نحن لا نزرع التبغ
نحن لا نزرع التبغ، ولكننا نستورده، فلماذا لا نمول التأمين الصحى من حصيـلة ضرائبه فيما يعـرف بالـEar Marked taxation، فبموجب اتفاقيات مكافحة التبغ الدولية التى وقعت عليها مصر وصدقت عليها بالاحترام والتنفيذ، تزيد الضريبة على التبغ بنسبة سنوية لتمويل الرعاية الصحية. إن فرض الضريبة على التبغ وفق الاتفاقات الدولية المنظمة يتم بحسابات دقيقة تراعى الحفاظ على تأثيره الإيجابى فى الحد من الاستهلاك ومن ثم تخفيف عبئه الضار بالبيئة وبالصحة، وتحصيل موارد مالية كافية لتحقيق الرعاية الصحية وتخفيف الآثار السلبية الناتجة عن التدخين.
ومن المعروف أن التبغ ومشتقاته أحد الأسباب الهامة للعبء المرضى فى مصر وفى كثير من بلدان العالم، ومن ثم أوصت منظمة الصحة العالمية بأن يتحمل المدخنون جانبا من تمويل العبء المالى للتدخين، فى صورة تمويل لنظم الرعاية الصحية المختلفة أو النظم التأمينية المختلفة. وتلك الحصيلة من الضرائب ليست قليلة على الإطلاق، وتسهم فى تحقيق نوع من المساواة الأفقية فى توزيع تكلفة وأعباء المرض اقتصاديا، ذلك أن أمراض التدخين من أكثر الأمراض كلفة فى مسارات نظم التأمين الصحى.
***
صدر أخيرا قرار رئيس الجمهورية بزيادة الضرائب على التبغ ومشتقاته، وقدرت حصيلة الزيادة بما يعادل 5.5 مليار جنيه مصرى سنويا، وكان قد تم إرفاق القانون بقرار من وزير المالية يتخصيص نحو 1.6 مليار جنيه من هذه الحصيلة لتمويل نظام التأمين الصحى الذى يعانى من ترد فى جودة خدماته، بسبب العجز التمويلى المزمن الذى يواجهه منذ سنوات. إلا أن عُمر قرار وزير المالية لم يتعد سويعات قليلة، وصدر قرار بإلغائه بحجة عدم إمكان الاخلال بمبدأ وحدة الموازنة، حيث تقوم وزارة المالية بعد ذلك فى الوقت الحالى بدعم هيئة التأمين الصحى.
الواقع أن ما حدث لا يعكس مجرد مشكلة قانونية أو فنية بقدر ما يعكس عدم وضوح فى السياسات العامة التى تحكم الرؤية حول تمويل النظام الصحى الجديد الذى تعمل عليه الدولة منذ سنوات، والذى تبرز أهم محاوره فى ضرورة السعى لتحقيق تغطية صحية شاملة لكل المواطنين وخاصة الفئات الأكثر حرمانا من الرعاية والحماية الصحية والخدمات إلى جانب محور تمويل تأمين صحى تكون مصادره الأساسية من الاشتراكات التأمينية المقننة، ومن دعم الخزانة العامة للدولة للفئات غير القادرة إلى جانب ما يسمى بالتمويل المجتمعى المتعدد والذى يسمى الضرائب أو الرسوم غير المباشرة المخصصة لغرض تمويل التأمين الصحى التى تفرض ليس فقط على التبغ ولكن أيضا على الكحوليات وغيرها من المصادر مثل الصناعات الملوثة للبيئة وبعض خدمات الطرق والخدمات المختلفة، وفقا لدراسات اقتصادية جيدة لا تضر بحقوق أخرى أساسية الحق فى السكن والغذاء وغيرهما من الحقوق.
ولذلك فقد جاء قرار السيد وزير المالية بإلغاء القرار الذى سبقه والمتعلق بتخصيص جزء من عوائد الزيادة الضريبية على السجائر للتأمين الصحى ذى دلالات خطيرة:
أولا: يأتى مخالفا للتوجه الاستراتيجى حول مكونات تمويل نظام التأمين الصحى الشامل.
ثانيا: يخالف التوجه الذى برز فى دستور 2014 بوضع الصحة مهمة أولية من مهام الدولة فى الوقت الحالى والمستقبل.
ثالثا: جاء ليمتص حصيلة الضريبة على التبغ ومشتقاته، فى الوقت الذى يحد فيه من القدرة على فرض ضرائب مستقبلية على السلعة نفسها مرة أخرى لتمويل التأمين الصحى.
رابعا: لا يمكن اعتبار مبدأ وحدة الموازنة ذا أولوية تفوق وجود إرادة سياسية لإنفاذ نظام رعاية صحية أفضل للمواطنين، ولعل التساؤلات تثور حول العديد من الموارد المهدرة فى صناديق خاصة لا يمكن للمواطن مراقبتها، وإن كانت قانونا «لا تخالف مبدأ وحدة الموازنة». فقضية «مبدأ وحد الموازنة» من الممكن حلها بسهولة بسبل تكفل حفظ التمويل لحق المصريين فى رعاية صحية أفضل إذا توافرت إرادة جادة لتحقيق هذا الهدف.
فقرار إلغاء قرار التخصيص يرسخ كغيره من القرارات الاقتصادية التى صدرت فى الأشهر القليلة الماضية، على رؤية الحكومة فى أولوية معالجة المشكلات المالية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى كفلها الدستور وأكدتها الاتفاقات التى وقعتها الدولة، وعلى أولوية توفير الموارد لمواجهة المخاطر المالية بصورة محاسبية، مع غض الطرف عن المخاطر الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن سوء توجيه الإيرادات التى يتم تحصيلها.
تم نشر المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ ٢٨ فبراير ٢٠١٥