الفيل في الغرفة: الدولة وأحداث العنف الطائفي في مصر (2)
تعرضنا في الجزء السابق من هذا المقال لأهم أسباب أحداث العنف الطائفي في مصر، خصوصًا في الفترة التي أعقبت يناير ٢٠١١. وخلصنا من قراءة الإحصائيات المتاحة في هذا الشأن إلى أن غالبية أحداث العنف الطائفي تندلع إما نتيجة ممارسات تتلكأ الدولة في تنظيمها تشريعيًا منذ عقود، كما في حالة بناء الكنائس، أو تلجأ لتنظيمها على النحو الذي يشعل مزيدًا من نار العنف الطائفي نفسه، كما في حالة الأحوال الشخصية، أو تُبقي على تنظيمها بشكل يعيد إنتاج العنف الطائفي بشكل دائم، كما هو الحال فيما يتعلق بالتعبير عن الرأي في أمور عقائدية وفقهية أو بالتحول الديني من الإسلام للمسيحية والعكس. هكذا يصبح الإطار التشريعي المنظِّم لعلاقة الدولة بالمجتمع هو نفسه عاملًا من عوامل إعادة إنتاج الطائفية. كما انتهينا إلى أن المقاربات الرسمية لمعضلة العنف الطائفي تتجاهل دلالة هذه النتيجة الرئيسية، وهي أن العلاقات والممارسات الطائفية لا تقتصر في حضورها على المجتمع، وإنما تمتد إلى ما يفترض أنه مجال سيادته المنظم وفقًا للقواعد الحديثة العقلانية في ممارسة السلطة، أي الدولة الوطنية نفسها.
سنكتفي في هذا الجزء بإلقاء الضوء سريعًا على طبيعة هذه التشريعات وما يرتبط بها من ممارساتقضائية ومحاولات تعديلها المتعثرة، حتى يكتمل فهمنا، على الأقل، لطبيعة المعضلة التي نواجهها، وقصور المقاربات الرسمية عن التعامل معها.
بناء الكنائس: امتياز أم حق؟
تخضع مسألة بناء الكنائس لترتيبات تشريعية تعود لبواكير الحداثة القانونية المصرية في منتصف القرن التاسع عشر، فمع انفتاح الدولة العثمانية على السوق الرأسمالي العالمي ومراكزه في الغرب بدأت السلطات تتوسع في منح عدد من الامتيازات للرعايا الأجانب، مثل عدم المثول أمام المحاكم المحلية في أرجاء السلطنة العثمانية، ومنها مصر بطبيعة الحال. في هذا السياق، مُنح لهذه الجاليات امتياز حرية العبادة الذي شمل في مرحلة لاحقة، وتحت ضغط حكومات الرعايا الأجانب بالأساس، الأقليات غير المسلمة التي تعيش في أرجاء الإمبراطورية، ومنها أقباط مصر، وذلك بالخلاف مع التفسيرات الفقهية المهيمنة لقرون، التي لم تجز بناء كنائس جديدة في ديار المسلمين المفتوحة عنوة. فصدر في هذا السياق الخط الهمايوني عام ١٨٥٦ الذي يجيز بناء الكنائس بعد موافقة صاحب السيادة، وهو رأس السلطة الدينية كذلك.
بهذا المعنى كان السماح ببناء الكنائس منذ اللحظة الأولى امتيازًا صادرًا من الحاكم لعدد من الجماعات المحلية، وليس حقًا من حقوق المواطنة للأفراد المتساوين أمام القانون. استند هذا الامتياز لتفسيرات متطورة للتراث الفقهي، ولكن دون القطيعة الكاملة مع منهج التعاطي مع هذه الجماعات كأهل ذمة في رقاب المسلمين، لهم الحماية والأمان كجماعة متجانسة، ولكنهم ليسوا مواطنين أحرارًا متساوين. انتقلت هذه الترتيبات لمحل ممارسة السيادة الحديث، أي الدولة الوطنية، وحاكمها الجديد، أي الملك، بعد الاستقلال الرسمي في ١٩٢٢ وصدور دستور ١٩٢٣، والذي قيّد الحق في ممارسة الشعائر الدينية بقيد "العادات المرعية في الديار المصرية"، ومن ضمنها بالطبع الخط الهمايوني المذكور.
وكمتمِّمٍ لعملية التقنين السابقة، أتت عام ١٩٣٤ ما تعرف بشروط العزبي باشا، وكيل وزارة الداخلية المصري في هذا الوقت، لتضع معايير لقبول طلب بناء أو ترميم الكنائس في نفس الإطار الذي رسمه الخط الهمايوني. فمن ضمن الشروط المفروضة مثلًا، كان ابتعاد الكنيسة، التي تطلب طائفةٌ بعينها بناءَها، عن أقرب مسجد أو ضريح بمسافة معينة، وضمان قدر من التناسب بين عدد السكان المسيحيين التابعين للطائفة المذكورة وبين مساحة الكنيسة المرغوبة، وكذلك ضمان عدم وجود أي اعتراضات من المجتمع المحلي في حال كانت الأغلبية من المسلمين. بعبارة أخرى، فقد رهنت شروط العزبي بناء الكنائس بإرادة الأغلبية المسلمة في أي منطقة. أقرَّتْ المحاكم المصرية كذلك هذه الترتيبات في سلسلة من أحكام القضاء الإداري المبكرة في ١٩٥٢، ثم في منتصف ستينيات القرن الماضي، وذلك رغم اعتراف الدساتير المصرية المتعاقبة، حتى دستور ١٩٧١ "الدائم"، بمبدأيّ حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية بدون قيود.وبالتالي أصبح القرار النهائي بشأن بناء وترميم الكنائس في أيدي جهات الإدارة، ثم تحول لأيدي الجهات الأمنية عمليًا، مع الزيادة السكانية الهائلة بشكل عام، والتي تبعتها زيادة مماثلة في حجم السكان الأقباط الراغبين في بناء دور عبادة جديدة.
وفي هذا السياق، ومنذ حادث الخانكة الشهير عام ١٩٧٢، وهو من أوائل أحداث العنف الطائفي المعروفة، بدأت هذه المسألة تتحول لنقطة ابتزاز وضغط على الكنيسة المصرية من قبل التيارات الإسلامية والأجهزة الأمنية، على النحو الذي لم يسهم إلا في ازدياد وتيرة أحداث العنف الطائفي نفسها وتواترها لتتخذ شكلها المعروف اليوم: التقدم بطلب ترخيص لبناء أو ترميم أو توسيع كنيسة، التأخر والمماطلة في الحصول على الموافقات الأمنية، البدء في ممارسة الشعائر الدينية في مكان بناء الكنيسة المفترض أو في أحد البيوت، الاعتداء على هذا المكان أو المنزل من قبل بعض السكان المحليين، بهدف هدم البناء المخالف أو وقف ممارسة الشعائر، ثم التدخل الأمني والإداري لإبقاء الوضع على ما هو عليه.
من الحوادث الشهيرة التي تعتبر أمثلة نموذجية على هذا النمط من العنف الطائفي، الصدامات الطائفية في منطقة العمرانية بالجيزة في ديسمبر ٢٠١٠، قبل حوالي شهر واحد من اندلاع ثورة يناير ٢٠١١، وأحداث قرية الماريناب بأسوان في سبتمبر ٢٠١١، والتي كان من ضمن تداعياتها المأساوية قمع احتجاجات متظاهرين أقباط أمام مبنى التليفزيون في ماسبيرو في الشهر التالي، مما أسفر عن وفاة ٢٤ محتجًا.
في مواجهة هذا الوضع المتأزم، والذي حرصت الجهات الأمنية على إعادة إنتاجه على مدار عقود، اختمرت الدعوة لضرورة إقرار قانون موحد لبناء دور العبادة بشكل عام، سواء كانت مساجد أو كنائس تخص أي طائفة من الطوائف، بهدف تفعيل المبدأ الدستوري القاضي بحرية ممارسة الشعائر الدينية. تبنت قطاعات متزايدة من النخب السياسية والقانونية في مصر هذا المطلب منذ تضمينه في تقرير لجنة العطيفي البرلمانية المكلفة بالبحث في أسباب حادثة الخانكة المذكورة وتداعياتها. إلا أن الحكومات المتعاقبة ماطلت في مناقشة هذا المطلب، ناهيك عن إقراره. وفي المقابل أُقرَّت تعديلات جزئية على نفس الإطار التشريعي الطائفي والتمييزي دون المساس بفلسفته نفسها. فصدر القرار الجمهوري رقم ١٣ لسنة ١٩٩٨، والذي منح المحافظ سلطة قبول أو رفض طلب ترميم الكنائس، وتبعه القرار الجمهوري رقم ٤٥٣ لسنة ١٩٩٩، والذي منح المجالس المحلية سلطة قبول أو رفض طلب بناء كنيسة جديدة. ولكن هذه القرارات الجمهورية لم تتناول بالتعديل شروط العزبي باشا التمييزية، والتي تمثل جوهر المعضلة في الحقيقة.
وعلى خلفية أحداث ماسبيرو المأساوية، تقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم وقتها بمشروع قانون موحَّد لتنظيم بناء دور العبادة، فيما اعتُبر محاولة لتصفية هذا المصدر الدائم للتوتر الطائفي. اقتصرت شروط مشروع القانون على ضرورة التناسب بين مساحة الكنيسة وعدد المنتمين للطائفة المتقدمة بطلب البناء، مع عدد آخر من الشروط الفنية. إلا أن هذا المشروع كان نصيبه الرفض الصريح والمعلن من الأزهر الشريف، ممثلًا في مجلسه الأعلى للشؤون الإسلامية، والرفض من وزارة الأوقاف، التي يفترض بها الإشراف الكامل على المساجد. في المقابل، اقترح الأزهر إصدار تشريع مستقل ينظم بناء الكنائس، في تناقض صريح مع مبدأ المساواة الذي يفرضه الدستور. وحذت الكنيسة الأرثوذكسية حذوه في الدعوة لقانون مستقل لبناء الكنائس، ربما من باب الموائمة السياسية. أخذ الدستور الحالي الصادر في يناير ٢٠١٤ بهذا الاقتراح وألزمت المادة ٢٣٥ منه، في باب الأحكام الانتقالية، مجلس النواب المنتخب حديثًا بضرورة إقرار هذا التشريع في دور انعقاده الأول. تشير مسودة القانون المسرَّبة للصحافة في نهاية ٢٠١٤ إلى تحسن ملموس، إذ أصبحت سلطة البتِّ في طلب بناء الكنائس في يد المحافظ بشكل نهائي، استنادًا إلى عدد من المعايير، من ضمنها مدى التناسب بين السكان المنتمين للطائفة ومساحة الكنيسة المرغوبة وسهولة الوصول إليها. كما ألزم مشروعُ القانون المحافظين بالبت في الطلب خلال مدة زمنية غايتها ٣٠ يومًا، وسمح لمقدمي الطلب بالشروع في أعمال البناء في حالة عدم الرد. أما في حالة الرفض "المسبب"، فيجوز لمقدم الطلب الطعن على قرار المحافظ أمام المحكمة المختصة في مدة زمنية غايتها ٦٠ يومًا. وبالتالي، فرغم هذا التحسن إلا أن المحافظين استمروا في حيازة سلطة رفض الطلب، وهو الرفض الذي سيكون أمنيًا بطبيعة الحال. وفي هذه الحالة، فاللجوء للقضاء يعني عمليًا إبقاء الوضع معلقًا حتى البت في موضوع النزاع، ومن ثم إعادة إنتاج مفجِّرات الأزمة مرة أخرى. وغني عن الذكر أن بناء المساجد وتجديدها لا يخضعان لنفس الشروط.
الأحوال الشخصية: طلاق صعب وزواج مستحيل
مرّت حالة العلاقات العاطفية أو الجنسية بين مختلفي الديانة بتطورات شبيهة بتلك التي مرت بها مسألة بناء الكنائس. فرغم التحول للتقنيات القانونية الحديثة، لم تقطع الممارسات التشريعية والقضائية صلتها باﻷحكام الفقهية الموروثة في مسائل الأحوال الشخصية، وإنما نقلتها لمجال القانون الوضعي. فأبقت قوانين الأحوال الشخصية الحديثة على نفس الفصل التاريخي بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، حيث صيغت التشريعات الأولى بالاعتماد على أحكام المذاهب الفقهية الأربعة، والتي تنظر المحاكم الشرعية في مدى الالتزام بها، في حين ظل أمر الفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين متروكًا للمحاكم الملّية. أما محتوى هذه القوانين فظل محلَّ نزاع بين المجالس الملية، التي ضمَّتْ أعيان النخب المسيحية الحديثة من مهنيين وملاك أراضٍ، باﻹضافة لقيادة الكنيسة التي مالت لتشديد القواعد الحاكمة للطلاق أو للزواج الثاني، أو حتى للزواج من غير أتباع الديانة أو الطائفة. ففي عام ١٩٣٨ أَعدَّ المجلس الملي لائحة منظمة لمسائل الأحوال الشخصية للأقباط، تضمنت تسعة أسباب للطلاق، من ضمنها الغياب في ظروف يغلب عليها الوفاة، أو "الزنا الحكمي" الذي يشمل أي علاقة مريبة أو مثيرة للشك بين أحد الأزواج وطرف آخر، أو حتى إساءة العشرة. شكَّلت هذه اللائحة أساس القانون ٤٦٢ لسنة ١٩٥٥، وهو المنظِّم للأحوال الشخصية لغير المسلمين، وبدأ تطبيقه بعد إلغاء المحاكم الملّية وتوحيد جهة التقاضي في الأحوال الشخصية.
لم تكن اللائحة ولا القانون بأي حال من الأحوال محل إجماع بين قيادات الكنيسة الأرثوذكسية. وفي ظل ميل نخبة يوليو ١٩٥٢ الحاكمة إلى التعامل المباشر مع القيادات الدينية للأقباط، على حساب التعامل مع أي منظمات مدنية في مجال سياسي مفتوح، فقد بدأت المحاباة الرسمية التدريجية لوجهات نظر الكنيسة. تستدل الباحثة كريمة كمال في كتابها القيم "الأحوال الشخصية للأقباط من تفاحة بنت شنودة إلى وفاء وكاميليا"على هذا التململ الكنسي، بالدراسة التي قدمها في ١٩٥٨ البابا شنودة الثالث، وكان لا يزال يعرف في هذا الوقت باسم الراهب أنطونيو السرياني، بطلب من الكلية الإكليريكية، والتي دارت حول شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وعبَّرَ فيها عن رأيه بوضوح بشأن عدم جواز التطليق في المسيحية إلا لعلة "الزنا الفعلي”. وتأزم الموقف مع تولي البابا شنودة الثالث الكرسي البابوي عام ١٩٧١، وإصداره القرار البابوي رقم ٧ لسنة ١٩٧١ للمجلس الإكليركي، بعدم التصريح بالزواج الثاني لمن يحصل على أحكام بالطلاق لأي سبب آخر إلا لعلة الزنا الفعلي، وهو الموقف الذي لم يتغير حتى وفاته. بهذا المعنى، فرغم الأحكام الدستورية القاطعة بشأن حرية الزواج والحق في تكوين أسرة، كان الموقف القانوني ملتبسًا ولم تبذل الحكومات المتعاقبة من الجهد ما يكفل حلحلة الأزمة، في ضوء تحالفها مع قيادات الكنيسة الأرثوذكسية.
في عام ١٩٧٩ مثلًا صاغ ممثلون للطوائف المسيحية الثلاث قانونًا موحدًا للأحوال الشخصية لغير المسلمين، يتضمن الزنا الحكمي كسبب من ضمن أسباب الطلاق التي تعترف بها الكنائس. إلا أن هذا المشروع الذي قُدم لمجلس الشعب وقتها لم ير النور حتى الآن. وكان هذا التكلس التشريعي سببًا لاتجاه عدد من المسيحيين الراغبين في الطلاق إلى تغيير الطائفة أو حتى التحول للإسلام، إذ أن أحكام الشريعة اﻹسلامية هي ما يجري تطبيقها على المتنازعين في هذه الحالة. وظلت الأزمة على حالها حتى وصل الأمر للصدام المعلن بين مجلس الدولة والبابا شنودة الثالث حينما رفض الأخيرُ الامتثال لحكم المحكمة الإدارية العليا الصادر في ٢٠١٠، والذي يُلزم الكنيسة بمنح تصريح بالزواج الثاني لمن يحصل على حكم بالطلاق أيًا كانت الأسباب.
أصبح هذا الإطار التشريعي المضطرب مصدرًا للتوتر الطائفي بسبب عدم إقراره مبدأ الزواج المدني بين مختلفي الديانة، وإبقائه على الأحكام المنفصلة للمسلمين والمسيحيين، ومن جهة ثانية بسبب قبوله بتقييد الطلاق والزواج الثاني للأقباط تماشيًا مع رغبة الكنيسة الأرثوذكسية. فأحداث العنف الطائفي المتعلقة بهذه الأزمة عادة ما تندلع نتيجة هروب أحد الأزواج مختلفي الديانة، سواء للارتباط بعلاقة عاطفية مع شخص آخر، أو نتيجة استحالة الطلاق في حالة الأقباط. وسرعان ما تتحول واقعة الهروب إلى صدامات واسعة بين أتباع تلك الديانات التي ترى في جسد المرأة ممثلًا لشرف هذه الطائفة أو تلك.
تعد حادثتا وفاء قسطنطين في ٢٠٠٤، وكاميليا شحاتة في ٢٠١٠، واللتان امتدت تداعياتهما لما بعد ثورة يناير، مثالًا نموذجيًا للتطور المأساوي لهذه الوقائع. ففي الحالة الأولى تطور الأمر لما يشبه الصدام بين أجهزة الدولة اﻷمنية والبابا شنودة نفسه، بعد إعلان اﻷخير الاعتكاف احتجاجًا على تقاعس الأمن في تسليم وفاء قسطنطين، وهي زوجة قسٍّ مسيحي، للكنيسة لاستيضاح حقيقة اعتناقها الإسلام من عدمها. وفي الحالة الثانية تطوَّرَ الأمر لصدامات دموية في منطقة إمبابة في مايو ٢٠١١، نتيجة احتجاج عددٍ من منتسبي التيار السلفي على تقاعس الأجهزة الأمنية في الإعلان عن مكان كاميليا شحاتة، والتي تردَّدَ أنها اعتنقت الإسلام وأن الكنيسة تحفظت عليها. وغني عن الذكر أن حادثة قرية الكرم الأخيرة بمحافظة المنيا تأتي في نفس السياق.
وبهدف نزع فتيل هذه الأزمة المتجددة، وتحت الضغط المجتمعي بالأساس، اتخذت الكنيسة الأرثوذكسية خطوةً للخلف، وقبلت بإقرار قانون موحد للأحوال الشخصية للمنتمين للطوائف المسيحية. إلا أن هذه الخطوة تتناقض ببساطة مع الدستور الجديد، الذي يقرُّ في مادته الثالثة بضرورة احتكام أتباع الديانات السماوية الثلاث لأحكام شرائعهم فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، بما يغلق الباب أمام إمكانية الزواج المدني بين مختلفي الديانة، ويرهن المشروع الموحد بإرادة الكنائس.
وبالفعل، فرغم التحسن الملحوظ في مسودة القانون المسرَّبة لوسائل الإعلام، والذي يتمثل أساسًا بالعودة لإقرار "الزنا الحكمي" كسبب من أسباب الطلاق في المادة ١١٤ منه، إلا أن القانون أبقى على نفس المعضلة القديمة، وهي ضرورة حصول المطُلَّق لعلة الزنا على تصريح بالزواج الثاني من رئاسة طائفته الدينية (مادة ٢٠). أي أن ما سمح به المشروع في أحد مواده عاد وقيَّده في مادة أخرى. كذلك يحظر المشروع على الرجل المسيحي الزواج بأي مختلفة في الديانة، أو بمعتنقة لأي من المذاهب غير المعترف بها كنسيًا، كشهود يهوه أو السبتيين أو البهائيين أو المرمون (مادة ٢٢). ولا تزال مسألة الزواج المدني محل خلاف بين ممثلي الكنائس المختلفة.
"ازدراء الأديان": عقاب الضحايا
وأخيرًا، فالتعبير عن الرأي في المسائل العقائدية كسبب من أسباب العنف الطائفي، هو بدوره أمر قديم قدم الحداثة القانونية نفسها. فرغم حداثة المادة ٩٨ (و) ، التي ظهرت في قانون العقوبات المجرِّمة لما يعرف بازدراء الأديان في العام ١٩٨٠، إلا أنها استندت إلى تراث تشريعي وقضائي راسخٍ مال دائمًا لفرض قيود على التعبير عن الرأي في المسائل العقائدية والفقهية بداعي الحفاظ على النظام العام، وذلك على خلاف المبادئ الدستورية التي أقرَّتها الدساتير المصرية المتعاقبة. اعتمد هذا الميل التقييدي على فلسفة ترى في الدين عمومًا، وفي الإسلام على وجه الخصوص، عاملًا من عوامل التماسك الاجتماعي والانضباط الذاتي للمواطنين. ولذلك عملت النخب الحاكمة عبر أدواتها المختلفة، ومنها الأدوات التشريعية بطبيعة الحال، على تشجيع نمط بعينه من التدين ترعاه مؤسسات الدولة الدينية الرسمية، وعلى حصار أشكال مختلفة من التعبير، سواء تلك المتطرفة دينيًا أو المتطرفة في الاتجاه المعاكس. وكان الهدف ولا يزال وضع الدين في موقعه المراد له اجتماعيًا، وحصار الميول التي قد تغذي رد فعل جذري في أيٍّ من الاتجاهين.
فقد استند القضاء الإداري والدستوري مثلًا، في تعامله مع ميل مجموعات من المواطنين لاعتناق مذاهب إسلامية غير معترف بها، على مفهوم الردّة الذي يحظر التحول الديني على المسلمين. وهو ما تجلى في أحكام القضاء الإداري المتعلقة بوصية المرتد مثلًا، والتي تعاملت مع الردّة، منذ أربعينيات القرن الماضي، كأحد جرائم النظام العام. وتبنَّى القضاء الدستوري عام ١٩٧٥ موقفًا مشابهًا عقب إقرار المادة الثانية في دستور ١٩٧١، والتي اعتبرت "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا للتشريع"، في تعامله مع حق البهائيين في بناء محفلٍ لممارسة شعائرهم، إذ اعتبر البهائيين مرتدين، واعتبر الردّة بحد ذاتها إخلالًا بالنظام العام، وهو نفس الرأي الذي استندت إليه غالبية أحكام القضاء الإداري عند التعاطي مع معضلة التحول للمسيحية، وهي ممارسة لا يجرّمها الدستور أو القانون، ولكنها اعتُبرت، في سلسلة من الأحكام عام ٢٠٠٧ من قبل محكمة القضاء الإداري، ممارسات مخلّة بالنظام العام.
كذلك اعتمد عدد من المواطنين على بعض مواد قانون المرافعات الجنائية التي كانت تجيز تحريك ما يعرف بـ"دعاوى الحسبة" ضد أي مواطن، إذا ما نجح المشتكي في إثبات وقوع ضرر شخصي عليه، وهي المادة التي حوكم بمقتضاها مثلًا المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد والمخرج يوسف شاهين، نتيجة احتواء أعمالهما على آراء مناهضة لـ"المعلوم من الدين بالضرورة" وفقًا لرأي المدّعين. هذا بخلاف ما حفلت به قوانين الرقابة المتعاقبة من قيود على المواد المنشورة أو السمعية والبصرية، باسم الحفاظ على الآداب العامة والنظام العام، ومن ضمنه المشاعر الدينية لعموم المواطنين.
والطريف في مسألة المادة ٩٨ (و) أنها أُقرت في نهايات العام ١٩٨٠ عقب أحداث الزاوية الحمراء الطائفية، بهدف احتواء خطاب التحريض الطائفي ضد الأقباط الصادر وقتها عن عدد من القيادات الدينية الإسلامية، إلا أنها بحد ذاتها تحولت أخيرًا لمصدر رئيسي من مصادر العنف الطائفي الذي سعت لاحتوائه، خصوصًا في الفترة التالية على يناير ٢٠١١. إذ أن عددًا معتبرًا من حوادث العنف الطائفي قد اندلع على خلفية اتهام أحد المواطنين الأقباط بنشر مادة "مسيئة للإسلام" على أحد صفحات التواصل الاجتماعي، ما يعقبه اعتداء جمعٍ من المسلمين على منزل هذا المواطن أو منازل عائلته وجيرانه من الأقباط. التدخل الأمني هنا، وبدلًا من حماية ضحية الهجوم، ينتهي عادةً بمحاكمته وفقًا للمادة ٩٨ (و) فيما يُعد إقرارًا مبطنًا بالاعتداء الطائفي نفسه وإشارة بإمكانية قبوله والتسامح معه في المستقبل. تصاعدت وتيرة هذا النمط من العنف الطائفي عقب يناير ٢٠١١ كما سبق الذكر، ومن اﻷمثلة المعبرة عن هذا النمط واقعة الاعتداء على منازل وممتلكات عائلات أربعة طلاب أقباط في مركز بني مزار بالمنيا في أبريل ٢٠١٥، على خلفية نشرهم فيديو يسخر من ممارسات "داعش"، فقد انتهى الأمر بإلقاء القبض على الطلاب الأربعة وتحويلهم للمحكمة التي قضت في مطلع العام الحالي بسجنهم لخمس سنوات، بعد اتهامهم بازدراء الدين الإسلامي
تعالت مؤخرًا أصوات كثيرة، ضمَّت عددًا من نواب البرلمان المنتخب حديثًا، تدعو لإلغاء المادة والاكتفاء بالمادتين ١٦٠ و١٦١ من قانون العقوبات، واللتين تجرّمان التحريض على العنف، إلا أن المستشار مجدي العجاتي، وزير الدولة للشئون النيابية، فاجأنا بتصريحات تدعو لتغليظ العقوبة في جرائم ازدراء الأديان.
أي مستقبل؟
يكشف الاستعراض السابق لإحصائيات أسباب العنف الطائفي، وطبيعة وتاريخ الإطار التشريعي المنظم لعلاقة الدولة بالمجال الديني والمجال الخاص، عن جذور ظاهرة العنف الطائفي، والمرتبطة أساسًا بالتناقض بين إطار تشريعي أبوي ومجتمع يموج بتحوِّلات كبرى في أنماط تديِّنه وممارساته العاطفية والجنسية تتجاوز كافة التراتبيات التقليدية التي لا يزال هذا الإطار التشريعي منحازًا لها. هكذا، وعلى فرض جديتها واستمراريتها، ستظل الجهود الرسمية الساعية لـ"تحديث" ثقافة هذا المجتمع، أو لرفع معدلات تنميته البشرية، بهدف تصفية هذه الظاهرة ودعم التماسك الاجتماعي، متعثرة على صخرة هذا التناقض، الذي يقتضي تجاوزه إعادة الهيكلة الجذرية لعلاقة الدولة بالمجتمع، باتجاه المساواة الكاملة بين المواطنين الأفراد أمام القانون دون تمييز، على أرضية كفالة حريات الاعتقاد والتعبير كاملة غير منقوصة. وهي مبادئ تستند بالقطع على منظومة قيم مختلفة، وتقتضي مستويات أعلى من التنمية البشرية، إلا أن العمل على زرع هذه القيم وتحقيق معدلات التنمية، بدون التعامل مع المعضلة الأساسية، لن يكون إلا حرثًا في بحر. بعبارة أخرى، لا حل لمعضلة العنف الطائفي إلا بعقد اجتماعي جديد إن جاز التعبير.
في هذا السياق، لا تؤشر التنازلات التي استعرضناها عقب يناير ٢٠١١ إلى اتجاه رسمي بتصفية هذا التناقض، بقدر ما تؤشر على عمق اﻷزمة التي يمر بها اﻹطار التشريعي الحاكم، مع التراتبيات الاجتماعية الموروثة التي يستند إليها، وعلى تآكل قدرته على الصمود والمناورة أمام التحولات الاجتماعية الكبرى التي كشفت عنها ثورة يناير، مما يجعله يبدو وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، رغم ما يسم محاولات تشبثه بالحياة من عنف وقبح.
كتب هذا المقال عمرو عبد الرحمن مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة المصرية، وتم نشره عبر موقع مدى مصر بتاريخ 13 يونيو 2016