أمراض الكبد حدوتة مصرية
إن معرفة وبائيات فيروس سى ومعدلات انتشاره وعلاقته بالإنفاق الصحى الدوائى وعلاقته بمعدلات الوفاة من مضاعفات أمراض الكبد فى الماضى القريب والبعيد ــ معرفة ذلك بدقة يجعلنا ندرك قيمة وأهمية المسح الصحى الواسع الذى يجرى حاليا تحت مسمى «مائة مليون صحة» لفيروس سى، إضافة إلى الأمراض غير السارية مثل ارتفاع ضغط الدم ومضاعفاته ومرض السكرى ومضاعفاته والسمنة ومضاعفاتها.
هذا المسح الأكبر فى تاريخ نظامنا الصحى والذى يعد خطوة كبيرة فى تحديد حجم جبل الجليد المرضى الغاطس لأخطر أعبائنا المرضية المتمثلة فى دراما أو حدوته مصرية بامتياز اسمها (الكبد المصرى والتهابه المزمن)، ولذلك قصة تاريخية بعيدة بدأت بانتشار المرض المتوطن الأشهر فى حياة المصريين، خاصة الريفيين منهم والذى أطلق عليه اسم مكتشف البلهارسيا (نسبة إلى الألمانى تيودور بلهارس)، وعند علاج هذا المرض بحقن (الطرطير المقيئ) كان الحقن يتم لمجموعات مرضية وبطريقة غير آمنة، ما تسبب فى ظهور فيروس مجهول اكتشف بعدها بسنوات وهو ما يسمى أيضا المرض الصامت الذى قد يمتد إلى عشرين عاما وأكثر دون أى أعراض واضحة)، وبسبب هذا الحقن غير الآمن الواسع، إضافة إلى عوامل أخرى مرتبطة بغياب إجراءات مكافحة العدوى وبعض الممارسات المجتمعية السيئة أصبحت الإصابة بهذا الفيروس من أهم مشاكلنا الصحية العامة.
وفى معرض معرفة وبائيات المرض تبين بعدها أن فيروس التهاب الكبد سى يسجل أعلى معدلات انتشاره عالميا فى مصر، ما جعله أكبر تحديات الصحة العامة التى تواجه البلاد وأظهرت الدراسات وقتها (من 2005 إلى 2008) أن 14.7% من عينات الفحص تحمل أجساما مضادة للفيروس، وأن 9.8% من السكان يعانون من اﻻلتهاب الكبدى سى النشط وينتج اﻻلتهاب النشط حين يبدأ الفيروس فى التزايد العددى وإحداث تلف لأجهزة الكبد وعندئذ يظهر على المريض أعراض الالتهاب الكبدى، فيلجأ لطلب المساعدة الطبية والتشخيص، وتصل معدلات الوفاة جراء مضاعفات هذا المرض، وفقا للمسوح السابقة من 2005 إلى 2008 إلى أن قرابة 40 ألف حالة وفاة سنويا تحدث بسببه أو نحو 10% من إجمالى الوفيات، ويأتى فى المرتبة الثانية بعد أمراض القلب ويمكن لالتهاب الكبدى الفيروسى سى إذا لم يعالج أن يؤدى إلى تشمع الكبد وهو تلف غير قابل للشفاء وفى حالات التشمع الشديد يحدث قصور الكبد ويفقد الكبد معظم وظائفه ولا يوجد علاج آنذاك سوى زراعة الكبد.
وفى هذا السياق نرصد بسبب هذه الحزمة من الأمراض المرتبطة بفيروس سى وإصابته للمصريين ارتفاع فى نسب الإنفاق الدوائى الشخصى فى مواجهة ما يحدث حيث تمثل المستحضرات الدوائية وغيرها من المنتجات المتعلقة بالصحة نسبا عالية من الإنفاق الكلى ففى عام 2009 مثلا بلغ إجمالى الإنفاق على المنتجات الدوائية 21 مليار جنيه مصرى، وهى تمثل إجمالا وقتها 34% من جملة الإنفاق الصحى وتمثل هذه النسبة المرتفعة تحديا كبيرا فى إمكانية الوصول إلى الدواء وعلى العبء الذى يتحمله المرضى إجمالا وخصوصا مرضى أمراض الكبد الذى يقع على كاهل الأسر غير المحمية بأى تغطية تأمينية.
كما يمكن أيضا النظر لهذا المرض من زاوية طبيعته الاقتصادية والاجتماعية فى مصر لندرك حجم وأهمية تلك الحملة الحالية من المسح والعلاج، حيث يتميز الفيروس الكبدى سى فى مصر بخصائص اقتصادية واجتماعية، فهو أكثر انتشارا وسط شرائح السكان الأدنى اقتصاديا واجتماعيا، وكانت بدايته التاريخية حملات الحقن المضاد للبلهارسيا، كما ذكرنا فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى فى المناطق الريفية باستخدام محاقن زجاجية لا تعقم على النحو السليم، وهذا ما تسبب فى ارتفاع معدلات انتشار الفيروس فى المناطق الريفية مقارنة بالحضرية 12% فى الريف إلى 7% فى الحضر على الترتيب كما تتنوع درجة الانتشار حسب الشرائح اﻻجتماعية؛ حيث يكون بنسبة 12% فى أدنى شريحة فى البلاد مقارنة بـ 5% فى الشريحة الأعلى. وفى مصر كما نعرف وكما يقدر الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء يعيش قرابة 29% من السكان على أقل من 1.6 دولار أمريكى يوميا (حد الفقر المحلي) وفق دراسات الفقر حسب الدخل والإنفاق واﻻستهلاك (2013) وفى وجود هذا المستوى من الفقر فى البلاد يمكن استخلاص أن فيروس الالتهاب الكبدى سى مرض ذو طبيعة اقتصادية واجتماعية يصيب شرائح السكان الأكثر فقرا وﻻ يكمن ذلك فقط فى تكاليف العلاج وحدها بل يضاف إليه أيضا تكاليف التشخيص الذى يظل ناقصا بالنظر إلى ارتفاع معدلات الأمية وانخفاض معدلات الوعى بطبيعة المرض وكيفية انتشاره.
من ذلك كله نستطيع أن ندرك قيمة وأهمية حملة «مائة مليون صحة» الواسعة الحالية التى تمثل خطوة كبيرة لغلق فجوة العدالة اﻻجتماعية فى إتاحة العلاج لحزمة أمراض تمثل العبء الأكبر فى حياة الفئات الأفقر ما يدعونا إلى الدعوة إلى تشجيع المواطنين على إجراء هذا المسح لنصل إلى حجم المشكلة الحقيقى وعمق جبل الجليد الغاطس، كما أن المسح فى كل الأحوال أحد إجراءات وسياسات الصحة العامة الضرورية التى يجب أن تتسم بالاستمرار للخروج منها بتقييم موضوعى يساهم فى وضع استراتيجيات قابلة للتنفيذ فى منظومة إصلاح الصحة إجمالا ورفع كفاءة العاملين فى هذا القطاع بالتدريب الواسع الحالى، كما أنه فرصة لزيادة الوعى المجتمعى وتطويره فى التعامل مع نمط الحياة وأساليب التغذية السائدة وتحسين الأدوات الصحية وتفعيلها، كما أنه فرصة حقيقية لمشاركة الناس فى تقييم فعلى وعملى للحملة ككل وهل هى مجدية وفعالة من زاوية العلاج من وجهة نظر الناس إلى جانب التقييم الموضوعى الذى سيقوم به المتخصصون فى جوانب البحث العلمى المختلفة وإمكانية الاستفادة من قاعدة البيانات والمعلومات التى ستتراكم من جراء هذا المسح فى بحوث صحية مستقبلية تدفع بنا خطوات للحصول على نتائج حقيقية فى مؤشرات الصحة والتنمية بشكل عام فى العشرية القادمة، وكلها مزايا هائلة علينا الاستفادة منها لتصبح تكاليف الحملة متناسبة مع حجم النتائج المنتظرة منها.
نشر هذا المقال في موقع الشروق بتاريخ 29 ديسمبر 2018