مائة عام قادمة من العمل أم العزلة؟
يرى الزائر أول ما يرى، أمام مدخل المبنى المبهر على ضفاف بحيرة جنيف الساحرة، تماثيل عملاقة عن الكفاح العمالى ضد الاستغلال، وعن تمجيد الأيدى الخشنة. فيستغرب المرء ذلك التناقض الساخر إذ ما الذى جاء بتلك التماثيل أمام مبنى منظمة التجارة العالمية؟ وحين تعرف القصة تتجسد الرمزية الفجة فى أتم صورها.
فقد كان المبنى يأوى منظمة العمل الدولية، حين نشأت من رحم الحرب العالمية الأولى، فى عام 1919، لتساعد على إحلال السلام عن طريق إحلال العدالة الاجتماعية، ردا لاعتبار العاملين بأجر، المظلومين اجتماعيا، وقود الحروب.
واستمرت المنظمة فى هذا المقر، حتى طردتها منظمة التجارة العالمية عندما أنشئت فى 1995، وعولمة الشركات فى أوج مجدها، لتحل محلها، وتنتقل منظمة العمل إلى مقر آخر أقل فخامة بشكل ملحوظ.
تحتفل منظمة العمل الدولية خلال عامين بمائة عام من تبنى عن قضايا العمل. واستعدادا لمئويتها، أطلقت منذ عام 2013، مبادرة مستقبل العمل، وهى مشروع بحثى طويل المدى يقوم على النقاش بين أهم باحثى قضايا العمل حول العالم مع السياسيين وممثلى النقابات وممثلى الشركات حول العالم. ومن المنتظر أن يتم الإعلان عن ملامح المشروع فى صورته المتكاملة خلال الاحتفالية. وتنطلق خلال أيام أحد أكبر فعالياته، وهو «حوار عالمى: مستقبل العمل الذى نريد».
لا يمكن فصل مصر عن المحاور الأربعة لذلك الحوار العالمى، وهم العمل والمجتمع، عمل لائق للجميع، تنظيم العمل والإنتاج وأخيرا، حوكمة العمل.
لعنة البطالة
إذا تحدثنا عن البطالة كأحد التحديات الكبرى فى عالم مأزوم اقتصاديا، نجد أن العالم يخسر قوة عمل ما يقرب من 200 مليون من البشر، ويزداد هذا الرقم كل عام بمليونين جديدين. وتقع مصر فى قلب منطقة هى الأعلى من حيث معدل البطالة. واحد على الأقل من كل عشرة من هؤلاء العاطلين يقطن منطقتنا العربية. وفى مصر، لم تقل البطالة السافرة أبدا خلال العقود الثلاثة الماضية عن 9ــ10%. وفى حين يعمل اثنان فقط من كل عشرة من أصحاب التعليم العالى والمتوسط، يجلس ثمانية آخرون فى بيوتهم عالة على أهاليهم.
وكما فى دول العالم، تنتشر البطالة أكثر ما تنتشر بين الشباب، وخاصة المتعلم. ويصعب فصل تلك الظاهرة عن تفشى التطرف والإحباط والفورات الاجتماعية وهى الظواهر التى انتشرت فى أعقاب الربيع العربى فى دول العالم المتقدم كما النامى.
ويناقش العالم حاليا التفسيرات المختلفة لظاهرة تضاؤل فرص العمل، ويغلب على التفسيرات السائدة النزوع إلى لوم التكنولوجيا. وهو التفسير الذى انتشر أيضا فى وقت الركود الكبير، مع تفشى استخدام الآلات الحديثة بمعايير ذلك الزمان، وهى المقولة التى ثبت فشلها تاريخيا، إذ خلقت التكنولوجيا تاريخيا مجالات جديدة للنمو وللتوظيف أكبر من تلك التى محاها التطور التكنولوجى. ويبقى مستقبل العمل والسياسات اللازمة له رهن إيجاد إجابة لهذا السؤال.
كما يبحث العالم عن كيفية حماية العاملين فى سلاسل الإنتاج العالمية، كيف يستطيع العالم رسم وإنفاذ سياسة تتصدى لاستغلال من نوع جديد أبطاله الدول المتقدمة وشركاتها العملاقة، بعد أن كانت سمة القرنين الثامن والتاسع عشر هى الاستغلال عن طريق الاستعمار. وليست مصر ببعيدة عن هذا الجدل أيضا.
تقع مصر فى مصاف معظم الدول النامية ذات الدخل المتوسط والتنمية المتعثرة، رغم أنها فعلت الكثير كى تستطيع أن تصير حلقة مهمة فى سلاسل الإنتاج الدولية. هذا هو الشكل الجديد من الاستغلال الرأسمالى ذى الطابع العالمى. حيث تشترى الشركة التى يقع مقرها فى العالم المتقدم (وتمتد فروعها الأخطبوطية فى دول متعددة) جل منتجاتها وخدماتها من شركات صغيرة منتشرة فى دول العالم النامى. فهذا يمكنها من شراء سلع رخيصة – بدلا من إنتاجها فى البلد الأم، أى بعيدا عن البلد الذى يكفل حماية معقولة ضد استغلال الأيدى العاملة. ثم تعيد الشركة العملاقة بيع تلك المنتجات بمئات أضعاف ثمنها، بعد وضع العلامة المميزة للشركة العملاقة. وهكذا تحقق أرباحا فلكية، وتطيل طابور المتعطلين فى العالم المتقدم وطابور ضحايا الاستغلال فى العالم النامى.
تتنافس الدول التى ترغب فى التقدم والتنمية على تصنيع وخدمة منتجات تلك الشركات الكبرى، ولا يكون التنافس سوى فى تخفيض أجر العاملين. من سيقدم القميص بأرخص سعر ليباع فى محلات زارا وجاب وغيرهما؟ مصر أم الصين أم بنجلاديش؟ كلما زاد استغلال العاملين، زاد نصيب الدولة النامية من التعاقدات مع تلك المحلات، أى تحسنت مؤشرات التصدير والتصنيع والتوظيف.. ويبقى السؤال/ المعضلة: هل هذا أمر سيئ أم حسن؟
حين نسمع أصحاب المصانع وقصص نجاح اختراق هذه السوق أو ذاك رغم الصعوبات والتكاليف، قد ننبهر حين نسمع عن معجزات الاقتصاديات التى قامت على التصدير، والشركات الناجحة فى العالم النامى. ولكن حين نقرأ عن الأمهات التى تترك أبناءها لسنوات كى تتمكن من توفير القليل من الطعام ومن التعليم، مقابل عمل يزيد عن أربع عشرة ساعة يوميا كل أيام الأسبوع، وحين تجتمع تلك الحكايات فى شكل مؤشرات أسواق العمل حول العالم لا نستطيع أن نرى سوى عودة للعبودية بأسوأ أشكالها.
أما المعضلة المصرية، فهى أنها رغم كل الاستعدادات التى اتخذتها كى تصبح ورشا للعبودية والاستغلال، المؤهل الأكبر للالتحاق بركب التصنيع وفتح الأسواق فى زمن العولمة، فإنها تبدو كمن أصابها لعنة: لا هى قادرة على إنصاف أصحاب الأيدى الخشنة، ولا هى قادرة على اللحاق بركب التنمية. وسوف تظل اللعنة إلى أن يكتشف أولو الأمر أن الإنصاف يؤدى إلى أفضل أنواع التقدم.
لعنة العمل
يقول الرومان «العمل لعنة، ما لم يكن المرء محاربا أو فيلسوفا»، وكلاهما ممن اكتسب مكانته وثروته بما قدمت يده أو قريحته. أما فى مصر، فالعمل لعنة ما لم تكن موظفا كبيرا فى الحكومة أو فى القطاع الخاص، وهى وظائف –زلو كنت تعيش فى مصرزــ ستعرف أن معظمها لا يكتسب عن طريق الجدارة.
وتبدو اليوم العلاقة بين أصحاب الأعمال وأصحاب الأجور أشبه بما كان سائدا فى بدايات الثورة الصناعية فى الغرب، علاقات استغلال بحتة، وبرعاية الدولة التى ترغب أن تسير على خطى كوريا الجنوبية، فى زمان اختلف عن زمان صعود كوريا.
هكذا، تزايدت فى مصر ظاهرة العاملين الفقراء، حيث قدرها البنك الدولى بحوالى نصف العاملين (الجبالى، 2010). لا العامل مرتاح ولا العاطل مرتاح، كما غنى عبدالحليم (بتصرف).
تأتى ظاهرة العاملين الفقراء على الرغم من ارتفاع متوسط عدد ساعات العمل فى الأسبوع. حيث نجد منحنى عدد ساعات العمل فى ارتفاع خلال العقد الأخير وحتى عام 2012ــ2013، ليصل إلى 53 ساعة أسبوعيا للعاملين بالحكومة، و56 ساعة للعاملين بالقطاع الخاص، بحسب بيانات الجهاز المركزى للمحاسبات.
وإذا ربطنا الظاهرتين ببعضهما البعض، لوصلنا إلى النتيجة التالية: نتيجة انخفاض الأجور يضطر عدد كبير من العاملين إلى التضحية بـ 13 إلى 16 ساعة فى المتوسط كل أسبوع من وقت راحتهم من أجل الوفاء بحاجاتهم الأساسية، ومع ذلك، فإن تلك الأجور لا تكفى للوفاء باحتياجاتهم الأساسية بدليل وجود هذا العدد الكبير من الفقراء فى كل قطاعات العمل الثلاثة، وإن بنسب متفاوتة.
وهكذا تتجاور الظاهرتان، كما كان الوضع فى الدول الغربية فى القرن التاسع عشر، ظاهرة العاملين الفقراء الذين يعملون عدد ساعات أطول مما يرغبون، ومما يقره القانون. جنبا إلى جنب مع وجود جيش من العاطلين عن العمل أو الذين لا يجدون سوى أعمال متفرقة متقطعة ــ إن وجدوا. وهى الظاهرة التى نجدها اليوم حتى فى أكثر الدول تقدما: ما يسمى فى العالم اليوم بتزامن الoveremployment/underemployment.
وهكذا، يحصل نصف العاملين بأجر على أقل من 1520 جنيها فى الشهر (المجلس القومى للأجور، 2013). ويقل الوسيط كثيرا فى القطاع الخاص. حيث يحصل نصف العاملين فى القطاع الخاص على أقل من 910 جنيها فى الشهر (نفس المصدر، 2013). نعم، يقترن الاستغلال بصعود القطاع الخاص فى مصر. أى أن أصحاب الأعمال نتيجة غياب أى تنظيمات نقابية فعالة، يستغلون العاملين لديهم، فلا يعطونهم سوى الفتات من ناتج أيديهم. وحتى لا يدعى أحد أن العمال منخفضة إنتاجيتهم أو أن المشروعات لا تربح ما يكفى كى تزيد أجورهم، لعل فى وصف البنك الدولى لتطور نصيب العمل من الناتج عبر العقود الماضية ما يقنع.
ففى الدراسة التشخيصية عن مصر (2015)، يقول البنك «إن توزيع الدخل الوظيفى استمر فى التحول نحو رأس المال. وانعكس معظم النمو الذى تحقق عبر العقد الفائت فى شكل أرباح وريوع أعلى، بدلا من دخول متولدة عن العمل». فقد ارتفع الفائض التشغيلى للشركات من 43% من الناتج المحلى الإجمالى فى 2000ــ0022، إلى 50% من الناتج المحلى الإجمالى فى 2008. بينما انخفضت فى المقابل دخول العاملين إلى ما يقارب الـ25%، وظلت عند هذا المستوى». أى أن نصيب رأس المال (أرباح أصحاب المشروعات) ارتفع فى المقابل خلال نفس الفترة إلى 75%. وبحسب دراسة لسمير رضوان وزير المالية الأسبق وخبير سياسات العمل، فإن نصيب العمل كان يبلغ 40% فى بداية حكم مبارك.
للمقارنة الدولية، فإن العالم المتقدم صار يبكى مؤخرا على التفاوت الصارخ بين الدخول، لأن نسبة الأجور تضاءلت إلى 60٪، مقابل ارتفاع حاد فى نصيب رأس المال من الناتج إلى 40%، فى حين كانت النسبة 30% فى العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية. وتتركز كل تلك الثروات عالميا، كما فى مصر، فى أيدى ما يسمى بالـ1% التى صارت تحكم العالم عبر صناديق اقتراع وآلات إعلامية ضخمة، حتى وقعت الديمقراطية النيابية أسيرة لها.
لا يمكن فصل مستقبل العمل عن مستقبل رأس المال، لا فى مصر ولا فى العالم. كانت العلاقة الأكثر توازنا بينهما فى أعقاب حربين عالميتين أطاحتا برءوس أموال وثروات وقضت على إمبراطوريات وقتلت ملايين. بدا وقتها السعى إلى العدالة الاجتماعية استجابة لضرورة بقاء، وكانت تلك هى السنوات الذهبية لمنظمة العمل الدولية.
فهل ستكون المئوية الجديدة بداية سلمية لعلاقة أكثر توازنا بينهما، تقودها المنظمة، أم ستفضى الأزمات الرأسمالية الكبرى حاليا وتصاعد اللامساواة إلى حروب عالمية جديدة؟
هل سيختار العالم تمكين منظمة العمل الدولية للعمل على إعادة التوازن الاجتماعى لعالم اليوم المضطرب أم يساعد عزلها على انهيار العالم كما عاشته الأرض خلال النصف الثانى من القرن العشرين؟ أيهما يصوغ مستقبل العمل فى القرن الحادى والعشرين، السلام أم الحرب؟
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 31 مارس 2017