من واشنطن.. انطباعات عن القرض وما وراءه
سافرتُ إلى واشنطن فى لحظة تحاول مصر فيها انتزاع موافقة صندوق النقد الدولى على أكبر قرض خارجى تحصل عليه مصر فى تاريخها معه. هى لحظة ــ على أهميتها ومركزيتها فى تاريخ مصر المعاصر ــ غابت فيها مصر تماما عن أسئلة التحولات الكبرى التى يمر بها الاقتصاد الدولى المأزوم وأثر ذلك على اثنتين من أهم مؤسساته.
كما غاب عن تلك اللحظة أيضا النقاش العلمى المعمق عن سبل نهضة اقتصادية واجتماعية كبرى بل وعن آثار حزمة الإجراءات المصاحبة للقرض والتى بدأت مصر فى تطبيقها وتستكملها على مدى الأعوام القليلة الماضية.
كان ذلك الأسبوع الماضى، على هامش اجتماعات الخريف السنوية للبنك والصندوق الدوليين، حيث استمعت لعدد من قياداتهما فى لقاءات عامة موسعة، وعلى رأسهم رئيسا البنك والصندوق، كما استمعت إلى مسئولين آخرين بالبنك والصندوق ومن صانعى القرار الاقتصادى المصرى فى لقاءات ضيقة. وفيما يلى ملخص لبعض انطباعاتى وبحث عن بعض إجابات.
1 ــ رأيت العالم الواسع.. تبعد مصر مسافات ضوئية عن القضايا المثارة حاليا على الساحة الاقتصادية العالمية.
هناك غياب حكومى كامل عن عمليات إصلاح كبرى يقوم بها البنك الدولى، على سبيل المثال. وهناك انفصال تام عن بشائر المراجعات الفكرية التى يقوم بها صندوق النقد الدولى. وعلى الرغم من أن تلك الموضوعات من الممكن أن تكون لها انعكاسات إيجابية على مسارات الإصلاح المصرى، إذا ما أحسن استغلالها، إلا أن الحكومة المصرية تبدو غير منتبهة لكل السجالات التى تدور فى تلك الفعاليات الدولية راقية المستوى. أذكر نموذجين فقط على سبيل المثال لا الحصر.
أولا: غياب الوفد المصرى عن حضور أى من الجلسات المتعلقة بتطبيق السياسات الحمائية الاجتماعية والبيئية الجديدة، وهى الإصلاح الأكبر الذى بدأه البنك الدولى منذ أربع سنوات، لتعديل سياسات الإقراض التى يتبعها، والتى تهدف إلى إشراك المواطنين بأوسع شكل ممكن فى التخطيط لأى مشروع يموله القرض، وكذلك فى متابعة التنفيذ لهذا المشروع، بحيث لا يتضرر أحد من هذا المشروع ــ لا من العاملين به ولا من السكان فى محيط المشروع. مع وجوب تعويض من لا غنى عن تضرره بأفضل شكل ممكن.
جاءت تلك السياسات الجديدة بعد ضغوط قوية من المجتمع المدنى حول العالم ما أدى إلى تصاعد الغضب فى سائر دول العالم النامية ــ وصل إلى حد مقاطعة الاقتراض من البنك فى بعض الدول الصاعدة مثل البرازيل والصين ــ تجاه مؤسسات البنك الدولى وما تموله من مشروعات تفوق آثارها السلبية على البيئة وعلى البشر ما تجنيه الدول من آثار إيجابية. وحين تصل محفظة القروض المصرية من البنك إلى 12 مليار دولار خلال أربع سنوات، ولا تهتم مصر لا بعملية التفاوض على مدى أربع سنوات ولا بالاعتراض على الصيغة الهزيلة التى خرجت بها السياسات الجديدة، يثور الشك بأن هناك خللا ما.
ثانيا: غاب المسئولون المصريون ومساعدوهم عن كل تلك الجلسات الفكرية التى يحضرها كبار المسئولين من مختلف الدول ورءوس المؤسسات المالية الدولية مع كبار اقتصاديى العالم. لمناقشة القضايا الاقتصادية الكبرى التى تؤرق صناع القرار حول العالم، مثل تباطؤ النمو العالمى وتطورات سوق العمل العالمى والسياسات الضريبية العابرة للدول (الملاذات الضريبية) والارتفاع العالمى للامساواة.
وقد يفسر لنا ذلك الغياب جانبا من قصور السياسات الاقتصادية المحلية الحالية والتى تتجاهل واقعا اقتصاديا عالميا جديدا مختلفا كل الاختلاف عن عالم التسعينيات الذين يصر صانعو السياسة فى مصر على العيش فيه. وهكذا، نجد مثلا ذلك التناقض العجيب بين موقف مصر والصندوق، والذى كان لا يمكن أن تجده فى أى برنامج «إصلاح» يتبناه الصندوق منذ عشرين عاما مضت. حيث نجد اليوم أن الصندوق يضغط على مصر من أجل تطبيق ضرائب على الأرباح الرأسمالية – كى يتحمل الأغنياء نصيبهم من الآثار السلبية للإجراءات التى ينادى بها الصندوق. بينما ترفض حكومة مصر أن يتحمل الأغنياء هذه الضريبة. وذلك فى وقت تشتكى فيه مصر من قلة الموارد.
كما لا تهتم مصر باتخاذ أى إجراءات من شأنها وقف نزيف الدولارات الذى يخرج سنويا من البلد تحت أشكال مختلفة، بما يهدد بتطاير كل تلك المليارات التى تقترضها مصر من الخارج عن طريق نزوحها إلى ملاذات ضريبية بطرق ــ بعضها مشروع وبعضها غير مشروع. يقدر خروج الأموال بشكل غير مشروع فى المتوسط خلال العقد الماضى بحوالى 4 مليارات دولار كل سنة، على الأقل. جل مشاكل مصر متصلة بمشاكل العولمة، ولكنها لا تنظر إلا داخل القوقعة، هى نظرة تطيب للبنك والصندوق، لأنها تساعدهما على التبرؤ من آثامهما.
2 ــ رأيت مصر.. الحديث عن أزمة محلية عميقة فى محيط عاصف من الأزمات الإقليمية.
الجميع على الجانب الآخر من المحيط الأطلسى لا يرى إلا مصر هشة، مما يوجب مساعدتها تفاديا للانهيار. لا يوجد ذلك الحديث المتحمس عن مصر الناهضة المتحولة إلى قوة سياسية أو اقتصادية إقليمية، بعد ثورتين، ولا عن قصص نجاح من أى نوع، لا من جانب الحكومة المصرية ولا من جانب أى من مسئولى المؤسستين. والأقسى أنها ينظر إليها على أنها على الجانب الخاسر من الربيع العربى، المرتد عنه.
لا يتم الترويج لأى دولة من دول الربيع العربى إلا للنموذج التونسى. وهى مقولة بالقطع تحتاج إلى كثير من التأمل والمراجعة، نظرا للتبسيط المخل الذى تعامل به. ولكنها فى كل الأحوال تدل على مركزية التحول الديمقراطى فى الحكم على تطور الأمم.
فهذا هو أخطر تحدٍٍ يواجه مصر حاليا: صورتها كدولة غير ديمقراطية، على الرغم من استكمال ركنى خارطة الطريق.
ولا يعنى ذلك أن مصر محل مقاطعة دولية، بل على العكس هناك تلك الرغبة الكبيرة فى مساعدتها على ألا تهتز اقتصاديا أو سياسيا. ولكن بلا أى تطلعات كبرى ولا أى انبهار.. فقط خوف من سقوط دولة كبرى محورية وأثره على الدول المتقدمة المجاورة، وصورة سوريا ولاجئيها فى الأذهان. وفى المقابل، بدا الوفد المصرى مسحوقا تحت وطأة أزمته الناتجة عن نقص عارض فى النقد الأجنبى، بدلا من صورة الوفد الواثق من برنامجه طويل المدى للنهوض بالتعليم العام وبالصحة العامة وبرفع مستويات المعيشة والتنمية وزيادة التوظيف، ولا يرى فى نقص الدولارات إلا أزمة مؤقتة يمكن تجاوزها.
3 ــ لا إصلاح كبيرا. نتيجة ذلك التصور عن مصر المأزومة، تغيب أجندة الإصلاح طويل المدى.
لا يوجد على مائدة التفاوض سوى برنامج للإنقاذ السريع، ليصبح الشعار المصرى غير المعلن «تأجيل النمو وتأجيل التوزيع». ومن المؤسف أن المسئولين المصريين أنفسهم ــ تحت وطأة أزمة نقص الدولار الكبيسة ــ لا ينظرون إلى أبعد من المبالغ التى سيوفرها هذا الاتفاق مع الصندوق. ولا الصندوق بدوره ينظر أبعد من الخطوات اللازمة لإثبات انصياع مصر الكامل لإجراءاته المتعارف عليها. وهكذا، نجد أنفسنا أمام حزمة من الإجراءات لن تؤدى إلا إلى مزيد من عجز الموازنة، ومن ارتفاع معدلات التضخم. والأنكى أن تلك الإجراءات من شأنها أن تعمق الكساد الاقتصادى، بما يستتبع ذلك بالضرورة من ارتفاع معدلات البطالة ومن انكماش الطلب الكلى. لذا أستغرب كثيرا حالة الإنكار البادية لدى المسئولين المصريين فى واشنطن والتى تقلل من شأن تصاعد الغضب الاجتماعى الناجم عن الإجراءات المصاحبة لكل من قروض صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، وهى بحسب توصيف البنك الدولى لمصر «مخاطر اجتماعية وسياسية عالية»، ستنجم عن انهيار لقيمة العملة المحلية، وتقليص لأعداد وأجور صغار الموظفين الحكوميين، ورفع لدعم الطاقة عن المستهلكين من أصحاب المنازل. وفى هذا الإجراء الأخير بالذات كانت لى سجالات مثيرة للقلق، أفرد لها مقالا قادما.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق الإلكترونية بتاريخ 14 أكتوبر 2016