الخيار النووي ..من منظور الطاقة المستدامة
تعاني مصر من أزمة حادة في الطاقة، ولا يكاد الإنتاج يفي بالاحتياجات الحالية، ناهيك عن المستقبلية. وتبذل الحكومة جهودًا واضحة للتغلب على نقص موارد الطاقة، خصوصًا في مجال الكهرباء حيث حققت بالفعل تحسنًا كبيرًا. نسمع بشكل يكاد يكون يوميًّا عن اتفاقات أو تعاقدات أو مشروعات أو خطط تتعلق بالكهرباء، دون أن نعرف ماذا تم بالفعل على أرض الواقع ولماذا وماهي تكلفته وأعباؤه وطبيعة الاستراتيجيات التي تتبعها الحكومة لمواجهة أزمة الطاقة.
لا يتعلق حل أزمة الطاقة فقط بتوفير الموارد ولكن، وربما بدرجة أكبر، بسياسات إدارة هذه الموارد. وأزمة الطاقة الحالية نفسها توضح كيف أهدرت سياسات سابقة، مثل التوسع في تصدير الغاز ودعم الطاقة لغير المستحقين، فرصة الوفرة النسبية في موارد البترول والغاز وأوصلتنا إلى أزمة مستحكمة. تثور تساؤلات وشكوك كبيرة حول الجدوى الاقتصادية لبعض مشروعات الكهرباء أو درجة المخاطرة العالية أو العبء البيئي والاجتماعي، وماهية معايير الاختيار وعدالة توزيع الأعباء وفي النهاية شكوك حول قدرة هذه السياسات على الخروج الحقيقي من الأزمة رغم ما قد تحققه من نتائج إيجابية على المدى القصير.
يثير إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية على وجه الخصوص كثيرًا من هذه الشكوك. أعلنت الحكومة ضمن برنامجها عن عزمها بناء مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء بقوة 4800كيلو وات، وكان هناك اتفاق مع الحكومة الروسية وأخيرًا مع الحكومة الكورية لبناء هذه المفاعلات، وصَاحَبَ الإعلان عن المشروع ترويج دعائي له في الإعلام كاتفاق عظيم ومشروع قومي. لم تنشر تفاصيل كافية حول المشروع النووي ولم يطرح لمناقشة مجتمعية جادة رغم توصيات الوكالة الذرية للطاقة بأهمية الحوار المجتمعي بشفافية في كافة المشروعات النووية.
ليس معروفًا مقدار تكلفة المشروع، لكن ذكر أن القرض الروسي المقدر بمبلغ 25مليار دولار هو لتمويل 85% من المشروع، أي أن التكلفة الكلية نحو 30مليار دولار وقد تزيد. وهذه في الواقع تكلفة باهظة للغاية بكافة المقاييس، فهي تعادل خمسة عشر ضعف تكاليف إنشاء محطة غازية مركبة وستة أمثال تكاليف إنشاء محطة رياح بنفس القدرات.
تعاقدت شركة سيمنز لبناء 3محطات غازية/مركبة تولد 14400ميجاوات بتكلفة إجماليه 6مليارات يورو، وبناء محطات للرياح بقدرة 2000ميجاوات ومصنع للشفرات الدوارة بتكلفة حوالي ملياري يورو. وحتى بحساب رخص سعر الوقود النووي فما زال الفرق هائلًا حتى بالنسبة إلى الغاز، ناهيك عن محطات الرياح ذات الوقود المجاني والتي تشهد تقنياتها تطورًا مستمرًّا وانخفاضًا في الأسعار. أما المعلومات الشائعة حول رِخَص سعر الكهرباء النووية بحساب الكيلو وات ساعة مقارنة بالوقود الأحفوري والغاز والطاقة المتجددة. فذلك لأنه لا يتم حساب تكاليف الإنشاء الباهظة ولا تكاليف أخرى مثل تكاليف تخزين الوقود النووي أو تكاليف استعدادات الطوارئ وتكاليف حماية المفاعل العسكرية ولا تكاليف الآثار السلبية على المناطق السياحية والأنشطة الاقتصادية الأخرى.
ورغم التحسن الأكيد في التقنيات النووية فمن الثابت أنه لا يمكن أن تمنع منعًا باتًّا الأخطاء البشرية أو الكوارث الطبيعية. المفاعل النووي لن يحل أزمة الكهرباء فقدرته الكهربائية يمكن لمحطة تقليدية أن تعوضها بسهولة ولكن التكلفة الإنسانية البيئية المروعة للكوارث النووية والتي قد تتحملها الأجيال الحالية والمستقبلية، لا يمكن تعويضها خصوصًا وأن مصر في مرحلة انتقالية شديدة الاضطراب تواجه تحديات اقتصادية وتنموية وتواجه حربًا ضد الفصائل المسلحة وتهديدات من البلدان المجاورة وتعاني من آثار عقود من الحكم الفاسد وعدد من المعوقات التنظيمية والتشريعية وضعف المحاسبة والشفافية وكل هذا يهدد بشدة أمان وكفاءة المشروع النووي.
يمثل تخزين النفايات والتفكيك والتخلص الآمن من النفايات النووية تحديًا أساسيًّا عند التخطيط للمفاعل النووي ويجب وضعه في الحسبان قبل الدخول في المشروع وهو ما لم يحدث. وجدير بالذكر أنه لا يوجد حتى الآن أي مخزن للتصريف النووي النهائي في العالم كله، وفنلندا أول دولة بدأت في ذلك وسيستغرق بناؤه 20عامًا بتكلفه 3مليار يورو.
لا تمتلك مصر أي يورانيوم، وحتى في حال وجوده لا تمتلك المعرفة اللازمة لتجهيزه كوقود وستعتمد على الجانب الروسي بترتيبات طويلة الأمد، الأمر الذي يضعف السيادة الوطنية على الطاقة. لن تدخل مصر العصر النووي بمجرد بنائها مفاعلًا لتوليد الكهرباء، وقد يتم تدريب كوادر مصرية على التشغيل بطبيعة الحال، لكن ليس من المتوقع نقل المعرفة أو التقنية المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، خصوصًا في ظل ضعف المنظومة التعليمية والمؤسسات البحثية وغياب سياسات تنحا إلى تطوير وامتلاك معرفة وتقنية أصلية.
بناء مفاعل نووي، يعني التزامًا يقرب من مائة عام وتكلفة عالية وديونًا ثقيلة واعتمادية على الخارج وأسعارًا مرتفعة للكهرباء، ناهيك عن التكلفة الإنسانية والبيئية المروعة للكوارث النووية خصوصًا في الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. ومن المؤكد أنه يمكن تعويض نفس الكميات من الكهرباء من مصادر أخرى أقل كلفة وخطرًا وعبئًا. يثير الخيار النووي تساؤلات قوية حول سياسة الطاقة التي تتبعها الحكومة وحول غياب إستراتيجية متكاملة لتحقيق استدامة الطاقة وعدالة توزيعها على أسس الشفافية والمشاركة المجتمعية. ويخشى أن لا تؤدي السياسة التي تهدف فقط إلى زيادة محطات الكهرباء من أي نوع وبأي شكل، إلى حل حقيقي لأزمة الطاقة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع المصري اليوم بتاريخ 2 مارس 2016