عن استخدام الفحم لتوليد الطاقة غير نظيف، ولا رخيص، ولا يضمن أمان الطاقة
أعلن السيد وزير الكهرباء، نهاية مايو الماضي، عن بدء التعاقد على تنفيذ محطة كهرباء الحمراوين، وذلك على هامش فتح المظاريف لاختيار التحالف الذي سينفذ المحطة يوم 30 مايو 2018، وتقع محطة الحمراوين على ساحل البحر الأحمر بالقرب من سفاجا، وهي أول محطة كهرباء في مصر تعمل بالفحم، وطاقتها 6 آلاف ميجا، ما يجعلها أكبر محطة كهرباء بالفحم في العالم.
يأتي هذا في الوقت الذي ينصرف فيه العالم عن استخدام الفحم في توليد الكهرباء، كما يتضح بجلاء في تقرير مستقبل الطاقة الدولية الصادر العام الماضي عن وكالة الطاقة الامريكية، حيث يشهد العالم زيادة في كافة مصادر الطاقة باستثناء الفحم، الذي سيستمر نصيبه في الانخفاض بمقدار يصل إلى 10% خلال العشرين عامًا المقبلة، وحيث يحل محله الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة.
ورغم أن معظم هذا الانخفاض يحدث في الدول المتقدمة، (OECD*)، إلا أنه يحدث أيضًا في الدول الأقل نموًّا، التي كانت تقليديًّا كثيفة الاستخدام للفحم، حيث سينخفض بمقدار 25% في الصين، أكبر دولة في استخدام الفحم، وبمقدار 15% في الهند ثاني أكبر مُستخِدم للفحم عالميًّا. رغم هذه المؤشرات الواضحة فإننا نرى في مصر إصرارًا على إدخال الفحم وعلى التوسع في استخدامه.
خسر الفحم المعركة فعليًّا، كما ذكر رئيس الوكالة الأمريكية للطاقة، لكن الفحم يجد مناصرين له في مصر، حيث يُحتفى به ويُروَّج له عبر ثلاث مزايا رئيسية وهي على التوالي: رخص سعره، ونظافته، وضمانه لأمان الطاقة. إلا أن أيًّا من هذه المقولات في الحقيقة لا يصمد أمام الأدلة والمعلومات.
الفحم ليس رخيصًا
لم يعد الانصراف عن الفحم يحدث عالميًا بسبب آثاره السلبية على الصحة والبيئة فقط، لكن لهذا الانصراف أسباب اقتصادية أيضًا. فبعد أن كان الفحم أرخص مصادر توليد الكهرباء، أصبح الفحم الآن يخسر سوقه بالمقارنة بمصادر أُخرى، خصوصًا أمام الطاقة المتجددة وبالذات في جنوب العالم، وإن كان من المتوقع أن تنخفض أسعار الطاقة المتجددة عن أسعار الفحم في كافة أنحاء العالم خلال السنوات العشر المقبلة.
فقد ألغت الهند مشروعات لتوليد الكهرباء من الفحم قدرتها 14 ألف ميجاوات في مايو الماضي، لصالح الطاقة الشمسية حيث وصلت تعريفة الطاقة الشمسية إلى حوالي 33 سنتًا، بينما بلغت تعريفة الفحم 47 سنتًا. (يحدد سعر التعريفة لكل كيلو وات في الساعة). وكذلك حقق مشروع مجمع أبو ظبي تعريفة قياسية بلغت 2.42 سنتًا للألواح الكهروضوئية، وسجل مشروع «سكاكا» للطاقة الشمسية في السعودية العرض الأقل تكلفة عالميًّا، حيث بلغ 1.79 سنتًا. وفي مصر نفسها بلغت تعريفة الرياح في جبل الزيت عام 2016 مبلغ 40 سنتًا، بينما أرخص العروض في محطة الحمراوين وصلت إلى 45 سنتًا.
ولا يخسر الفحم أمام الطاقة المتجددة وحدها، بل لقد أصبح أغلى من الغاز الطبيعي وخصوصًا الدورة المركبة، وحتى بدون حساب تكلفة تخزين ثاني أكسيد الكربون. ففي العام الماضي بلغت تعريفة إنتاج الكهرباء من الغاز في الولايات المتحدة 16 سنتًا، بينما كانت تعريفة الفحم 22 سنتًا لكل كيلو وات/ساعة.
وفوق كل ذلك، وربما أهم في الحقيقة، فإن أسعار الفحم هذه أقل من التكلفة الحقيقية لاستخدامه، والتي يجب أن تتضمن تكلفة التلوث البيئي والصحي الذي يسببه. هذه التكلفة لا يحسبها أحد ولا يدفعها المستثمرون، ولكن المجتمع هو من يدفعها. إذ يؤثر الفحم سلبًا على الصحة بطائفة من الأمراض الصدرية، وأمراض القلب، والجهاز العصبي، والسرطان، وغيرها.
وتبلغ تكلفة هذا العبء المرضي مليارات من الدولارات سنويًّا. ففي الاتحاد الأوروبي، وُجِدَ أن التلوث من استخدام الفحم يؤدي سنويًّا إلى وفاة حوالي 24 ألف شخص، وإصابة 19 ألف شخص بالتهاب مزمن في الشعب الهوائية، وحوالي 30 مليون إصابة بالتهاب حاد في الجهاز التنفسي وخسارة حوالي 4 ملايين يوم عمل. بلغت تكلفة هذا العبء المرضي حوالي 15- 42 مليار يورو سنويًّا. وفي الولايات المتحدة قدرت دراسة من جامعة هارفارد هذه التكلفة المجتمعية للفحم بحوالي 354 مليار دولار سنويًّا، وفي مصر قدرت دراسة أجرتها وزارة البيئة المصرية عام 2014 أن محطة واحدة، تعمل بنصف طاقة الحمراوين، تتراوح تكلفتها المجتمعية بين 1.6- 5.9 مليار دولار سنويًّا. والخلاصة أن ثمن الفحم قد يتضاعف عدة مرات إذا أضيفت إليه التكلفة المجتمعية .
الفحم ليس نظيفًا
ذكر السيد الوزير في حديثه عن محطة الحمراوين أنها ستستخدم «الفحم النظيف»، في سياق قد يفهم منه أن الفحم لن يكون مُلوِّثًا ولا ضارًّا، وهو مفهوم خاطئ، فالأصل أن مصطلح الفحم النظيف، جرى استخدامه ليشير إلى تقنيات وأنظمة تقليل التلوث والكربون المنبعثة من الفحم، ولم يعد أحد في العالم يستخدم الفحم دون هذه التقنيات على أية حال، ولكن هذه التقنيات لا تجعل الفحم آمنًا أو نظيفًا. وكما ذكرنا فإن كل الدراسات المجراة لتقدير التكلفة المجتمعية من تلوث الفحم أجريت بطبيعة الحال مع «الفحم النظيف».
طبقًا للوكالة الأمريكية للبيئة، يصدر عن الفحم 76 مُلوِّثًا، وبكميات هائلة، ولا تحتجز الفلاتر كل هذه المُلوِّثات، ويسمح القانون المصري للمصانع بإطلاق مقادير من المُلوِّثات، وفضلًا عن أن هذه المقادير تزيد عن النسب العالمية، إلا أنه ينبغي القول إن حتى النسب العالمية غير آمنة.
طبقًا لتقرير خبير قضائي، فإن مصنعًا متوسط الإنتاج للأسمنت يعمل بالفحم، ينتج حوالي 4000 طن يوميًّا، يبلغ معدل تدفق الغازات من مدخنته حوالي900 ألف متر مكعب في الساعة، وبعد ما تحتجزه الفلاتر، يصدر عنه 70 كجم من الأتربة كل ساعة على مدار اليوم، وهو ما يقع ضمن المعايير القانونية المسموح بها.
ينبعث سنويًّا من محطة لتوليد الكهرباء باستخدام الفحم، وبقدرة 500 ميجا وات، حوالي عشرة آلاف طن من أكسيد الكبريت، ومثلها من أكسيد النيتروجين، و500 طن من الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى كميات ضخمة من الزئبق والرصاص وغيرهم، ولا تمنع التقنيات كل هذه الانبعاثات.
الفحم أيضًا يسبب التلوث عند النقل والتفريغ والتجهيز حيث ينتشر غبار الفحم في المناطق المحيطة ومسارات النقل. تحتاج محطة الحمراوين إلى حوالي 16 مليون طن من الفحم سنويًّا، يجري تداولها، وهي مصدر محتمل للخطر.
وبعد حرق الفحم تنتج كذلك الآلاف من الأطنان من المخلفات الصُلبة والسائلة، تحتوي على كميات متفاوتة من عناصر سامة ومسرطنة مثل الزرنيخ والثاليوم، وتخزن هذه المخلفات بجوار المصانع، ما يجعلها عُرضة لأن تنشرها الرياح، أو تتسرب إلى المياه الجوفية أو تجرفها الأمطار والسيول إلى موارد المياه.
الفحم لا يضمن أمان الطاقة
أمان الطاقة هو توفرها، ويعتمد ضمان أمان الطاقة على عوامل مثل توفر مصادرها الأولية وضمان إمداداتها، وامتلاك تقنياتها واستقلاليتها، وأيضًا مثل استدامتها البيئية. فالبلاد التي تمتلك في أراضيها مصادر مثل الغاز أو الشمس أو المساقط المائية بإمكانها تأمين الطاقة وبسعر مناسب أيضًا، أما الدول التي لا تمتلكها فتكون أكثر عرضة لتقلبات الأوضاع السياسية وأيضًا لتقلبات الأسعار العالمية.
وتلجأ الدول إلى حماية أنفسها من تأثير هذه التقلبات، بتعدد الأنواع في مزيج الطاقة الخاص، والتي تختلف من بلد إلى آخر، على أن تستوفي الأنواع التي تختارها شروطًا تضمن أمان الطاقة.
ولا تملك مصر فحمًا في أراضيها، حيث ستعتمد على الاستيراد بالكامل من السوق العالمية، كما لا تمتلك تقنيات استخدامه، فوق تكلفته العالية نسبيًّا، وتأثيراته على الصحة والبيئة، فهل يستوفي الفحم شروط أمان الطاقة؟
في المقابل تمتلك مصر موارد جيدة من الغاز الطبيعي تغطي حاليًّا كافة احتياجاتها وزيادة، وتمتلك موارد هائلة من الطاقة المتجددة. خصوصًا الشمسية حيث يرتفع الإشعاع المباشر إلى حوالي 2000 كيلوات في الساعة/م2، وكذلك إمكانيات واعدة من طاقة الرياح خصوصًا في خليج السويس حيث يبلغ متوسط سرعة الرياح من 5- 11 متر/الثانية.
يتحول العالم إلى الطاقة المتجددة بخطوات ثابتة، والطاقة المتجددة حاليًا أسرع مصادر الطاقة في النمو عالميًّا، لتشكل 30% من إنتاج العالم عام 2040، وفرص الاستثمار فيها تتصاعد.
توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح هو ضمان أمان الطاقة في مصر، فمصادرها لا تنفد وتقنياتها تتحسن وأسعارها في انخفاض مستمر، ولدى مصر حاليًّا فرصة سانحة لإنجاز التحول نحو الطاقة المتجددة، بسبب وفرة الغاز الطبيعي وبسبب تحقيق زيادة في إنتاجها من الكهرباء على احتياجاتها.
لعل الأجدى لضمان أمن الطاقة توجيه الاستثمارات والجهد في الطاقة المتجددة والتركيز على إجراءات رفع كفاءة الطاقة ودعم الشبكات اللامركزية والأنظمة الذكية، عوضًا عن إنفاقها على الفحم والبقاء أسرى تقنياته البالية وأمراضه القاتلة واحتضاره المحتم.
*Organisation for Economic Co-operation and Development
** تمّ تغيير عنوان المقال بتاريخ 2 يوليو 2018، وذلك بناء على طلب الكاتبة.
تم نشر هذا المقال بتاريخ 27 يونيو 2018 عبر موقع مدى مصر