انتبه: نموذج التصدير يرجع إلى الخلف
ذهبت أسرة أمريكية إلى الشاطئ، لتلتقط آخر أنسام الصيف، وطلب أحد أفرادها أن يشرب عصير الفراولة، ثم عاد بعد عدة أيام ليكتشف أنه مصاب بفيروس التهاب الكبد (أ). وتكرر الأمر أكثر من مرة مع أكثر من أسرة، تناولت العصير فى نفس سلسلة المحلات التى تستورد الفراولة من مصر. لهذا اتهمت الفراولة المصرية بإصابة أكثر من مائة أمريكى بهذا المرض، وأعلنت سلسلة المطاعم أنها توقفت عن استيراد الفراولة من مصر، كما فتحت السلطات الأمريكية تحقيقا بهذا الشأن.
وبالتزامن مع تلك الأحداث الضارة بصادراتنا، توقفت روسيا لبضعة أشهر عن استيراد الخضر والفاكهة المصرية، بتهمة وجود أضرار صحية من استخدامها. رب ضارة نافعة كما سنرى فى النصف الثانى من هذا المقال.
لن نعرف أبدا على وجه اليقين ما إذا كانت تلك الاتهامات سليمة أم لا. فمن ناحية، وضع الزراعة فى مصر سيئ من حيث نوعية التربة وأنواع البذور التى نستخدمها، مرورا بكم وأنواع المبيدات والأسمدة، وانتهاء بعمليات النقل والتحضير التى تجافى السلامة الغذائية، وهو ما يشى كله بسوء نوعية الطعام المصدر. ويبدو أن الانطباع السائد أن المنتجات الزراعية الموجهة للاستهلاك المحلى أسوأ جودة. إلا أن هذا جانب واحد من الحقيقة أو من المعركة.
حرب الفراولة
على الجانب الآخر، تفرض الدول الكبيرة ذات الأسواق الكبيرة والتى تروج لتحرير التجارة قيودا ظالمة على استيراد المواد الغذائية. وذلك عن طريق تطبيق شروط مجحفة على وارداتها من الدول الأخرى. مثلا، كأن تفرض سقفا معينا على كمية البطاطس التى تصدرها مصر، أو أن تسمح لمصر أن تصدر الفراولة ولكن فى موسم آخر الصيف، وهى أشهر لا يمكن لمصر أن تزرع فيها الفراولة إلا فى ظروف مكلفة جدا اقتصاديا، بحيث يصبح من شبه المستحيل أن تصدر مصر فعليا، أو ألا ينجح إلا عدد صغير من المصدرين الذين يحصلون على دعم سخى من الدولة المصرية، أو أن يصبح المصدرون المصريون جزءا من «سلاسل القيمة المضافة العالمية»، وهى شراكات مجحفة مع الشركات الدولية الكبرى، بحسب التقرير الأحدث لإحدى منظمات الأمم المتحدة، الأونكتاد.
وكأن ذلك غير كافٍ، لذا توجه الدول الغنية دعما مهولا لمزارعيها – وخاصة كبرى المزارع التى تتبع الشركات العالمية الكبرى، بحيث تغريهم على غزو الأسواق المحلية والعالمية بمنتجاتهم، عن طريق إثرائهم. فهذا دعم موسمى، وذلك دعم لمواجهة الظروف المناخية، وآخر دعم لجمع المحصول وترويجه، وهكذا.. بحيث فى النهاية، يستطيع المزارعون بيع منتجاتهم فى الأسواق المحلية هناك بأسعار تستطيع منافسة الطعام المستورد، إضافة لغزو السوق العالمية للمنتجات الغذائية. إلا أن سلاح محاربة التصدير الأشهر هو الاشتراطات الصحية.
فى الظاهر تبدو تلك الاشتراطات لحماية المستهلك فى الدول الغنية. ولكنها فى حقيقتها مبالغ فيها كى تضع حدا على قدرة الدول النامية على زيادة صادراتها من المواد الغذائية. ببساطة، يعتبر إنتاج المواد الغذائية وهو أسهل أنواع الإنتاج ولا يتطلب إلا درجة بسيطة من القدرات التصنيعية، وحدا أدنى من المهارات إضافة إلى يد عاملة كثيفة. باختصار هو نمط من الإنتاج مناسب لمرحلة النمو التى تمر مصر بها، ومثل مصر العشرات والعشرات من الدول التى تسعى للتقدم والتنمية. فتستطيع تلك الدول، عن طريق تصدير منتجاتها الزراعية، بما يوفره من موارد وعملات صعبة، أن تلبى قدرا معتبرا من احتياجاتها التمويلية، كما فعلت من قبل بعض دول شرق وجنوب آسيا، وهو ما سمى بنموذج التصدير من أجل النمو. وتلك هى المعضلة.
أوكازيون للجميع.. ضرر للجميع
معضلة التجارة الحرة فى السلع والخدمات هى أنها تسمح للأقوى باكتساح الأسواق العالمية. المنافسة شرسة بين الدول وبعضها البعض، وتزيد شراسة المنافسة فى وقت التباطؤ الاقتصادى العالمى، وحين نتكلم عن منافسة فى أسواق حرة، فإننا نتكلم عن معركة لتخفيض الأسعار؛ تصبح المعركة شبيهة بأسواق الباعة الجائلين وصيحاتهم الترويجية «باتنين ونص.. تعالى بص»، ولنا فى النمور الآسيوية مثل.
فى عام 2014، كانت آسيا مسيطرة على سوق التصدير العالمى. فقد كانت تصدر وحدها 90 فى المائة من إجمالى صادرات الدول النامية إلى العالم. وكان ذلك نتاج سياسات حكومية فى الثمانينيات والتسعينيات، مكنت بعض الدول الآسيوية من توليد قيمة مضافة كبيرة من صادراتها، وخاصة الصناعية. إلا أن مثل هذا النموذج «لم يعد آمنا»، وفقا للتقرير الحديث للأونكتاد؛ وفى هذا التقرير عبرة لمصر بشكل خاص.
ففى ظل الركود العالمى، يقل الطلب العالمى على السلع والخدمات. ويجعل ضعف الطلب العالمى أسواق التصدير أكثر ازدحاما بالسلع والبضائع التى تبحث عن مشترين، ومن ثم صارت أكثر تنافسية. مما جعل الدول المصدرة كلها تخفض أسعار معروضاتها، وهو ما يستلزم بالضرورة خفض أجور العاملين المنتجين لتلك السلع والخدمات. حتى «توقفت فرص العمل، لاسيما بين النساء»، بحسب التقرير. وهنا تكمن المشكلة، فحين يقل التوظيف وتنخفض الأجور ينخفض الطلب العالمى، والذى يؤدى بدوره لانخفاض معدلات النمو، فيدور العالم فى دائرة مفرغة من الركود. لذا يبدو الوضع العالمى مهيأ لنموذج بديل للتنمية، لا يغفل التصدير إلى الأسواق العالمية، ولكنه لا يضعه هدفه الرئيسى. هذا عن الوضع العالمى، فماذا عن مصر فى قلب هذا العالم المتغير؟ لنا فى الفراولة عبرة.
النتائج الكارثية لدعم الصادرات المصرية
منذ أكثر من عشرة أعوام، قررت الحكومة المصرية تخصيص عدد متزايد من المليارات سنويا من أجل التصدير كل عام. الهدف: تشجيع المصدرين المصريين على اختراق الأسواق العالمية عبر شراكات مع الكتل الكبرى «مثل اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبى والكويز مع الولايات المتحدة، والتحرير الجزئى للتجارة مع مجموعة دول شرق وجنوب أفريقيا –الكوميسا»، أى تبنى نموذج التصدير من أجل النمو. ولكن تفاصيل التطبيق غير المعلنة، تشير إلى نتائج مغايرة تماما.
نعم، زادت الصادرات غير البترولية زيادة كبيرة فى ذلك الوقت. وهو إنجاز هام ومحمود. ولكن نظرة إلى الثمن –بل الأثمان التى دفعها الاقتصاد يجعلنا نعيد النظر.
أدى دعم الصادرات بتركيبته السابقة إلى خلق مجموعة ضيقة من المستفيدين لا تتعدى أصابع الأيدى، من تلك المليارات. صحيح صاروا من كبار المصدرين، ولكن من ناحية، اعتمد إنتاجهم بشكل مكثف على الاستيراد، سواء المواد الأولية أو السلع الوسيطة أو نصف المصنعة وأيضا الآلات والمعدات الحديثة التى لا غنى عنها فى عالم المنافسة العالمية الشرس.
وأدى ذلك كله إلى أن زادت الواردات بمعدل أكبر من زيادة الصادرات، مما التهم الأثر الإيجابى لزيادة الموارد عبر التصدير «وإن كان لم يأكل من أرباح تلك القلة من المصدرين بفضل الدعم السخى للتصدير».
كما لم يؤدِ الدعم إلى تعميق التصنيع. حيث لا حافز لدى المُصَدرين لاستبدال احتياجاتهم المستوردة بأخرى محلية. فقد كان من الأجدر للحكومة أن تدفع دعما يتناسب مع توليد القيمة المضافة، بدلا من دعم شامل على فاتورة بيع الصادرات.
مثلا، إذا كان هناك مُصَدر يشترى من الخارج الآلات والقماش وتصميمات الملابس، وكل ما يفعله هو قص القماش وتجميع وخياطة قطع القماش المقصوص، فهو لم يخلق أية قيمة مضافة إلا فى تلك الخطوة الأخيرة الصغيرة، وهى ما كان يستحق عنها دعما. وذلك بعكس مصنع صنع قماشا من الغزول المحلية، واشترى معدات ووسائل نقل محلية، وتصميمات مصرية. تخيل عدد فرص العمل التى ساهم فى خلقها، وحجم القيمة المضافة التى ساهم فى توليدها. لذا من المفترض أن يحصل على دعم أكبر للتصدير، تشجيعا له على المساهمة فى تطوير وتوسيع الصناعة المحلية.
ولإضفاء اللمسة المصرية، فقد أدى غياب الشفافية إلى الفساد. فقد قضت مثلا المحكمة على الوزير رشيد محمد رشيد بأن يرد بعض ما التهمته شركته من دعم بلغ نحو 10 مليارات جنيه «هو شريك فى شركة عالمية عملاقة فى عالم التصدير، بالتأكيد لا تستحق الدعم». وهو الوحيد الذى قدم للمحاكمة بين المستفيدين.
ولإكمال الصورة، ضغط أولئك المصدرون على الحكومة من أجل وقف أى تفاوض بين العاملين وبين أصحاب الأعمال والمشروعات حول الأجور، لأن أى زيادة فى الأجور سوف تضرب قدرتهم على التصدير فى مقتل. وهو ما حد من توزيع ثمار النمو على الجميع، ومن الزيادة المطردة فى معدلات النمو.
هذا عن الأثر على الاقتصاد الكلى وقطاع الصناعة، فماذا عن الزراعة؟
المواطن خسر من حرب الفراولة العالمية
أما فى المنتجات الزراعية، مثل الخضر والفاكهة، فقد أدى تشجيع التصدير لتلك المنتجات، إضافة إلى خلق احتكارات فى مراحل ما بعد الزراعة، من حفظ وتصنيع وتعبئة، إلى نقص بعض تلك السلع من الأسواق المحلية، مثل البطاطس والبصل والفاصوليا وغيرها، وقد يفسر لنا ذلك الارتفاع الصاروخى فى أسعار المستهلكين فى الخضراوات والفواكه على مدى السنوات العشر الماضية.
كما أثر ذلك أيضا على جودة المعروض فى السوق. حيث لا يبقى للمصريين إلا ما لا يستطيع المصدرون تصديره.
ولا توجد مع الأسف دراسات دقيقة ومحايدة تقيس الأثر الكلى لفتح التجارة مع أوروبا وأمريكا على قطاعى الصناعة والزراعة خلال العقد الماضى. إلا أن الأكيد أن الاقتصاد شهد فى نفس الفترة ارتفاع العجز التجارى، وانكماش نصيب هذين القطاعين من الناتج المحلى الإجمالى، إضافة إلى زيادة البطالة وارتفاع التضخم. وتكرر ما حدث فى مصر فى دول عديدة حول العالم.
ولهذا ينصح التقرير الأممى الأحدث للتجارة والاستثمار باستكشاف نماذج بديلة للتصنيع وللتجارة العالمية. كما تحذر منظمة الأونكتاد فى تقريرها ذاك أن «المشورة التقليدية التى تزاوج بين خفض الأجور وخفض قيمة العملة المحلية، لن تسهم فى تحقيق نتائج مستدامة».
توقف برنامج دعم التصدير المصرى عاما أو اثنين بعد الثورة. ثم حاول منير فخرى عبدالنور، وزير الصناعة السابق، تغيير قواعده وتوسيع دائرة المستفيدين. ولكن لا نستطيع تتبع كيف تم التطبيق لاستمرار غياب الشفافية. كما لم تتم مساءلة المشتبه فى فسادهم لا من الموظفين ولا من المستفيدين من هذا الدعم. لكل ما سبق، يدق جرس إنذار عنيف حين نعلم أن دعم الصادرات قد زاد فى العام الحالى فى مصر إلى 4.5 مليار جنيه.
تم نشر هذا المقال عبر منصة جريدة الشروق بتاريخ 30 سبتمبر 2016