الحق فى الغذاء وسوق الوراق
لا يمثل حق الإنسان فى الحصول على الغذاء الكافى نوعا من الترف أو الرفاهية، ولكنه يعد هو الرافد الأساس لحق الإنسان فى الوجود على قيد الحياة، وللمرة الأولى فى التاريخ الدستورى المصرى يأتى النص على هذا الحق فى الدستور المصرى الأخير، وتحديدا فى مادته التاسعة والسبعين بقوله «لكل مواطن الحق فى غذاء صحى وكاف، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين جميع بشكل مستدام.…». وقد ساير هذا النص الدستورى العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية المعنية بهذا الأمر وأهمها قاطبة هو العهد الدولى الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والذى أقر فى مادته الحادية عشرة بحق كل شخص فى مستوى معيشى كاف له ولأسرته، إضافة إلى ما ورد كإلزام عام فى مادته الثانية.
لكن هل كان كافيا ذلك النص الدستورى الذى انضم بذاته إلى الترسانة القانونية المعنية بهذا الموضوع، والتى هى مكونة من النصوص الدولية التى انضمت إليها مصر فى تأمين وجود أو تفعيل ذلك الحق بشكل يتناسب مع المواطن المصرى؟ وبمعنى أكثر صراحة هل توافر النصوص القانونية على اختلاف مراتبها، مؤديا حتما إلى توافر الحقوق المنصوص عليها فى حياة المواطنين، أم أن الأمر لا يعدو مجرد سياجات نصية لتزيين الشكل العام أو الإطار العام بصورة لا تؤدى إلى إنفاذ الحقوق لمستحقيها.
ساقتنى قدماى إلى الدخول فى شارع السوق بمنطقة الوراق، وهو شارع تجارى مزدحم بباعة الخضار والفاكهة المتراصين على جانبى الطريق أمام أبواب المحلات، فوجدت به سيدة تبيع ما يسمى بالهياكل «وهى عبارة عن مخلفات مصانع الدواجن التى تُخلى لحوم الدجاج وتبيعه تحت اسم بانيه»، وعلمت أن هذه الهياكل الفارغة من اللحوم تُباع بالكيلو والذى وصل سعره إلى ثمانية عشر جنيها، ثم وجدت سيدة تبيع أرجل دجاج فقط، وتحدثت إليها وكان موجز الحديث أنها تبيع حمولتها فى هذا المكان كل يوم، فعلمت كم هو جائع هذا الشعب، وكم هو محتاج لما يعينه على الاستمرار على قيد الحياة فى ظل هذه المنظومة الغذائية غير الصحية، ولم أتطرق إلى بائعى الخضار أو الفاكهة وتغيير الأسعار بين فئات ونوعيات المعروض بما يناسب ما فى جيب كل مواطن حتى تصل إلى ما يعد من البضائع غير صالحة بالمرة ولكنها معروضة لمعدومى الدخل، ولكن للأسف هذا هو الواقع فى الحياة اليومية لكل المناطق الشعبية، والتى تمثل غالبية جغرافيا مصر المحروسة، فلن تستطيع أى أسرة فى قطاع شعبوى يمثل غالبية عدد سكان مصر فى أن يقيم مأدبة للغذاء الصحى بشكل مستمر، على نحو أسبوعى مثلا، إلا من خلال اللجوء لهذه الأطعمة كبديل رسمى عن وجود اللحوم على موائد الفقراء، وهذا هو ما يمثل البروتين الحيوانى على المائدة المصرية، وما تشمله من أطفال فى حاجة لنمو صحى يضمن لهم حالة بدنية على الأقل تضمن لهم البقاء دون مرض. ولا أعتقد أن مثل هذه الأطعمة التى يلجأ إليها أرباب الأسر اضطرارا كافية لبناء أجساد أطفال نأمل أن يكونوا هم أمل الغد لتغيير الأوضاع المصرية إلى ما هو أفضل. ومن زاوية أقل لا تمثل هذه الأطعمة بقيمتها الغذائية التمدنية وسيلة لبناء إنسان سليم من الناحية الصحية، وبالتالى لا حاجة له لدخول مستشفى طالبا لعلاجه من أمراض سوء التغذية مثل الأنيميا وفقر الدم، والذى صار مرضا شعبيا يتماشى مع الحال العام للمصريين، وهو الأمر الذى يفوق مقدرات وزارة الصحة أو الموازنة العامة للصحة، حتى الآن لم تصل بأى حال من الأحوال التى يتحدث عنها متخصصو الاقتصاد والموازنة إلى النسبة المنصوص عليها دستوريا والتى من المفترض أن تتصاعد تدريجيا حتى تصل إلى المعدلات العالمية.
ومن خلال رصد التناقض والتضاد الكامل بين ما جاء بذلك النص الدستورى العظيم، والذى كان بمثابة فتح فى المدونة الدستورية المصرية وذلك فيما أتى به من نصوص للمرة الأولى بشكلها الواضح والصريح كالتزام يقع على عاتق السلطة لصالح المواطنين، وبين الواقع الأليم الذى عاينته بعينى رأسى، ترسخ فى يقينى كم هو مفجع أن تكون هذه النصوص مجرد ألفاظ جوفاء فى لغة الواقع لا تتساوى وقيمة الحبر الذى كُتبت به.
وأعلم جيدا أنه سيدور بعقول البعض أن هذا مجرد تصيد لبعض الأخطاء التى تسعى الدولة ممثلة فى قواتها المسلحة فى علاجها، وذلك من خلال المركبات التى تبيع اللحوم بسعر خمسة وسبعين جنيها للكيلو، ولكن لن يفوت أن أقول لكم إن ذلك لا يمثل حلا واقعيا لمثل هذه المشكلات، فلا هذا الثمن يعد مناسبا لدخول معظم المصريين من أرباب الأسر، ولا القوات المسلحة دورها هو التجارة فى اللحوم أو السلع الغذائية. وجميعنا يؤمن بأن هناك دور مقدس للقوات المسلحة المصرية نجله ونعتز به وهو الحماية والدفاع، كما أن قيامها بهذا الدور يؤثر حتما على الدور الأساسى من الزاوية الأصلية الوطنية، كما أنه يؤثر بشكل آخر على قدرات الآخرين على الدخول فى السوق، بما يضفى بعضا من الجبرية على الوضع العام للسوق التجارية المصرية.
أما عن المشكلات الحياتية اليومية فلابد وأن يكون هنالك سبل مختلفة لمواجهتها والسعى إلى حلها، بعيدا عن إثقال عبء القوات المسلحة، وإلا فما هو دور وزارة التموين مثلا متعاونة فى ذلك مع وزارات المجموعة الاقتصادية، ففى ظل تردى دخول القطاع الأوسع من الشعب المصرى، وفى ظل التضخم البشع الذى يأكل معظم رواتب عامة موظفى وعمال مصر، بسبب انهيار قيمة الجنيه المصرى، فلابد أن تكون الحكومة هى المسئولة عن حل هذه المشكلات لديها من الخطط اللازم لمواجهة تلك المشكلات، وإلا فلا جدوى لوجودها من الأصل.
من الناحية النصية بالرجوع إلى ما جاء بالمادة الدستورية سالفة البيان، فما هو الحال إزاء تقاعس الدولة بمؤسساتها أو عدم قدرتها على الوفاء أو القيام بهذا الالتزام الدستورى، فلا يشكل الدستور مجرد إطار نظرى نتحاكى به أو نتباهى به بين المحافل الدستورية الدولية، ولكنه يمثل محددا لدور كل سلطة من سلطات الدولة، ومراعيا لحقوق المواطنين تجاه هذه السلطات، وما جاء بنص المادة السابق بيانها بشكلها الإلزامى بأن على الدولة أن تؤمن الموارد الغذائية لهذا الشعب، لابد أن يكون مجاله التطبيق فى الشارع المصرى من خلال السلطات المختصة، وليس التنظير الكلامى فقط، وأن كل من فى السلطة مسئول عن تحقيق هذا الالتزام لكل مواطن من رعايا جمهورية مصر العربية.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 4 ابريل 2017