طبيب الفقراء والإصلاح الصحى
عرفت أوروبا فى القرن التاسع عشر والعشرين ظاهرة ما سمى بطبيب الأرياف الذى يتحرك لعلاج فقراء المجتمع بين القرى لمواجهة الأمراض، التى كانت فى أغلبها فى ذلك الوقت تتسم بطبيعتها المعدية والوبائية.
وعرفت مصر أيضا فى نظامها الصحى العريق الذى شيده (محمد على وكلوت بك) ظاهرة طبيب الأرياف البسيط الذى يعالج البسطاء من الناس ويتقاضى أجرا رمزيا منهم فى القرى والمدن الصغيرة والمتوسطة، تلك الظاهرة التى امتدت إلى اليوم وإن كانت تقلصت إلى حد كبير رغم وجودها فى الأحياء الشعبية والعشوائيات بأشكال مختلفة والتى لعبت وﻻ شك دورا كبيرا فى تلبية احتياجات البسطاء الصحية وفى سد فجوة إتاحة الخدمات لهم عندما تخلت الدولة مع بداية الانفتاح فى السبعينيات عن دورها الأساسى فى توفير وإتاحة الخدمات الصحية.
ما أثار هذه المقدمة لدى مشاهدتى لحلقة مرئية قدمها الإعلامى المميز محمود سعد مع طبيب الغلابة فى مدينة طنطا وما حولها من قرى صغيرة حركت مشاعرى وشجونى عن هذا الدور الإنسانى الكبير لرجل زاهد منقطع لممارسته المهنية بإخلاص ودأب بين الناس البسطاء كجزء من حياتهم البسيطة وبأدواته الأولية وبأجر رمزى.
ورجعت إلى هذه الظاهرة فى مناطق كثيرة من العالم خاصة فى الشرق الأقصى حيث عرفت الصين فى مرحلة من ثورتها الثقافية ما عرف وقتها بالأطباء الحفاة للدلالة على ارتباطهم بمجتمعاتهم المحلية ولرفع الوعى الصحى والثقافى بينهم وللاندماج العضوى بمجتمعهم.
كما رجعت لقصة قصيرة كتبها الطبيب المبدع أنطون تشيخوف فى القرن التاسع عشر بعنوان عنبر رقم 6، يحكى فيها عن مستشفيات الفقراء وطبيب هذا المستشفى الذى تحول فى لحظة إلى مريض به لأنه تفاعل مع مرضاه إلى حد التماهى.
ورجعت أخيرا إلى خريطة العبء المرضى المصرى منذ القرن الماضى حيث كانت مستشفيات الحميات والأمراض المتوطنة والوبائية هى الملجأ الأول لغالبية سكان المحروسة بالمجان والتى وصل عددها فى ذلك الوقت إلى قرابة 160 مستشفى للحميات فى مختلف المدن الكبيرة والصغيرة والتى كانت تحتل مساحات واسعة من الأراضى الخضراء المسيجة والتى أغلق أحد الوزراء أغلبها بحجة تقليص النفقات وبسبب تغير خريطة العبء المرضى لدينا نحو الأمراض غير المعدية.
ورجعت أيضا إلى مرجع مهم عن هوية الأطباء فى مصر لباحثة متميزة (سيلفيا شيفولو) حيث تقول فى كتابها «كان أطباء المراكز موظفين أغلبهم من المصريين الذين تعلموا فى مدرسة الطب فى القاهرة (قصر العيني) ومنوط بهؤلاء الأطباء السهر على حسن تطبيق الإجراءات الصحية وتسجيل المواليد والوفيات وضمان الخدمة الطبية الأولية بالمجان على مستوى القرى وفى حالة ظهور الأوبئة كان عليهم اتخاذ جميع التدابير الضرورية لعزل القرى والمرضى وكان كل طبيب من هؤلاء الممارسين يقوم بالإشراف على عدد يتراوح من 20 إلى 30 قرية ومن الصعب تحمل الحياة والأوضاع الاجتماعية لهؤلاء الرواد الذين تحملوا مسئوليات متعددة تكون عادة مسئوليات قاسية تتجاوز قدرات رجل واحد».
***
دكتور محمد مشالى يعمل 15 ساعة يوميا وعمره الآن 75 عاما. ورغم هذا فقد استطاع بعضهم إبهار الزائرين بثقافتهم وتحضرهم.
كل هذه الشجون دفعتنى للتفكير فيما نفعله الآن لبناء نظام صحى جديد فى مصر يعتمد على مستوى الرعاية الأساسية فى مراكز ووحدات صحية حديثة من ناحية البنية التحتية والتجهيز الطبى والانتشار المخطط حسب تعداد السكان واستخدام نظم المعلومات الحديثة والربط بالمستويات الأعلى والمتقدمة للخدمة هذه الوحدات التى يعمل فيها أطباء أسرة مؤهلون على أعلى مستوى فى نظام طب الأسرة الذى جوهره الرعاية الأساسية لمتابعة وعلاج الأمراض السارية وغير السارية الشائعة ومتابعة نمو الأطفال وأمراضهم والأم الحامل وغيرها من حزمة الخدمات الصحية الضرورية التى تغطى قرابة 70% من الاحتياجات الصحية المجتمعية دون تمييز ودون وصم بالفقر وللجميع بنفس المستوى من الجودة بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية، حيث يقوم صندوق للتأمين الصحى بتمويل تكاليف هذا النظام وفق حسابات دقيقة تضمن الاستمرارية والإتاحة المنصفة.
وكان ومازال هذا النموذج من الخدمة هو جوهر وخط دفاع خطة إصلاح المنظومة الصحية الحديثة التى تعرضت لمراحل متعددة من التحديات والمعوقات، حتى صدر أخيرا قانون التأمين الصحى الشامل، ولذا فرغم التقدير الكبير لهذه الحلقة المرئية التى عرضها الإعلامى محمود سعد إن هذا النموذج قد تجاوزه العصر وأصبح من الضرورى تحديثه وفق نظام جديد من الخدمة لنماذج وحدات ومراكز طب الأسرة للرعاية الأساسية، وإذا كان النظام الصحى فى التحليل الأخير هو وسيلة إلى غاية وهى غاية ثلاثية المحاور تشمل ترقية الوضع الصحى للسكان ونيل رضاهم وتوفير الحماية المالية لهم ضد الأمراض، خاصة الكارثية منها، فذلك لن يحدث بمثل هذه النماذج الفردية المضيئة وإن حسنت نياتها، وإنما عبر نظام عام متكامل فى شبكة من وحدات الرعاية الصحية الأساسية لديها مستويات للإحالة إلى المراكز المتقدمة، واعتمادا على تمويل تأمينى، وجودة مراقبة، ومعايير محددة لتقديم الخدمة، ذلك ما نراهن عليه الآن فى الخطة الموضوعة للبدء فى تنفيذ النظام التأمينى الشامل فى محافظات القناة كمرحلة أولى، يعمل فيها نماذج مدربة وحديثة لأطباء الأسرة لتحقيق حلم الإتاحة المنصفة والعادلة.
ذلك لا يمنع من تقدير هؤلاء الرواد الكبار الذين تحملوا وحدهم عبء مواجهة المرض بأدوات وإمكانيات محدودة؛ لأنهم آمنوا أن المهنة فى المقام الأول لها طابع إنسانى وأخلاقى جوهره العطاء فى زهد ودأب ودون جشع آليات السوق وتسليع الخدمة التى تحث عليها الآن القطاعات الطبية الربحية الاستثمارية الضخمة، والتى تحركها نوازع الاحتكار وﻻ تهتم بفقراء المرضى الذين يعانون من الأمراض بلا رحمة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 20 مارس 2019