب كثيرا ولا نستطيع فى مواجهتها أن نعتمد على حسن الحظ أو الإصرار على أنها غير معتادة.
لقد أدت التغيرات المناخية بالفعل إلى ارتفاع سطح البحر المتوسط وتآكل ساحل الدلتا، وقد تغمر المياه مناطق مثل رأس البر وجمصة والبحيرات الشمالية خلال ثلاثين عاما، ومن المقدر بحلول نهاية القرن أن يؤدى ارتفاع سطح البحر إلى غرق ثلث الدلتا، وأن يؤدى فقدان المياه العذبة وخسارة الأرض المزروعة ومصائد الأسماك وتملح التربة والمياه الجوفية إلى التأثير على حياة الملايين وخسائر اقتصادية تقدر بنحو 200 إلى 350 مليار جنيه مصرى حسب البنك الدولى.
من ضمن مخاطر التغير المناخى أيضا انخفاض إنتاجية الفدان من القمح والذرة والحمضيات بين 10 إلى 20 فى المائة بسبب الحرارة ونقص المياه والأمراض إضافة إلى خسائر الثروة الحيوانية بسبب نقص الغذاء والحر والأمراض مثل الحمى القلاعية. يؤثر كل هذا على توفر الطعام، ناهيك عن نقص المياه ويزيد من الإفقار والهجرة والنزاعات. وهناك بقية فى قائمة أخطار التغير المناخى القاسية ولكن «المعلومة» منذ سنوات طويلة والمعروفة سواء عالميا أو وطنيا.
يصعب أن يدَعى المسئولون تفاجئهم بهذه الأخطار، فمصر منضمة إلى جميع الاتفاقيات المتعلقة بالمناخ، كما أنها ممثلة فى المجلس الدولى للتغير المناخى، وتشارك بفاعلية فى جميع الاجتماعات الدولية، وتقدم تقارير دورية إلى هيئات الأمم المتحدة المعنية بمتابعة الاتفاقيات، كما أن لديها لجنة قومية عليا للتغير المناخى وإدارة مركزية للتغير المناخى ومراكز البحوث والرصد فى عدد من الوزارات، كما شاركت مع هيئات دولية فى وضع عديد من الدراسات والاستراتيجيات والسياسات والتوصيات والبرامج وحصلت على منح وقروض ومساعدات تقنية لمواجهة مخاطر التغير المناخى.
ولكن، كأن هذا يحدث فى عالم موازٍ خيالى غير قادر على التأثير فى العالم الواقعى المأساوى، فنجد أنفسنا نغرق فى موجة معتدلة الشدة من الطقس السيئ، فما هو الحال فى مواجهة الأخطار الأشد وطأة للتغير المناخى.
***
يقاس خطر التعرض لتغيير المناخ ليس فقط بعوامل طبيعية، ولكن أيضا بعوامل اجتماعية وسياسية تحدد قدرة المجتمعات على إدارة الخطر بإجراءات تستهدف الوقاية منه وحماية الأرواح والممتلكات حين وقوعه ثم التعافى من خسائره، وترتبط هذه القدرة بإعادة تقييم وتعميم المنظور البيئى فى السياسات والخطط والبرامج وتطبيقاتها.
فمثلا لمواجهة أخطار السيول القادمة يجب إعادة تقييم أمور، مثل أهمية توجيه الإنفاق الحكومى على تحسين شبكات الصرف الصحى التى لا تكاد تغطى القاهرة، وفائدة إتمام معالجة مياه الصرف الصحى والاستفادة منها، وأهمية البحث عن حلول تقنية، أقل تكلفة من بناء شبكة كاملة للأمطار فى القاهرة وتسمح كذلك بالاستفادة من هذه المياه، وإعادة تقييم السياسات السكانية التى تشجع البناء العشوائى الذى يرهق المرافق وتستفيد منه شبكات المضاربة فى العقارات، وإذا كانت القاهرة قديمة وفقيرة فيجب تقييم بناء شبكات الأمطار فى المدن الجديدة الغنية وحماية مخرات السيول والمواقع الحيوية مثل المطار ومحطات الكهرباء، وضرورة تحسين مواصفات رصف الشوارع العادية أصلا بشكل مائل ودون مطبات وحفر، ومعرفة أسباب فشل مقاومة الفساد المستشرى فى مشروعات البنية التحتية ومعالجتها، وضرورة تحقيق مشاركة السكان والتواصل معهم وإعلامهم بخطط الطوارئ، والتأكد طبعا من وجود خطط جيدة للطوارئ.
وعلى نطاق أوسع، تقييم خطط مواجهة غرق الدلتا ونقص إنتاجية المحاصيل، وتقييم جدوى استزراع أراضٍ جديدة فى ظروف نقص المياه مقارنة بتحسين طرق الرى والإنتاجية فى الأراضى القديمة، وتقييم خطط مواجهة فقر المياه وموجات الهجرة الداخلية والعبء الصحى ومدى فاعلية هذه الخطط… ويمكن وضع قائمة طويلة من السياسات والخطط المطلوب وضعها وتقييمها لمواجهة مخاطر التغيرات المناخية.
تكشف مواجهة أخطار التغير المناخى الفشل المتراكم فى الإدارة والسياسات والاستراتيجيات البالية وغياب التنسيق وإهمال البعد البيئى والاجتماعى فى المشروعات وضعف البحث العلمى والتطور التقنى والفساد وضعف المشاركة المجتمعية والشفافية، وهى متطلبات تحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الأخطار.
موجة أمطار الثلاثاء لم تكن كارثة طبيعية، لكن الفشل فى مواجهتها هو ما جعل نتائجها كارثية، تتعرض بلاد كثيرة فى العالم لأخطار السيول وموجات الطقس المتطرف، لكن النتائج تختلف من بلد إلى آخر حسب هذه القدرة على التكيف، وإذا كان لا حيلة لنا فى تغيير عوامل الخطر الطبيعية فإن لنا كل الحيلة فى تحسين قدرتنا على مواجهتها.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني يوم الثلاثاء 5 نوفمبر 2019