أنعي إليكم محمد الجندي..وأنعي إليكم سراب دولة القانون
"مفيش خوف تاني..مفيش ظلم تاني"
يوم 11 فبراير 2011 بصوت اختلطت فيه الزغاريد بالدموع لخصت نوارة نجم أحلامنا الثورية في إرساء دولة ما بعد مبارك-بعد دقائق من خلعه/تنحيه/ تكليفه المجلس العسكري بإدارة شئون البلاد: دولة تقوم على شريعة يأمن فيها المواطن على نفسه وحقوقه، دولة على أرضها من يتبع القانون فهو آمن من الخوف والظلم. "نعيش بقى زي الناس" كما قالت نوارة. اليوم لازلنا لا نعيش "زي الناس". بل أننا قد لا نعيش أصلا.
كنا في 25 يناير الأول حين أراد الشعب إسقاط النظام المسئول عن قتل خالد سعيد، أراد إسقاط دولة حبيب العادلي وإقامة دولة العدل-دولة القانون التي لو قامت ما كان خالد سعيد قد ضُرب حتى الموت. لم يكن خالد سعيد القتيل الوحيد، ولكنه كان الأشهر.
"خالد سعيد مات مقتول، ومبارك هو المسئول"
في 25 يناير الثاني، حين خرجنا نهتف بسقوط حكم العسكر الذين تفننوا في إفاقتنا من حلم 11 فبراير الوردي: "مفيش خوف تاني..مفيش ظلم تاني" بشتى صنوف الترويع والظلم، كتبت يومها لافتة واحدة: "أين دولة القانون؟ خالد سعيد مات مقتول ومبارك هو المسئول، مينا دانيال مات مقتول والمشير هو المسئول".
ما بين 25 يناير الثاني و25 يناير الثالث حدث الكثير جدا لإيهامنا بأن تغييرا يطال بنية السلطة. توالت الانتخابات وتناوب رؤساء الوزراء والوزراء في لعبة تغيير الوجوه على الكراسي، وجيء برئيس "مدنيّ منتخب"، وتوارى العسكر بقلادات تكريمهم خلف ستار دستور تم تمريره تحت جنح الظلام. وبقت دماء أبناء الثورة الحالمين تجري من تحتنا أنهارا.
في خضم ذلك بدت دولة القانون كسراب يطارده حالمون عطشى في صحراء دولة العجائز وصفقاتهم. خرجتُ في 25 يناير الثالث -ونحن نهتف بسقوط حكم المرشد- وأنا أحمل لافتة واحدة أيضا: "يا ثورة ما تمت..خالد سعيد مات مقتول ومبارك هو المسئول..مينا دانيال مات مقتول والمشير هو المسئول..جابر جيكا مات مقتول ومرسي هو المسئول...وبُكرة هيجي عليكوا الدور".
لم أكن أعرف أن "بُكره" سيأتي بهذه السرعة ليحصد أرواح العشرات ما بين 25 يناير الثالث ويومنا هذا. ما بين كلمات محمد كريستي في مقال أحمد سمير أمس، وانكسار أرواحنا في جنازة محمد الجندي اليوم، ابتلعت صوتي. لم أعد أقو على الهتاف لأرواح شهداء لا "بنجيب حقهم" ولا "بنموت زيهم"، ولم أعد أجرؤ على مزيد من الوعود بأن "وحياة دمك يا شهيد..ثورة تاني من جديد".
لقد ثُرنا..وثُرنا مجددا..وثُرنا ثالثا..ولازلنا لم نصل بعد لتلك المعادلة التي نبقى فيها أحياء بلا خوف ولا ظلم.
***
مفزع هو الشبه بين صورة محمد الجندي وهو راقد بلا حراك على سرير المستشفى وتلك الصورة القديمة لخالد سعيد في ثلاجة المشرحة. ومفزعة هي الحقيقة التي يكشفها ذلك الشبه بين الصورتين: بعد عامين من اندلاع ثورة ضد دولة القمع التي فيها قتل المواطنين على يد جهاز شرطة إجرامي، لازلت دولة القمع قائمة، ولا يزال القتل مُستمر. يُفصل لنا تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حقيقة استمرار القتل من قبل جهاز الشرطة في المائة يوم الأولى لحكم "الرئيس المنتخب" الذي رفعه أبناء الثورة على أكتافهم ثم بعد أشهر قليلة رفعنا نحن نعوشهم على أكتافنا لنواريهم الثرى.
التقرير الطبّي المبدئي للشاب المبتسم محمد الجندي الناشط في التيار الشعبي-الذي يشبهنا نحن أبناء الطبقة الوسطى كما كان يشبهنا خالد سعيد- يشير إلى: آثار أسلاك على الرقبة-آثار كهرباء باللسان. كسر بثلاث ضلوع. آثار كيّ بالنّار بالظهر والبطن. آثار ضرب بآلات حادّة فى الوجه والبطن والظهر والرجلين. كان كل ما حدث أن الجندي اُعتقل من محيط كوبري قصر النيل وظل مختفيا أربعة أيام ثم وجد في مستشفى الهلال على تلك الحالة.
ما أشبه اليوم بأمس بأول من أمس. يختلف معي شقيق المواطن المصري المسحول حمادة صابر الذي لاحظ فارقا هاما بين اليوم وأمس حين قال : "اللي كان بيتعمل فى البنى آدميين جوه الأقسام وورا الحيطان، بيتعمل تحت سما ربنا ويتذاع على القنوات". صدقت. فقبل اندلاع الثورة لم نر سحلا وتعرية علنا في الشوارع.
***
يخرج علينا رئيس وزراء الرئيس المنتخب ليحدثنا عن متطلبات نجاح الثورة من "التركيز فى العمل والإنتاج والتضامن ونبذ العنف والتخريب". لم يشر السيد رئيس الوزراء إلى عنف آخر تتخذه الدولة دينا لها، بينما ضحايا جرائم الدولة دمائهم لم تبرد في القاهرة وبورسعيد والسويس والإسماعيلية.
تبدو السلطة في مصر مُصممة على رؤية مغايرة لمفهوم دولة القانون. فبدلا من أن تكون تلك الدولة التي حلمنا بها في 11 فبراير 2011 من حياة بلا خوف ولا ظلم، تبدو السلطة راغبة في دولة تملك من "العين الحمرا" ما يمكنها من تمرير الظلم –بكل أنواعه. تحاول السلطة أن تروج لنا حزمة من قوانين تجريم التظاهر، وإطلاق يد جهاز الشرطة-حد القتل- في مزيد من قمع الاحتجاجات بدعوى الحفاظ على الاستقرار.
وإذا كان حلم دولة القانون التي بلا خوف ولا ظلم لنا سرابا، فكابوس دولة القمع بالقانون الذي تحلم به السلطة القائمة هو أيضا سراب. حين قام الرئيس المدني المنتخب بإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال على محافظات القنال محاولا إنفاذ رؤيته هو لما يتصوره دولة القانون –بدلا من محاسبة مرتكبي المجازر بحق المواطنين من أبناء تلك المحافظات- أتاه الرد صفعات متتالية لقراراته –وسُبابا نابيا-من هؤلاء المواطنين الذين سالت دمائهم وطفح بهم كيل الظلم. صارت قرارات الرئيس المنتخب وقانون طوارئه لا تساوي الحبر الذي كتبت به. في مقطع فيديو مُعبر يتندر مواطنو بورسعيد -الذين ملئوا شوارع المدنية عن آخرها خلال ساعات حظر التجول-على سائق إحدى سيارات الجيش قائلين: " انت ايه اللي ممشيك دلوقتي؟ فيه حظر تجول! خد بالك فيه لجان شعبية قدام!" ونسمع صوت مواطن في نفس المقطع يقول: "احنا مش عاوزين ولا داخلية ولا جيش..مش عاوزين حماية..ربنا اللي بيحمي". ثم نسمع من جديد سبابا نابيا يطال أم الرئيس.
لا يجدر بمحمد مرسي أن يتصور أنه بحزمة قوانين من الممكن أن يدعي لدولته "هيبة" فشل سلفه محمد حسني في ادعائها.
طالما صممت السلطة القائمة على تحويل أحلامنا الى كوابيس سترتد عليهم لعنات كوابيسنا. قد لا نبقى نحن أحياء لننال دولة قانوننا، إلا أنهم قطعا لن ينالوا دولة قانونهم.
الخشية الآن -لنا ولهم- أن نار الغضب التي تلوح نذرها في الأفق ستأكل قوانينهم وقوانيننا أيضا.
دع جبهة الإنقاذ تنبذ العنف ما شاءت. أما أنا فلم أعد أدافع بحماس عن مبادرات إصلاح الشرطة، بل أصبحت أتابع بحماس أخبار حرق المدرعات وحصار الأقسام.