الفيل في الغرفة: الدولة وأحداث العنف الطائفي في مصر (1)
في معرض تعليقه على أحداث العنف الطائفي التي شهدتها قرية الكرم بمحافظة المنيا الشهر الماضي على خلفية شائعات عن هروب سيدة مسلمة مع مواطن مسيحي، قال رئيس الجمهورية: "لا يليق أبدًا إن اللي حصل ده يحصل في مصر أو يتكرر مرة تانية... أي حد هيغلط مهما كان هيتحاسب.... القانون هياخد مجراه على أي حد من أول رئيس الجمهورية". وغزلت تصريحات البابا تواضروس والأنبا مكاريوس، المكلف من قبل البابا بمتابعة تطورات الحادثة، على نفس منوال تصريحات الرئيس بشأن ضرورة تطبيق القانون وعدم اللجوء لجلسات المصالحة العرفية إلا بعد التأكد من إنفاذ القانون. وكذلك دارت تصريحات عدد كبير من رموز المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية ومعلقي النخب القانونية والسياسية في نفس الفلك، وطالبت بتطبيق القانون على الجميع. ولكن ماذا لو كان القانون نفسه هو المشكلة وليس الحل؟ أي ماذا لو كان المفجر الرئيسي لغالبية أحداث العنف الطائفي في مصر، منذ بداية الثمانينيات وحتى ما بعد يناير ٢٠١١، هو الإطار التشريعي نفسه الذي يحكم علاقة الدولة بالمجتمع بشكل عام، وبالمجال الديني ومجال الأحوال الشخصية على وجه الخصوص؟
هنا يتطلب الأمر الانتقال من الدعوة لتطبيق القانون على الجميع إلى الشروع في إعادة هيكلة هذه العلاقة نفسها بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة تمامًا مختلفة عما ساد خلال أكثر من قرن ونصف من عمر الدولة الحديثة في مصر. هذه الضرورة هي ما تشير لها الإحصائيات المتاحة، على قلتها، عن حوادث العنف الطائفي التي توضح أن حضور الدولة قد تحول من عامل مساعد للتماسك الاجتماعي إلى عامل مهدد لهذا التماسك نفسه.
طائفية الدولة الغائبة، بين المقاربة الثقافية والتنموية:
تستند تصريحات السيسي السابقة، وغيرها من التصريحات الرسمية عند التعاطي مع معضلة العنف الطائفي، على واحدة من مقاربتين، أو على كليهما معًا. المقاربة الأولى يمكن وصفها بالمقاربة الثقافية، والتي تتلخص في أن أحداث العنف الطائفي تنتج بالأساس عن تخلف المجتمع المحلي عن ممارسات الدولة الحديثة وعدم قدرته على تقبلها، سواء لرسوخ البنية القبلية والطائفية – أي تلك التي تتعامل مع المنتمين لديانات بعينها بوصفهم جسمًا واحدًا يشترك في الحقوق والواجبات والمسئوليات الجنائية كذلك- وأن دور أجهزة الدولة، والحال كذلك، هو الارتقاء بهذا المجتمع المحلي ودمجه تدريجيًا في مجال الممارسات الحديثة التي تتعامل مع المواطنين كأفراد أحرار متساويين أمام القانون دونما تمييز. وتتخذ هذه المقاربة الثقافية أحيانًا شكلًا معكوسًا، أي اعتبار أن المجتمع المحلي قد تطور بالفعل عبر القرن الماضي باتجاه معايير الحداثة ولكنه تعرض لعملية "غزو ثقافي" أدت لانتشار أنماط من التدين غريبة على الشخصية المصرية، سواء كانت قادمة من الجزيرة العربية أو ما وراءها. ويصبح دور الدولة مرة أخرى في هذه الحالة، هو قيادة نفس المجتمع المحلي لإعادة اكتشاف ذاته عبر نشر نمط "وسطي" للتدين يقر بالتسامح والتعايش بين أتباع الديانات المختلفة.
أما المقاربة الثانية، والتي يمكن تسميتها بالمقاربة التنموية، فتدعو الدولة للعب دور تنموي، على النحو الذي يسمح بالتخلي عن الانتماءات الطائفية والجهوية السابقة على الانتماءات الوطنية الحديثة ويخلق مصالح مشتركة بين المنتمين لهذه الطوائف نفسها. وتشير هذه المعالجات عادة إلى حقيقة لا تحتمل الجدال، وهي أن الغالبية الساحقة من حوادث العنف الطائفي تندلع في أقاليم ومناطق هي الأكثر تراجعًا من ناحية مؤشرات التنمية البشرية.
لا خطأ من حيث المبدأ بالطبع في هذه المقاربات إلا في تجاهلها لـ"الفيل في الغرفة" كما يذهب المثل الشائع، أي في افتراضها أن دور الدولة هو بالضرورة دور تحديثي على مستوى الثقافة، وتنموي فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأن حضورها يقود بالضرورة إلى نتائج إيجابية من وجهة نظر أصحاب هذه التوجهات.
ولكن في المقابل تُظهر البيانات المتاحة عن أسباب أحداث العنف الطائفي أن غالبية هذه الحوادث تندلع، إما نتيجة ممارسات تتلكأ الدولة في تنظيمها تشريعيًا منذ عقود، كما في حالة بناء الكنائس، أو تلجأ لتنظيمها على النحو الذي يصب الحَبَّ في طاحونة العنف الطائفي نفسه، كما في حالة الأحوال الشخصية، أو تُبقي على تنظيمها بشكل يعيد إنتاج العنف الطائفي بشكل دائم، كما هو الحال فيما يتعلق بالتعبير عن الرأي في أمور عقائدية أو فقهية، أو بالتحول الديني من الإسلام للمسيحية أو العكس. بعبارة أخرى، تتجاهل المقاربات السابقة حقيقة أن العلاقات والممارسات الطائفية لا تقتصر في حضورها على المجتمع، ولكنها تمتد إلى ما يفترض أنه مجال سيادته المنظم وفقًا للقواعد الحديثة في ممارسة السلطة، أي الدولة. هكذا يصبح الإطار التشريعي المنظِّم لعلاقة الدولة بالمجتمع هو نفسه عاملًا من عوامل إعادة انتاج الطائفية.
أرقام ودلالات:
بالعودة للإحصائيات، فالبيانات المتاحة عن أحداث العنف الطائفي قليلة، وتغطي فترات زمنية محدودة، وذلك نتيجة ضعف البحث الميداني بشكل عام في مصر، وللحساسية السياسية لموضوع البحث بطبيعة الحال، والتي تجعل المؤسسات الرسمية تحجم عن الاستثمار في هذه البحوث. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بعض المحاولات الجادة لبناء قواعد بيانات عن أسباب العنف الطائفي واتجاهاته ومآلاته منذ نهايات عصر مبارك، وخصوصًا في الفترة التي أعقبت يناير ٢٠١١. ففي كتابها القيم المعنون "الأقباط في مفترق طرق"، ترصد الباحثة ماريز تادرس عشرة أسباب للعنف الطائفي في الفترة ما بين ٢٠٠٨ و٢٠١١، وذلك من واقع بحثها الميداني في ١٨٠ حادثة عنف طائفي وقعت خلال هذه الفترة. يأتي على رأس هذه الأسباب الصراعات المدنية بين مسلمين ومسيحيين، والتي تتعلق بأمور اقتصادية أو بأي شأن حياتي آخر، بواقع ٣٧ حادثة وبنسبة ٢٠,٥٦٪، ثم تليها مباشرة، وبفارق بسيط، الصدامات المتعلقة ببناء أو ترميم الكنائس في ظل رفض من المجتمع المحلي، أو الناتجة عن تحويل بيوت أحد المواطنين لمكان لممارسة الشعائر الدينية المسيحية، وذلك بواقع ٣٤ حالة وبنسبة ١٨,٨٩٪. تلي ذلك النزاعات المتعلقة بالعلاقات العاطفية أو الجنسية بين مختلفي الديانة بفارق طفيف، وبواقع ٣٣ حالة ونسبة ١٨,٣٣٪، وتليها بفارق أوسع الصدامات المتعلقة بالتحوِّل الديني بواقع ٢٢ حالة وبنسبة ١٢,٢٢٪.
ويلاحَظ أن مسألة التعبير عن آراء مخالفة لآراء المؤسسات الدينية الرسمية في المسائل الدينية، والتي عادة ما يجري التعامل القانوني معها إذا قادت لتوتر طائفي وفقًا لمواد قانون العقوبات الُمجرّمة لما يعرف بازدراء الأديان، لم تسجَّل خلال هذه الفترة أكثر من ٤ حالات، بنسبة ٢,٢٢٪. تعود الباحثة إلى نفس التصنيف في الفترة الممتدة منذ تنحي مبارك في فبراير ٢٠١١ وحتى انتخابات الرئاسة ٢٠١٢، لترصد ٧٠ حالة عنف طائفي. قفزت النزاعات حول بناء الكنائس لتصبح على رأس هذه الأسباب بواقع ١٥ حالة وبنسبة ١٠,٥٪، ثم تلتها بفارق طفيف الحوادث المتعلقة بالعلاقات العاطفية أو الجنسية بين مختلفي الديانة بواقع ١٣ حالة ونسبة ٩٪، وتراجعت الصدامات المتعلقة بنزاعات مدنية بين المواطنين إلى المرتبة الرابعة، بواقع ١١ حادثة ونسبة ٧,٧٪. أما التحول الديني فقد حلَّ في المرتبة الخامسة بواقع ٦ حالات ونسبة ٤,٢٪.
تستكمل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية البحث الميداني في حوادث العنف الطائفي ما بعد يناير ٢٠١١، لتصل في توثيقها إلى نهاية العام ٢٠١٤. ففي دراستها عن جلسات الصلح العرفي في حوادث العنف الطائفي، والتي أعدها الباحث اسحق إبراهيم، رصدت المبادرة ١٥٠ حادثة عنف طائفي، جرى التعامل مع ٤٥ حادثة منها عن طريق جلسات الصلح العرفية. في توثيقه لأسباب هذه الوقائع، يصل الباحث لنتائج مشابهة لنتائج ماريز تادرس، حيث تأتي على رأس مسببات هذه الأحداث الـ٤٥ النزاعات المتعلقة ببناء الكنائس، بواقع ١٤ حالة وبنسبة ٣١٪، في حين حلّت النزاعات المرتبطة بالعلاقات العاطفية أو الجنسية بين مختلفي الديانة في المرتبة الثانية، بواقع ١٣ حالة ونسبة ٢٩٪ تقريبًا. أما النزاعات المتعلقة بالتعبير عن الرأي في المسائل الدينية، فقفزت للمرتبة الثالثة بواقع ٨ حالات وبنسبة ١٨٪، في حين تراجعت النزاعات المدنية كمفجر للعنف الطائفي للمرتبة الرابعة، بواقع ٧ حالات وبنسبة ١٦٪.
أما أحدث التقديرات لأسباب العنف الطائفي فتأتي من مشروع "إشهد" التابع لمعهد "التحرير" للدراسات بواشنطن، والقائم على تحديث خريطة بحوادث العنف الطائفي وتحليل أنماطها، وإن كان غير معني حتى الآن بتحليل أسبابها. تغطي بيانات المشروع الفترة من منتصف العام ٢٠١٤ وحتى بدايات ٢٠١٦. كذلك يضم المشروع إلى إحصائه الخاص بالعنف الطائفي، العنفَ السياسي الموجه ضد الأقليات من قبل جماعات سياسية، إسلامية في الأغلب أو متعاطفة مع الإسلاميين، والعنف الجنائي الموجه للأقباط على سبيل الاستضعاف، مثل خطف بعض الأقباط وطلب الفدية، بما يقفز بعدد حوادث العنف الطائفي إلى ما يتجاوز الـ٤٠٠ حادثة خلال نفس الفترة. هذا الدمج غير دقيق من وجهة نظرنا، وإذا استبعدنا الإحصائيات الخاصة بهذين النمطين، تتبقى لنا الحوادث المتعلقة ببناء الكنائس في المرتبة الأولى، بواقع ٢٤ حالة عنف طائفي، تليها الحوادث المتعلقة بالخلافات المدنية بواقع ١٦ حالة. ثم تقفز الحوادث المتعلقة بالتعبير عن الرأي في مسائل عقائدية إلي المرتبة الثالثة بواقع ١١ حالة، وتأتي خلفها الحوادث المتعلقة بالعلاقات العاطفية بواقع ٧ حالات.
تتفق الإحصائيات السابقة، على اختلاف مناهجها وأدوات جمع بياناتها، في احتلال حوادث العنف المتعلقة ببناء الكنائس للمرتبة الأولى بدءًا من العام ٢٠١١، باﻹضافة لاحتلالها مرتبة متقدمة حتى قبل ٢٠١١. كذلك تشير هذه الإحصائيات إلى مسببين رئيسيين يحتلان المراتب الثلاثة المتقدمة دائمًا، وهما العلاقات العاطفية بين مختلفي الديانة، والتحول الديني أو التعبير عن الرأي في المسائل العقائدية. ويزداد عدد الوقائع المرتبطة بهذه الأسباب الثلاثة مجتمعة بشكل ملفت منذ يناير ٢٠١١ حتى الآن. وهي وقائع كما سبق الذكر تتعلق بتشريعات طال انتظار صدورها، كالقوانين المنظمة لبناء دور العبادة، أو تشريعات يجري التشبث بها أو تعديلها بشكل جزئي ومبتسر في ظل معارضة أو التفاف مجتمعي عليها، كما هو الحال في الحوادث المتعلقة بالعلاقات العاطفية أو الجنسية بين مختلفي الديانة، أو تشريعات قائمة وتفرض قيودًا مغلّظة على حريات مكفولة دستوريًا كحريات التعبير والعقيدة.
كذلك لا خلاف يذكر بين هذه الإحصائيات حول بؤر العنف الطائفي وتركزه بشكل أساسي في مراكز التواجد القبطي الرئيسية، سواء كانت حضرية أو ريفية، وفي المناطق التي تحتل مرتبة متأخرة وفقًا لمعدلات التنمية البشرية. فوفقًا لبيانات ماريز تادرس المحسوبة في الفترة من ٢٠٠٨ وحتى ٢٠١١ كانت خمس محافظات فقط مسرحًا لحوالي ٥٧٪ من حوادث العنف الطائفي، بواقع ١٠٣ حادثة من أصل ١٨٠ رصدتهم الباحثة. وهذه المحافظات على الترتيب هي المنيا والقاهرة وأسيوط والإسكندرية وبني سويف. أما وفقًا لدراسة المبادرة المصرية، فكانت أربع محافظات من الخمس السابقة مسرحًا لأكثر من نصف حوادث عنف طائفي شهدت لجوءًا لجلسات الصلح العرفي للتعامل معها، وهي على الترتيب المنيا وبني سويف والقاهرة وأسيوط، بواقع ٢٦ حالة من أصل ٤٥ حالة وثقتها المبادرة.
ترسم البيانات السابقة صورة معكوسة للصورة التي تتبناها المقاربتان الثقافية والتنموية المهيمنتان على الخطاب الرسمي. فالقراءة المتأنية لهذه البيانات تضعنا أمام صورة مجتمع زاخر بالتناقضات، وتنحو قطاعات معتبرة منه يوميًا للتمرد على مواقع النفوذ والتراتبيات الاجتماعية الأبوية والطائفية الموروثة، في حين تصطدم بإطار تشريعي منظِّم لعلاقة الدولة بالمجتمع يحابي تلك التراتبيات التقليدية ويقوم بشكل فعال بمساندة دفاعها العنيف عن نفسها في مواجهة محاولات التمرد تلك. لا يتسع المقام هنا لتحليل الأسباب التي تؤدي للاستمرار العنيد لهذا الإطار التشريعي المتكلس – خصوصًا بعد يناير ٢٠١١ وما كشف عنه هذا التاريخ من إمكانيات ديمقراطية متفجرة في هذا المجتمع- إذ يتطلب ذلك معالجة مستقلة لتطور العلاقات الاجتماعية وارتباطها بأشكال ممارسة الحكم ومجال الأفكار والثقافة، وكيفية إنتاجها لهذا التناقض الفج. ولكن يمكن الاكتفاء في الجزء الثاني بالقاء الضوء سريعًا على طبيعة هذه التشريعات وما يرتبط بها من ممارسات قضائية ومحاولات تعديلها المتعثرة، حتى يكتمل فهمنا، على الأقل، لطبيعة المعضلة التي نواجهها، وقصور المقاربتين الثقافية والتنموية عن التعامل معها.
كتب هذا المقال عمرو عبد الرحمن مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة المصرية. وتم نشره عبر موقع مدى مصر بتاريخ 9 يونيو 2016