معنى التضامن والعدالة فى الرعاية الصحية
إذا كانت الرعاية الصحية حقا أساسيا من حقوق الإنسان، على الدول أن تحترمه وتحميه وتعمل على تنفيذه تدريجيّا وفقا لمعايير أخلافية محترمة من التضامن والعدالة والكرامة الإنسانية، فقد يكون علينا كباحثين فى مجال الصحة والحق فى الرعاية الصحية المنصوص عليها دستوريّا، أن نسعى إلى تفسير تلك المفاهيم الملتبسة، التى ما زالت تثير كثيرا من الجدل حولها وبخاصة فى إطار السعى إلى إعادة هيكلة وإصلاح المنظومة الصحية الحالية، والذى يهدف إلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة لكل مواطن دون تمييز وإلى تأسيس أداة تمويلية تأمينية تتسم بالكفاءة والاستدامة فى استخدام الموارد المتاحة.
فى هذا السياق إذا نظرنا إلى مفهوم العدالة الصحية فإننا نرى أنها مبدأ يقتضى ضمنا إعادة توزيع الخدمات والسلع الصحية المنتجة. وقد أشار فى ذلك جون راولز ـ فى مؤلفه الأهم فى نظرية العدالة ـ إلى ضرورات التفاوت فى العلاج الطبى (لينفى فكرة العدالة المطلقة) بناء على مبدأ الاختلاف فى الاحتياجات، والذى يمكن به تبرير التفاوت هو جلب أعظم فائدة ممكنة للآخرين الأسوأ وضعا (وهذا ما يسمى فى المنهج الحقوقى بالتمييز الإيجابى للأطفال والأمهات والحوامل وكبار السن، وإلى جانب مرجعية راولز المهمة ثمة وجهة نظر أخرى لا تقل أهمية، لاقتصادى آخر هو إم فالتزر صاحب كتاب (فى مجالات العدالة دفاعا عن التعددية والمساواة) والذى ينادى بأن نوعية السلع والخدمات تتطلب معايير توزيع مختلفة، فالعدالة التوزيعية لديه تبحث عن المبادئ الداخلية لكل معيار توزيعى وفى الرعاية الصحية تعد الحاجة (من وجهة نظره هى المعيار التوزيعى الأهم، وهى مشتقة من مبدأ ماركسى شهير وقديم (لكل حسب احتياجه ومن كل حسب قدرته). طُوِّر إلى: من كل حسب قدرته (وموارده) إلى حسب احتياجاته، المعترف بها اجتماعيّا وهذه الاحتياجات تقوم على أساسٍ من القيم المشتركة من الاحتياجات الضرورية فى الصحة، فى الأغلب لا سقف لها، وقد قامت اتفاقية الطب الحيوى الدولية (Biomedical convention) بعمل إطار تفسيرى فى عام ١٩٩٧ يشرح الاحتياجات الطبية بناء على الاحتياجات التى يقررها الطبيب المعالج والذى يقرر شكل التفاوت فى الوصول إلى الرعاية الصحية بناء على المعايير الطبية والمعايير القياسية للمهنة.
•••
ولتطبيق ما سبق فى حالة تصميم مجموعة خدمات التأمين الصحى المصرى الجديد، الذى تنشغل به البلاد حاليّا فى إطار الرغبة فى إحداث توازن بين إمكانية توفير الموارد اللازمة له وبين ما يمكن تقديمه للمواطنين من خدمات صحية تلبى احتياجاتهم وتطلعاتهم من قيام مثل هذا التنظيم الجديد.
وقد يجد المجتمع واللجنة المنوط بها إدارة الحوار المجتمعى الحالى حول القانون أنفسهم أمام اختيارات صعبة لوضع قوائم بالخدمات الطبية والصحية التى يستطيع تقديمها أو شطبها (مثل عمليات التجميل أو زرع الأعضاء.. إلخ) ومن ثم تصبح مهمة تحديد مجموعة الخدمات مهمة فنية ولكنها ذات طبيعة سياسية ومن ثم فسوف تخضع فكرة الاحتياج المرتبطة بالعدالة الاجتماعية فى الصحة إلى ضرورة التضامن بين القادرين وغير القادرين من المواطنين وهذا ما قد يتعارض مع بعض الرافضين لفكرة التضامن والمتمسكين بمكاسبهم الآنية وتمتعهم بمزايا خاصة فى الصحة وغيرها من الخدمات.
كما أن القانون أيضا قد توجه إليه سهام المعارضة من البعض الذين يريدون قانونا على مقاس أفكارهم ويضمن كل شىء من نزلات البرد العابرة إلى أقصى مدى من العلاجات الحديثة المكلفة مثل زرع الأعضاء وغيرها من التدخلات الطبية الأكثر تقدما. وهذا لا يختلف عليه أحد كتوجه استراتيجى وهدف نهائى للنظام التأمينى فى حال زيادة الدخل القومى وزيادة الإنفاق العام على الصحة كنسبة من هذا الدخل.
فهل يستقيم ذلك مع مفاهيم التضامن والعدلة الاجتماعية فى الصحة؟
وهل الحاجة ما زالت بلا حدود؟ لدى البعض؟ وإلى أى مدى سوف يتقبل الأغنياء فى المجتمع فكرة التضامنَ لتمويل النظام الجديد إذا كانت النزعة الذاتية تغذى لديهم فكرة «أنا ومن بعدى الطوفان».
هذه قضية للحوار أرجو أن نجد الشجاعة الكافية لخوضه من خلال الحوار حول قانون جديد تأمينى يكرس الطيف الأخلاقى للتضامن، وهو الجانب الدافئ فى هذا الطيف من حيث تشابهه مع مبادئ كالولاء والحب والرعاية فى مقابل مبادئ أخرى تحتاج إلى الانتزاع المباشر أحيانا كالحرية والمساواة.. إلخ.
فهل ننجح فى الرهان على فكرة الطيف الأخلاقى الأدفأ لضمان تحقيق حقوق بسطاء الناس فى الرعاية الصحية التأمينية بتضامن الأغنياء مع هذا النظام وعدم الهروب إلى خارجه؟
تم نشر هذا المقال بجريدة الشروق بتاريخ 1 أبريل 2015