إنهم يعطلون آليات السوق
توقفت السيدة لتسأل البائع الجائل عن سعر الشمسية. كانت الإجابة على طرف لسانه هى السعر الذى باعها به للزبون الأخير منذ دقائق، وهو عشرة جنيهات. ولكن فى نفس لحظة السؤال، سقطت أولى قطرات مطر الخريف.. فما كان من البائع إلا أن نطق مبتسما «خمسة عشر جنيها». هذا هو الدرس الأول فى أى كتاب عن الاقتصاد.. آلية الأسعار التى تتحدد بناء على الطلب والعرض، قدس أقداس النظرية الرأسمالية.
ففى فصل الصيف سينزل هذا السعر إلى خمسة جنيهات، دون أن تجد لها مشتريا، إلا بعض الأوربيين أو المسافرين لبلد مطير. أما مع بداية الشتاء، يزداد الطلب فيزيد السعر، حتى يصبح مغريا لعدد كبير من المنتجين أن يزيدوا من إنتاجهم، ليستفيدوا من هذا الارتفاع. وحين يزيد المعروض من الشماسى عن الكمية المطلوبة من المشترين، ينخفض ثمنه تلقائيا.
هذا السعى الفطرى وراء الربح هو اليد الخفية التى تحرك المنتجين، فتش عن هامش الربح.
***
فى الشهر الماضى، مع تصاعد أخبار مؤكدة عن تعويم الجنيه، دفع ذلك السعى الفطرى للبحث عن تعظيم هامش الربح عددا كبيرا من التجار والمنتجين إلى شراء كميات هائلة من المنتجات لتخزينها، لتأكدهم من أن سعر البيع سوف يزيد، وبالتالى هامش الربح. حتى نتج عن ذلك نقص فى السلع الأساسية. وهنا تدخلت الحكومة.
تدخلت الحكومة لتعلن أنها قد تضطر لتعطيل آلية الربح مؤقتا، بسبب الأزمة. وأن على المنتجين أن يتنازلوا مؤقتا عن الهدف/الترس المسئول عن تسيير الاقتصاد الرأسمالى.
وسارع اتحاد الصناعات إلى رفض هذا الإجراء، وعاد وزير الصناعة سريعا ليقول أن هذا الإجراء لن يكون إلزاميا، بل استشاريا. وحدث نفس الكر والفر فى حالة التسعير الجبرى. سرعان ما أعلن الكل تمسكه بآليات السوق. كل الأطراف تتحرك على مسرح ذى ديكور أشبه بديكور السوق الحرة.
لا أحد يحقق فى الجريمة
ولكن يعرف جميع الممثلين أن «كله تمثيل فى تمثيل». فالسوق المصرية ليست سوقا حرة على الإطلاق. أى أن أسعار المنتجات غير مرتبطة بقوى العرض والطلب، فهى لا تتغير إلا ارتفاعا فقط. والسبب فى هذا العطب هو هيمنة الاحتكارات. ولكن مثل هذا العطب لا يذاع له سر.
هناك عدد من الدراسات الحديثة التى ترصد كيف تهيمن أقلية من المنتجين على معظم القطاعات الاقتصادية. يتتبع الاقتصادى المصرى محمود عبدالفضيل فى دراسته عن رأسمالية المحاسيب (2011)، كيف سيطر على مختلف السلع والخدمات عدد قليل من الشركات خلال العقود الأخيرة.
ورصدت الدراسة المجموعات الاحتكارية الكبرى التى توسع نشاطها لتشكل إمبراطوريات جديدة فى عالم الرأسمالية الجديدة ، والتقطت دراسة لاحقة عن نفس الموضوع، صادرة عن البنك الدولى نفس المجموعات.
كما يذكر عبدالفضيل أيضا كيف سيطرت أقليات احتكارية أيضا على أسواق الاستيراد فى مجالات السكر واللحوم والجلود والزيوت والألبان. (فلا تندهش لماذا تفشل الدولة فى زيادة الإنتاج المحلى من تلك المواد).
بشكل عام، تنظر الرأسمالية الكلاسيكية إلى أن أى تدخل حكومى فى عمل آلية الأسعار والأرباح على أنه شر يفسد روعة عملها. إلا الاحتكار.. فهى تكاد تكون الآفة الوحيدة التى تعترف بها النظرية الرأسمالية، التى توجب تدخل الدولة.
إذ شرط عمل نظرية الأسواق هو المنافسة الكاملة.. أى وجود عدد كبير جدا من المنتجين لكل سلعة أو خدمة. فى حين تسمح الاحتكارات لصاحبها –دون غيره ــ بوضع أقوى يسمح له بطرد منافسيه من الأسواق والتحكم فى الأسعار، مما يؤدى إلى ارتفاع هامش الربح عن الوضع الطبيعى، وتسمى فى علم الاقتصاد بالأرباح غير العادية. والميل الدائم إلى الاحتكار هو النقيصة الكبرى للآلة الرأسمالية.
لهذا خلقت الاقتصادات الرأسمالية مؤسسات تحارب الأرباح غير العادية. لدينا واحدة من تلك المؤسسات، ولكن...
جهاز دعم الاحتكار؟
هناك ثلاثة أدوار يجب أن يقوم بها جهاز منع الاحتكار. أولا: نشر أبحاث عن أهم السلع والخدمات الذى ينتجها البلد، وعن نصيب كل منتج من سوق كل سلعة، حتى تكون هناك معلومات متاحة لجميع المواطنين عن إنتاج كل سلعة أو خدمة، فشرط المنافسة الكاملة المعرفة التامة.
خذ مثلا السكر، حين نعلم أن هناك ثلاث شركات كبرى تقتسم السوق انتاجا وأن شركة واحدة تحتكر 70% من استيراده، وأسماء كبار المساهمين فيها، يتمكن الجميع، مستهلكون ومنتجون، من فهم أفضل لمشكلة نقص السكر الحالية.
أيضا حين ينشر هذا الجهاز نشرات دورية عن هوامش أرباح صناعة وتجارة السكر، ومقارنتها بالهوامش العالمية، فهذا أيضا يتيح فهمًا أفضل لأسباب الأزمة. إذا نشر المعلومات المتاحة قوة ناعمة ولكن رادعة فى حد ذاتها. ولكن جهازنا لا يقوم بهذا الدور، رغم أنه ليس فى القانون المصرى ما يمنعه.
هناك أيضا الدور الرقابى. فمن المفترض أن يكون من حق جهاز دعم المنافسة أن يوافق أو يعترض على أى صفقة اندماج بين شركتين أو استحواذ شركة على شركة أخرى منافسة أو مكملة لعملها. فإذا ما اشترت أكبر شركة لتصنيع الحلوى أكبر شركة لإنتاج السكر، أو حصة كبيرة فيها، كان للجهاز أن يوقف هذه الصفقة. كما للجهاز أن يأمر بتفكيك شركة قائمة كبرت وتوسعت فصارت ذات سطوة فى السوق. ولكن القانون المصرى لا يعطى كل تلك الصلاحيات. فكأنه أسد بلا أنياب، يظاهر أسودا تنهش فى آليات السوق.
وأخيرا، بفضل معلومات وفيرة ومحدثة عن هوامش الأرباح، فإن من حق الجهاز أن يقيم دعوى ضد المستفيد من وضعه المسيطر على السوق بشكل دفعه إلى القضاء على منافسيه، أو منع منافسين جدد من الظهور، أو تحكم فى الأسعار منفردا أو بالتنسيق مع غيره.
ويعاقب القانون من يثبت عليه أى من تلك الممارسات. ولكن القانون المصرى لا يفرض إلا عقوبات هزيلة غير رادعة على المعتدين على كفاءة الأسواق. كما يخضع الجهاز لضغوط من كبار المسئولين ومن كبرى الشركات حتى لا يكشف عن قضايا ضارة بالمنافسة.
وتبدو الحكومة كمن يحارب الطواحين: أولا: رأينا الشرطة تداهم وتصادر أطنان السكر المخزنة لدى مصانع الحلوى، بشكل انتقائى، وبدون أن يواكب ذلك أى تبرير عن استهداف هذا المصنع أو ذاك.
ثانيا: نرى أيضا معالجة نواقص السوق عن طريق تدخل الدولة بالإنتاج بشكل مباشر، وإن أصبح ذلك عن طريق مؤسسات الجيش، بدلا من مؤسسات القطاع العام القائمة والمعطلة عن العمل. وقد رأينا ذلك فى استيراد المواد الغذائية وطرحها فى الأسواق، مع هامش ربح صغير، أو استيراد ألبان الأطفال، أو إنتاج المصانع الحربية لسلع كانت حكرا على عدد قليل من المنتجين فى القطاع الخاص.
هذا عن الحكومة. فماذا عن أصحاب الأعمال، من منتجين ومستوردين وتجار؟ كيف يسكتون عن انتهاك آليات السوق؟
لا أحد يشير إلى الجناة
إذا كانت الرأسمالية لا تعمل إلا فى ظل جهاز قوى يحمى المنافسة، فلماذا لا نجد اتحاد الصناعات أو غيره من لوبيهات المستثمرين والتى تضم أكبر عدد من رجال الأعمال تحت قبة البرلمان الحالى، يحاربون من أجل تقوية مثل هذا الجهاز؟ لماذا لا نجد أى ذكر عن محاربة الاحتكار فى أى من مناقشات ونسخ قانون الاستثمار؟
تميل الرأسمالية إلى نشأة الاحتكارات، ويميل المحتكرون إلى السيطرة على آليات صنع القرارات والقوانين. وهكذا تنفى هيمنة الاحتكارات ــ فى آخر المطاف ــ الديمقراطية. وكلما زاد الفساد، تجلت مظاهر تلك «الدولة الأسيرة».
وهذا ما نجده فى مصر، بحسب البنك الدولى الصادرة فى 2015، حيث «تمكنت من التعرف على أسماء رجال الأعمال، أعضاء مجالس إدارة شركات، ومديرين، أصحاب حصص فى 104 شركات قابضة أو صناديق استثمار، تخفى وراءها تكتلات ضخمة للأعمال. وبتتبع كل الشركات التابعة لتلك التجمعات، تمكنت الدراسة من التوصل إلى 469 شركة كلها تابعة بشكل مباشر وغير مباشر لرجال أعمال متصلين بجمال مبارك»، بحسب الدراسة.
تأخذ هذه التكتلات شكلا هرميا، بحيث تسيطر أعداد قليلة فى قمة الهرم على الجزء الأكبر من المنافع، وتقل المنافع كلما زاد عدد الشركات فى قاعدة هرم المنتفعين.
ويوجد عدد محدود من الشركات ذات النفوذ السياسى فى كل القطاعات التالية: الزراعة والتعدين والصناعات الغذائية والملابس، والكيماويات والأدوية ووسائل النقل، الإنشاءات وتجارة الجملة والفنادق والتمويل والصحة والتعليم. جميعهم يتمتعون بحماية من منافسة الشركات والمنتجات الأجنبية، كما تشير الدراسة إلى أنهم تقريبا الوحيدون الذين يحصلون على كل القروض البنكية (هم أنفسهم ملاك لحصص فى بنوك كبرى)، وبدعم سخى للطاقة.
وتوضح الدراسة كيف استفادت تلك المجموعة الهرمية من مواقعها السياسية وثقلها الاقتصادى واحتكاراتها فى تحقيق أرباح غير عادية، خاصة عن طريق تفصيل القوانين. وفى المجمل، بلغ صافى أرباح تلك الشركات ذات النفوذ السياسى 13 ضعفا صافى أرباح الشركات الأخرى.
لا أملّ منذ عدة سنوات من عرض مقتطفات من هذه الدراسة الهامة. ولكن لا أرى أى نقاش عام حول السياسات الواجب اتباعها لتفكيك مراكز القوى تلك. وإذا كانت هناك حرب خفية على هؤلاء فهى الحرب بالأسلحة الخطأ. إضافة إلى الأخطاء المذكورة، يشير مثلا ماجد عثمان، مؤسس مركز بصيرة لاستطلاعات الرأى العام إلى اعتقاده أنه خلال المرحلة الحالية قد تعتمد الحكومة على ظهور أسماء جديدة فى عالم الأعمال، وهو ما أفسره بمن يحاول محاربة المحتكرين القدامى عن طريق خلق طبقة جديدة من الأتباع المحتكرين.
وهكذا لا تستغرب حين تعلم أن الحكومة التى استماتت على إقرار ضريبة القيمة المضافة حتى تحصل القرض من البنك الدولى، تجاهلت مطلب البنك بتعديل اللائحة التنفيذية لجهاز دعم المنافسة، وتعهدها له بالتحقيق فى 11 قضية احتكار، حتى 2018، فى حين لم تحقق سوى فى قضية واحدة.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق بتاريخ 28 أكتوبر 2016