التختة قبل التابلت.. أمل في التغيير
طوال العطلة الصيفية السنوية للمدارس الحكومية، ومنذ تولي الوزير د / طارق شوقي مهام أو حقيبة وزارة التعليم، كثرت الأحاديث حول تطوير التعليم في المدارس الحكومية، وتطوير المناهج الدراسية، وربط ذلك بالشبكة العنكبوتية، وتوزيع أجهزة تابلت على طلاب المدارس الحكومية، وذلك مسايرة من الحكومة للسياسات والنظم التعليمية العالمية.
ولكن مع بداية العام الدراسي الجديد لم نجد شيئاً مما ذكر في كل هذه الأحاديث، وكانها كانت للاستهلاك الإعلامي فقط، فلم يحصل أحد من أبنائي على جهاز تابلت، بحسب كوني أحد أولياء الأمور في المدارس الحكومية، ولم ألحظ أي تغيير سوى في لون التيشرت المفروض على التلاميذ شرائه من المدرسة الحكومية، فبدلاً من القميص ذو المربعات الخضراء مع الأصفر، إلى تيشرت باللون الزهري، ومنذ أول أيام الدراسة بدأ التعنيف حول سداد الرسوم الدراسية وربطها بصرف الكتب المدرسية عنوة، وسارت الأمور نحو ترتيب أولويات من سينضم إلى قائمة الدروس الخصوصية لمعظم المعلمين إلا من رحم ربي تحت سمع وبصر الإدارة المدرسية أو الإدارة التعليمية.
ورداً على ما أثارته وسائل التواصل الاجتماعي من ازدحام الفصول الدراسية بشكل لا يمكن معه أن تستمر المسألة التعليمية بشكل سليم، كان رد وزير التعليم بتاريخ السبت 29 / 9 / 2018 نشر موقع الشروق الإلكتروني حديثا لوزير التعليم الدكتور / طارق شوقي جاء فيه ، إن الكثافة الطلابية قائمة منذ 15 عاما، وستستمر لمدة 10 سنوات في المستقبل، مؤكدا أنه لحل هذه المشكلة نحتاج إلى 22 ألف فصل إضافي بتكلفة 100 مليار جنيه. وقد انتقد من جانب آخر وزير التعليم الحملات القائمة على وسائل التواصل الاجتماعي المنددة بزيادة الكثافات الطلابية داخل الفصول.
فهل يستقيم الوضع المعوج من أساسه، بمجرد شعارات تطلقها الوزارة عن تحديث العملية التعليمية، دون أي تفعيل حقيقي، أو علاج جذري لما أصاب أمر التعليم في مصر من أمراض ومشاكل، كانت محصلتها أن تزيلت مصر القائمة الدولية أو التصنيف العالمي لجودة التعليم.
تحدثت سلف`عن أن أمر التعليم لا يكون إلا من خلال تطوير عناصره الثلاثة، وهي الأبنية التعليمية، والمعلم، والمادة التعليمية، وأنه دون النظر لأمر هذه العناصر الثلاثة والسعي نحو إيجاد حلول علمية لهان فلن يغني تابلت، ولا غيره، ولن يكون التعليم إلا للقادرين فقط على الدخول إلى المدارس الخاصة ذات التكلفة المالية العالية، ومن ثم يصير التعليم مجرد سلعة تجارية تنافسية، تخضع لقوانين السوق.
هناك دول كثيرة كنا نسبقها في الخمسينات والستينات حققت إنجازات وطفرات اقتصادية هائلة بفضل الاهتمام بالتعليم، فتجربة سنغافورة خير دليل ففي مجال التعليم تعتبر تجربتها من التجارب الرائدة،فقد أدركت منذ عقود أن التعليم هو شرط من شروط النهضة وعكفت على تصميم المناهج وتطوير طرق التدريس بما يتواكب ومتطلبات العصر، وأولت اهتمام بالغ بإعداد الأساتذة الإعداد الجيد وتأهيلهم بما يتناسب مع تكوين وبناء الإنسان، ليس فقط الإنسان القادر على المساهمة في صنع المستقبل، ولكن أيضاً القادر على المنافسة في السوق العالمي، ولم يقف الأمر عند هذه الدولة، بل إن هناك العديد من الدول قد أصبحت من دول المقدمة في ترتيب تصنيف جدول التعليم مثل الإمارات.
فَنَجاحُ التعليم وتطوير برامجه وقدرته على تقديم مُخرجات جيدة ومُتمكنة ترفد سوق العمل ومؤسساته المختلفة، لا يقف عند حدود وعتبة هذا القطاع، وإنما تتعدَّاه ليشمل النجاح والتطوُّر مُختلف القطاعات الأخرى؛ مما يمهِّد لمستقبل أكثر ازدهارا وتقدُّما وإشراقاً في البلد الذي حقَّق ذلك النجاح؛ فبالتعليم تتقدَّم الشعوب وتزدهر البلدان وتنشأ الحضارات، وتتَّسع وتسعد الأمم وتحل مشكلات البطالة والجهل والتخلف والفقر، وتحقِّق القطاعات الاقتصادية والإدارية والخدمية والاجتماعية ازدهارا وتقدُّما ونموًّا مُتواصلا، ومَنْ يَبْحث في سرِّ وأسباب تحقيق العديد من الدول لنجاحات مُرضية ومُؤشرات مُرتفعة في هذه القطاعات، وتبوِّئها مكانة في مصاف الدول المتقدمة، يصل إلى حقيقة أنَّها امتلكتْ كفاءات بشرية وخبرات مُتخصِّصة حَصَلت على أفضل أنواع التعليم والتدريب والتأهيل، وعلى أنَّ حكومات هذه الدول استثمرتْ بما يكفي من الجهود والأموال في قطاعات التعليم والتدريب، وتمكَّنت في المقابل -بفضل سياساتها- من استقطاب كفاءات وخبرات وعلماء متميزين من بلدان أخرى بعد أن وفَّرت لهم البيئة المناسبة، والتشجيع الكافي والدعم السَّخي ورفعتْ مكانتهم العلمية والإنسانية.
ونحن الدولة المصرية بتاريخها الضارب في القدم، والذي يشهد على تقدمنا في مجال التعليم منذ العصور الفرعونية، حتى أن الدين الإسلامي يدفع إلى البحث عن العلم وتطويره ، بل ويحث على الاهتمام به بين كل فئات المجتمع، فقد روي عن الرسول الكريم، أنه في إحدى الغزوات قد أطلق سراح الأسرى في مقابل تعليم الصحابة القراءة والكتابة.
فهل يصير حالنا بعد هذه القرون بهذا الضعف في أمر التعليم، وهل ستترك الدولة الأمور التعليمية ليحتكرها السوق، وتصير سلعة لمن يستطيع الشراء، وهي تعلم أن بداية أي تطور أو نمو حقيقي لا يبدأ سوى من حيث يتطور التعليم، إذ أن الأزمة الحقيقية وراء كل مشكلات الشعوب تكمن في تأخر مستوى التعليم، حتى وإن كانت الأمور الاقتصادية على المستوى العام غير منضبطة، إلا أن الأمر لا يجب أن يمر على المسئولين مروراً عابراً، بل يجب البحث عن سبل لحل المشكلة الرئيسية التي هي أصل وسبب كل المشكلات، وإن كنت أرى أن الحلول عن طريق التشارك المجتمعي الواعي هو أهم السب في ذلك الأمر ، ولكن لن يؤتي ثماره إلا إذا كان بطرق منظمة ومدروسة.
ومن زاوية ثانية فإن الدستور المصري الأخير قد أقر تخصيص نسبة 4 % على الأقل من الناتج القومي للإنفاق على التعليم الحكومي، وكذلك تخصيص نسبة 2% على الأقل للإنفاق على التعليم الجامعي ، على أن تتصاعد هذه النسب تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وإن كنت أرى أن هذه النسب في حالة افتراض التزام مؤسسات الدولة بها كما جاء بالنصوص الدستورية غير كافية أو مناسبة للنهوض بالمسألة التعليمية بالغة الخطورة على مستقبل الوطن، إلا أنني أشك أنها تتحقق فعليا.
أتوجه بهذا الحديث الصعب على النفس إلى كل الجهات رسمية كانت أو أهلية، فلنجعل لنا عقداً لتطوير التعليم، أو للنهضة التعليمية والبحث العلمي، ونكرس كافة الجهود الرسمية والأهلية نحو ذلك الهدف، فلا أمل في مستقبل دون نهضة تعليمية ، وبحث علمي متميز.
نشر هذا المقال في موقع "كاتب" بتاريخ ٣ اكتوبر ٢٠١٨