«فقدت الإحساس بالزمن بكل ما تحمله الكلمة من معنى»*
كم مر من الوقت على خروجي/خروجنا المفاجئ من السجن؟ عليَّ أن أركز وأستدعي التاريخ وأقوم بالحساب: أربع سنوات. ألا أشعر بمرور الوقت أم لازلت في نفس اللحظة التي كنت فيها من سنة أو اثنين؟ أقرأ نص مر عليه أكثر من عامين لأتمكن من الكتابة الآن، كتبت في مارس 2017 أن التعافي من تجربة السجن لم ينته بعد، والآن أشعر بمسافة تفصلني عن كلمة تعافي أو تصور العودة إلى ما كنت عليه قبل «عبور البوابة الخشبية»**. لم أعد أريد العودة لمن كنته من قبل، يكفيني أنني استطعت قراءة نفسي السنوات الماضية بشكل أفضل وفهم التغيرات التي طرأت عليَّ بشكل فيه قدر كبير من القبول والنضج. أخاف من النسيان.
لا أتذكر الكثير من الأشياء قبل السجن، وفقدت أسماء بعض من أحببتهم داخله. أتذكر نصائح الكثيرين عند خروجي بأن عليَّ أن أكتب، حتى وإن لم أنشر أي شيء، فقط للتوثيق وحتى لا أنسى، ولكني كنت منشغلة باستعادة حياتي؛ الرجوع للعمل بعد خمسة أسابيع من الخروج، مواعيد الإخصائية النفسية وتغييرها أكثر من مرة، تذكر أن عليَّ أن أتناول الطعام حتى وإن كنت بمفردي، واستعادة المهارات التي تخليت عنها لمدة خمسة عشر شهرًا خلال معيشتي في القناطر. ربما لا يجب علي استخدام معيشتي، فهي توحي بأنني كنت في خلوة صامتة يتخللها ممارسة رياضة اليوجا والامتناع عن الطعام المُضر بالصحة. كانت تلك هي مزحتي مع أصدقائي في خطاباتنا المتبادلة وقت السجن، وفي نفس الوقت موضوع للشجار مع والدتي عند خروجي. هذه المرة لن أكتب كما يتداعى النص لي، سوف أقوم بالكتابة عن قصد، لأتذكر.
المبيت في قسم الشرطة
لا أتحدث كثيرًا عن الليلتين اللتين قضيتهما في قسم الشرطة. بحثت عن وجه مألوف في صمت وترقب. كان عندي قدر من الطمأنينة أن هناك معي في مجموعة البنات اللاتي قُبض عليهن من أعرفها، أو كنت أعرفها عندما كانت طفلة. فَصل بين رؤيتي لها هذا اليوم والمرة السابقة أكثر من عشرة أعوام، إلا أن مجرد وجودها وسط وجوه لا أعرفها ساعدني على التعامل مع الموقف. أتذكر أننا الاثنين استقرينا في وضع الجنين محتضنين سلة القمامة في الغرفة المخصصة لحبس النساء، أمام باب الغرفة، وسمعنا طوال الليل النغمة الموسيقية الصادرة من هاتف أحد الضباط كل مرة يتلقى مكالمة «because I’m happy». في اليوم التالي، انتقلنا من قسم مصر الجديدة إلى نيابة مصر الجديدة، حيث تفاجأت مبتسمة في وجه وكيل النيابة عند قراءته سلسلة الاتهامات، ثم من الباب الخلفي إلى قسم شرطة آخر في القاهرة الجديدة. في الطريق، حاولنا التعرف على معالم الطريق ربما نفهم وجهتنا. حاولت تذكر أماكن السجون خارج القاهرة. قضينا ليلة في غرفة حجز القسم مع امرأة لم ترد الانتقال إلى السجن -رغم أنها رسميًا كان عليها ترك القسم- حتى تتمكن من رؤية ابنها مرات أكثر من زيارات السجن، وأخرى لم يكن يعرف ضباط الشرطة أنها حامل (كيف يستطيع ضباط الشرطة إغفال شيء ظاهر لهذه الدرجة!). رددت الأولى كثيرًا أنها تخاف أن تلد المرأة الحامل في أي لحظة. لا أعلم إن كانت هناك قواعد أمان متعلقة باحتجاز النساء الحوامل، إلا أنني متأكدة أن قسم الشرطة ليس لديه أي استعدادات طبية للتعامل مع حالة ولادة. ربما تجاهلوا هذه المرأة بشكل إجمالي، أو بمعنى أصح كانت غير مرئية بالنسبة لهم، لسمار لون بشرتها. الأهمية الاجتماعية داخل القسم -والسجن- تتحدد وفقًا للطبقة والعرق وتقاطعات أخرى، فعند وصولنا لهذا القسم وضعونا مع المرأتين في غرفة صغيرة، لأن الغرفة الكبيرة يوجد بها رجلين «متوصي عليهم»، إلا أن زيارة عضوة المجلس القومي لحقوق الإنسان بدلت الامتيازات وتبادلنا الغرف مع الرجلين. لا أتصور اختيار المبيت في قسم الشرطة عن السجن تحت أي ظرف، ففي خلال الليلتين اللتين قضيتهما في قسمين مختلفين شعرت أن هذا مكان خارج إطار القانون بكل ما يعنيه ذلك؛ لا يوجد قواعد محددة لأي شيء ولا ضمانات. من الغريب تصور أن السجن مكان أكثر أمانًا بسبب كل الأقفال والدفاتر والروتين في التعامل مع المساجين كبند في أوراق رسمية يجب تدوين كل حركة لهم في دفتر.
«أدبيات السجون مش بتحضرنا للملل»
أرسل لي أحد الأصدقاء المقربين إلى قلبي خطابًا يتساءل فيه عن كيف أتصرف في «الملل». قال إن أدبيات السجون التي قرأها تحدثت عن التعذيب وأشياء أخرى، ولكنها لم تساعده في تخيل اليوم المعتاد، وكيف يمكن للشخص التصرف في كل هذا الوقت «الفائض». لم أستعد لذلك أيضًا بالرغم من حكايات والدتي عن سجن جدي، فلم يتلقى زيارات لمدة خمس سنوات في معتقل الواحات، إلا أنني قرأت داخل السجن مذكرات صنع الله إبراهيم عن تلك الفترة، وكيف كانوا ينظمون مسابقات أدبية ويشغلون وقتهم بأشياء مختلفة. دخلنا سجن القناطر نساء وبدأت عملية وضع القواعد بيننا وبين إدارة السجن. عليك إدارة موازين القوى منذ اللحظة الأولى: رفض ارتداء «إيشارب» المحجبات، ووضع قواعد التفاوض مع الإدارة، وقبول التفتيش الذاتي وإلى أي مدى السماح به. قالت إحدى زميلات الحبسة، والتي سبق لها قضاء فترة في السجن في قضية أخرى من قضايا الثورة: «بلاش يا أمه يا كوثر دول بنات»؛ «دول بنات» هي بالأساس إشارة لعدم وجود خبرة جنسية سابقة لأي منا، وبالنظر لأننا لم نأتِ في قضية متعلقة بالجنس التجاري، ففعليًا معناها هو أننا لم يسبق لنا الزواج، وبالتالي تخلصنا من التفتيش الأكثر إهانة؛ التفتيش المهبلي كل مرة ندخل فيها من بوابة السجن بعد أي جلسة، والمبالغة في «التحسيس» الذي لا يختلف كثيرًا عن التحرش الجنسي. لم أعلق على محاولة زميلتنا أن تجنبنا منذ اللحظة الأولى كل هذه الانتهاكات لأجسادنا، فقد قررت منذ البداية أنني لن أدخل في كل التفاصيل حتى لا أُرهق، وبقيت «آنسة» طوال فترة سجني. مع الوقت، أصبح التفتيش أقل إهانة وأكثر روتينياً بسبب «الثقة» التي بنيت مع إدارة السجن. يصرف لك جلابية و«إيشارب»، واضطررنا لإزعاج إدارة السجن حتى استلمنا «بنطلونات» بسبب الشفافية المبالغ فيها للجلابية. اكتشفنا فيما بعد أن البنطلونات لا تُصرف بشكل اعتيادي للمسجونات، فهي بشكل أساسي للرجال، وبالتالي النساء اللاتي لا يستطعن -لأسباب مادية- شراء ما يلبسونه تحت الجلابية يتحركن بشكل مستمر أمام المخبرين والضباط من إدارة السجن بملابس كاشفة لأجسامهن رغمًا عنهن.
دخلنا عنبر «العسكري»؛ عبارة عن غرفة بها حمام يُغلق بباب خشبي وخمس سراير حديد كل منها ثلاثة أدوار في الليل. وفقًا لذاكرتي التي فقدت قوتها، جاءت توصية معينة ترتب عليها وجود وجبة عشاء جاهزة من الكافيتريا، وتعرفنا بشكل مبدئي على نباطشية العنبر «طنط» واخترنا أماكن نومنا التي بقينا فيها حتى خروجنا. أستغرب الآن أنني استطعت النوم يومها. وعند خروجي، لم أتمكن من النوم في الأيام الأولى، ربما عقلي وجسمي لم يستوعبوا بعد مفاجأة الخروج، أو خفت من مروري بعكس أول كابوس في السجن. أسوأ صباح كان الصباح الأول، أتذكر جيدًا أنني استيقظت بعد حلم يجمع كل أصدقائي في الشقة التي كنت أسكن فيها في جاردن سيتي. كابوس الاستيقاظ على واقع لم يستوعبه عقلك بعد. كنا سبع نساء في قضية الاتحادية، وكانت معنا في العنبر «طنط»، حلقة الوصل بين الإدارة وما يحدث داخله. لم أستوعب في البداية مشاركة هذه المساحة المحدودة مع سبعة أشخاص آخرين، فقد كنت أعيش بمفردي منذ مدة، وأتذكر أنه في إحدى اللحظات دار نقاش بيني وبين أهلي وبعض من أصدقائي عن مميزات وعيوب الحبس الانفرادي: «ده نوع من أنواع التعذيب وانتي أكتر حد مفروض يكون فاهم ده». لم أفهم ذلك، فكنت مهووسة بانعدام مساحتي الشخصية. غرفة مغلقة لمدة 22 ساعة في اليوم (ما عد الخروج للزيارة أو التفاوض مع إدارة السجن أو الذهاب لمستشفى السجن)، والمساحة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يراني فيها هي الحمام. من سريري أرى الباب الأزرق الذي تفتحه «أم يحيى» ببطء في بداية موعد التريض وتغلقه بسرعة عند انتهائه. كنت أفكر وقتها أن «الجحيم هو الآخر»، أريد أن أكون بمفردي. لا أظنني استوعبت أهمية وجودي في مجموعة إلا لاحقًا عند انتهاء الدوشة واستقرارنا في السجن بعد حكم الاستئناف. المشاحنات اليومية وجدول المهام المنزلية والاحتكاك بقصص غير قصصك كلها كانت مهمة لمرور الوقت والخروج من دورات اليأس والاكتئاب.
منذ أن تم نقلنا من قسم الشرطة إلى سجن القناطر عرفت أننا باقيات فيه لمدة غير قصيرة. ولكن البقاء في حالة انتظار وعدم معرفة كم من الوقت سأقضيه في هذا المكان كان يزيد من عدم ارتياحي. كرهت فترة التحقيق وتمنيت أن يعطيني أحد ورقة مدون عليها عدد الشهور أو السنوات حتى أتمكن من قبول الوضع بشكله النهائي. لا أجيد التعامل مع الانتظار والأمور غير المحسومة. تبادلت الحديث مع إحدى زميلاتي، فهي تفضل فترة التحقيق لأن الزيارات أكثر، والنزول لجلسات المحكمة فيه تجديد من روتين اليوم وربما يحالفنا الحظ ونرى أصدقاءنا. الوقت يمر أسرع بهذا الإيقاع المتسارع. يبدو لي الأمر الآن منطقيًا إلا أنني كرهت عربية الترحيلات، وكرهت مسرحية المحاكمة، وكرهت رؤية إحساس العجز في أعين من نحب أثناء الجلسات، وكرهت «حبسخانة» المحكمة، والقفص المكون من طبقات لا نهائية من الحديد. كل شيء في هذه الفترة كان سرياليًا بالنسبة لي. حضرت جلسات كثيرة لقضايا تخص الثورة من قبل، ومهما كنت عاطفيًا منخرطًا في أحداث الثورة والأشخاص الذين قابلتهم، لا شيء يماثل أو حتى يقارب شعور التواجد داخل قفص حديد وسماع صوت شخص يقرر مصيرك بدون أي تردد. أصبحت أنتظر الرجوع للعنبر كأنني سأعود لبيتي لأرتاح من إرهاق عربية الترحيلات وتوتر التعامل مع الضباط والترقب الذي يصاحب كل جلسة، وسماع «انتوا خارجين خلاص» من السجانات ومأمور السجن قبل التحرك للجلسة. يمكنك أن تعيش في سجن القناطر نساء كشخص مرفه يصرف في الشهر أربعة آلاف جنية ما بين مرتب نظير القيام بغسيل ملابسك، وتوصيل وجبات ساخنة إلى سريرك في العنبر، ودفع مقابل خدمات أخرى مثل تغيير الملاية وتحضير الحمام. في تلك المساحة الصغيرة، يمكنك تحديد طبقة المسجونة من شكل الجلابية والأشياء التي ترجع بها بعد الزيارة. ووفقًا للطبقة، يكون قدر الاحترام من إدارة السجن ومن الآخرين. حرص مأمور السجن على إيضاح طبقته الاجتماعية أيضًا في أول فرصة أتيحت له: «أنا باروح نادي هليوبوليس». لم أفهم سياق النادي، ولكنهم أخذوني في جولة لتفقد إمكانيات المستشفى والتعرف على أحد الضباط المسؤولين عنها. أثناء الرحلة التفقدية أوضح لي أننا ذهبنا إلى نفس المدرسة بفارق سنوات قليلة. نصفنا كان يستيقظ مبكرًا والباقي ينام عند ظهور الشمس، واستمر هذا موضوع للشجار بيننا بأشكال مختلفة، وأنا كنت في فريق الصحيان المبكر، فالليل ليس وقتي المفضل في اليوم.
أستيقظ قبل الثامنة صباحًا، أشرب شاي وأتبادل الحديث مع من هي مستيقظة، وأنظر إلى الباب إلى أن تفتحه أم يحيى في الثامنة. باستثناء أيام قليلة جدًا تمكن فيها الاكتئاب مني، كنت أخرج من العنبر للتمشية لمدة ساعة، ذهابًا وإيابًا مسموح لنا بالتمشية في ضلعين (شكل حرف L) حتى تتمكن أم يحيى من رؤيتنا دائمًا. تنتهي الساعة وأدخل العنبر لأبدأ يومي. أرسلت لي صديقة مقربة بعض النصائح والإرشادات من سجناء سابقين في أمريكا عن كيفية قضاء وقتهم وكيف تغلبوا عن الاكتئاب. كلمة السر: الروتين و«مط» اليوم بأكبر شكل ممكن. كانت لدي قائمة يومية أدون فيها شيء ممتع وإنجاز قمت به اليوم. محاولة مني لتفصيص اليوم واستخراج أي شيء إيجابي منه. في أتعس الأيام، كان النزول من السرير والخروج للتريض إنجاز، وقراءة جريدة الأهرام شيء ممتع! قمنا بتقسيم مهام الحفاظ على نظافة العنبر علينا، وتقريبًا تمكنا من القيام بذلك بشكل عادل، ووفقًا لتفضيل (أو ما نكرهه بشكل أقل) كل منا. مسح العنبر ثلاث مرات في الأسبوع، وغسيل مواعين الوجبة الرئيسية، وتحضير الطعام (سواء طبخه أو تسخينه)، وفرش السفرة. كل ما يمكن للشخص تصوره كان يتم تفصيصه وتقسيمه علينا، فذلك يساعد على مرور الوقت والحفاظ على روتين مستمر. هناك منا من قررن غسيل ملابسهن بأنفسهن، والبعض الآخر قرر دفع خرطوشة سجائر كليوباترا لإحدى المسجنوات العاملات في المغسل لتغسل هي الملابس. على ما أتذكر، حاولت في بداية الأمر في فصل الصيف أن أتولى أمر غسيلي بنفسي كنوع من أنواع شغل الوقت، إلا عند دخول الشتاء قررت الاعتماد على إحدى السجينات «ضاوية». رأتني «ضاوية» مرة في حوش السجن أثناء التريض مرتدية جلابية السجن «الشُل» جريت وطلبت مني ألا أرتديها مرة أخرى وأهدتني جلابية خاصة بها. من يرتدون الشُل هم أفقر من في السجن، وفي أغلب الأحيان لا يزورهم أحد فلا يوجد من يشتري لهم جلابية شكلها أكثر آدمية من ما يوزعه السجن على المسجونات. أحببت جلابية السجن لأنها واسعة ومريحة. مكتوب على ظهرها «نزيل»، وعلى البنطلون الذي استلمناه من السجن مكتوب «تحقيق». تعلق جلابية واحدة في ذهني طوال مدة احتجازي، تلك الجلابية التي ربما كانت «أشيك» من فساتيني خارج السجن، كانت تلبسها موظفة بدرجة إدارية عليا في إحدى البنوك التي قيل إنها حولت أموالًا لجمال مبارك خارج البلاد. ربما كانت هذه إشاعة إلا أن الجلابية كانت تدل على انتماء إلى طبقة عليا بكل تأكيد. لم تبق صاحبة الجلابية «الشيك» في السجن طويلًا، وبقيت الموظفة الأخرى ذات الدرجة الإدارية المتواضعة من نفس البنك على ذمة نفس القضية (وفقًا لما كان يقال)، تلبس جلابية الطبقة المتوسطة داخل القناطر. ربما تصورت قبل دخولي السجن أن الرؤوس تتساوى أثناء الحرمان من الحرية، إلا أن ما يحدث داخل السجن هو نسخة طبق الأصل من ما يحدث خارجه، على اختلاف المساحات. ففي حين يمكنك العيش في الحرية في فقاعة تماثل طبقتك الاجتماعية وشبيهة باختيارات ملابسك أو معيشتك، لا يوجد مهرب من الطبقية والمواجهة مع الامتيازات الاجتماعية والمادية داخل السجن. روتين اليوم اختلف ما بين بداية دخولنا السجن وبعد الحكم، فمعظم الأيام تتمحور حول ميعاد الزيارة والأيام التي تفصل بين الزيارات.
يستحق المساجين قيد التحقيق زيارة واحدة كل أسبوع، أما من حُكم عليه فالزيارة كل خمسة عشر يومًا، بالإضافة إلى الزيارات الاستثنائية الخاصة ببعض الأعياد والمناسبات الرسمية التي تطبق في الحالتين. من تسكن «المخصوص»، المخصص للمحكوم عليهن بالإعدام، يحصلن فعليًا على زيادة واحدة فقط الشهر، على الرغم من عدم وجود ما ينص قانونًا على اختلاف المعاملة بينهن وبين المحكوم عليهن الأخريات، فالقانون يفرق فقط ما بين «التحقيق» و«المحكوم» في الزيارات وليس وفقًا للحكم. يبدو لي أن المحكوم عليهن يعاقبن بشكل مضاعف؛ يُحرمن من زيارات هي من حقهن، ويبيتون في عنبر في ظروف غير آدمية أكثر من باقي المسجونات. بعد الحكم، أصبح الإيقاع أبطأ وبدأنا كمجموعة نتناقش في توزيع أيام الزيارات حتى لا نزور كلنا في نفس اﻷسبوع ويبقى لدينا أسبوع آخر بدون أكل بيتي مطبوخ أو حكايات نسمعها. التريض ثم الفطور ثم القراءة وكتابة الجوابات ثم التفكير ثم القراءة ثم التريض ثم الغذاء ثم الراديو. إيقاع روتيني متكرر لا يغيره إلا الخروج للزيارة أو الاحتياج للذهاب إلى المستشفى أو التفاوض مع إدارة السجن على أمور في غاية التفاهة ولكنها في غاية الأهمية في تلك الظروف. أتذكر مقال لأحمد دومة عن ما يتبقى للشخص من حياته داخل السجن والتشبث بما يبقينا على اتصال بحياتنا كما عرفناها. «في الحرية» هل نخرج لنجد حياتنا كما عرفناها؟ هل أجد الصور التي لصقتها على سقف السرير في حالة ثبات؟ قبل خروجنا المفاجئ بعدة أسابيع كنا قد بدأنا نقاش داخل مجموعتنا حول كيف سيكون الخروج للحرية. كنا قد تصورنا أننا سنكمل عقوبتنا كاملة، سنتان، إلا أنه اتضح أن خروجنا كان مهمًا لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أفرج عنا بعفو رئاسي (ضمن مائة شخص في قضايا أخرى مختلفة) قبل أن ننهي نقاشنا، وكانت بداية لحظة مربكة مر عليها أربع سنوات. انتهت حالة الطوارئ أخيرًا وعاد الكل إلى قواعده سالمًا، إلا أنا. أتذكر أنني لم أستطع النوم أول ليلة، وأتذكر ارتباكي الصباح التالي عندما أخذوني لتناول وجبة الفطور مع الأصدقاء والعائلة في أحد المطاعم في المعادي، كل شيء كان سريالي، بنفس سريالة وجودي داخل قفص في المحكمة. لم أحتمل وجودي داخل مجموعات كبيرة، ولكن تلك المجموعات كانت هي حياتي السابقة وفي تلك اللحظة لم أكن أعي حجم التغيير الذي طرأ على رؤيتي للحياة. قضيت أول شهر لي في شقة أختي ثم رجعت لشقتي ومكتبي. لم أوافق على كل الاقتراحات الخاصة بالرحيل من مصر، فقد حرمت من أهلي ومن حياتي لمدة 15 شهرًا ولا أريد الشعور بهذا الحرمان يوم إضافي. قررت بشكل حسابي بحت أن أحاول العودة للعمل لأن الحفاظ على الروتين مهم (قضيت أشهر أحاول استعادة مهارات أساسية غابت عن عقلي)، والبحث عن أخصائية نفسية حتى أفهم ما كنت أمر به (جربت ثلاثة!)، وأن أخطط لرحلة لزيارة أحد الأصدقاء في جنوب شرق آسيا لقضاء عدة أسابيع بعيدًا عن مصر ثم الرجوع. لا تزال بعض المشاهد معلقة في ذهني من أول شهور بعد الخروج: أول لحظة لمست فيها البحر، وأول مرة أدخل غرفة الاجتماعات في المكتب وهي ممتلئة لأخرج مسرعة للشارع في حالة بكاء غير مفهوم، وإحساس الغربة الذي شعرت به مع أشخاص كانوا مقربين لي قبل السجن. فقدت بعض المهارات خلال شهور الحبس خاصة بانعدام أهميتها داخل السجن، على سبيل المثال اختيار الملابس أو تحضير شنطة لسفر في بلد ما أو تذكر وجبات الطعام بمفردك. في السجن نلبس نفس الشيء كل يوم، وفي كل فصل لديك ما يلزم له فقط، فلا يوجد مساحة لوضع أي شيء إضافي أو غير ضروري على السرير الذي تنام عليه. وفي السجن نأكل سويا، لكن «في الحرية» الحياة أكثر وحدة والإيقاع المتسارع تسبب لي في الكثير من الارتباك، خصوصًا بعد الاعتماد على أهلي لتيسير كل أموري لفترة ليست قصيرة. مهارة تذكر دفع الفواتير المختلفة والإيجار والغسيل والأكل والعمل لم تكن سهلة بعد مرور أشهر كل محاولاتي تنصب على توزيع مهام قليلة على يوم طويل حتى يمر. بعكس معظم صديقات وزميلات الحبسة، لم يكن لدي أي أصدقاء مقربين سبق لهم المرور بهذه التجربة، بل بالعكس، الكثير ممن كانوا حولي عندما خرجت توقعوا أن أخرج كما كنت قبل الحبس، وكل شيء يدل على تغيري كان يثير الاستعجاب بشكل واضح. كانت هناك لحظات أرسل فيها رسائل يائسة لزميلات الحبسة فيها الكثير من عدم الفهم فأجدهن في حالة مشابهة أو على الأقل ما أمر به كان مفهوم بالنسبة لهن. وأصدقائهن الذين خرجوا من قبلنا. فكرت كثيرًا في أهمية وجود نظام داعم لمن يخرج من السجن، شيء مثل «زمالة المدمنين المجهولين» لكن لم أسعى جديًا في العمل على هذا المقترح. ربما شاركته مع أحد الأصدقاء الذي لم يتحمس كثيرًا، تراجعت وقررت محاولة التركيز على استعادة حياتي. في بداية الأمر كان لديّ هوس بمعرفة ما الذي غيره السجن فيّ، وكانت هذه هي نقطة انطلاق جلسات العلاج النفسي. ثم تطرقنا إلى كيفية التعامل مع توقعات الآخرين مني عند خروجي وأهمية قدرتي على وضع حدود ورفض حضور اجتماعيات لا تشعرني إلا بالهلع.
بعد حضور حفلات لمدة شهر أو شهرين بدأت أشعر أن تلك التجمعات أشبه بغرفة الزيارة؛ ذكرتني تلك الحفلات بانعدام الخصوصية والحميمية وملء الوقت بأشياء لا تعني شيء في حقيقة الأمر. كان لدي 60 دقيقة فقط لأطمئن على أسرتي وأصدقائي ويطمئنون عليّ في غرفة مزدحمة ملؤها الضوضاء. بعد عدة أشهر قررت الخروج من موقع التواصل الاجتماعي مصدر الحفلات والمناسبات التي أدعى إليها ليس لأن وجودي له أهمية، ولكن لوجود اسمي على «قائمة الأصدقاء» الطويلة. ماذا عن توقعاتي من الآخرين؟ هل كان منطقيًا توقع نفس القدر من الاهتمام والتواجد؟ غير منطقي بالطبع، ولكني لم أستطع عقلنة الشعور بالوحدة المفاجئ بعد خروجي، أو ربما كان الشعور بالوحدة مرتبطًا بشعوري بالاغتراب داخل حياتي بعد فترة السجن. كأني أعيش حياة غير حقيقية. زاد من هذا الارتباك دخولي في مرحلة من المشاكل الصحية لأكثر من عام، وهو الأمر المنطقي بعد شهور من تماسك جسدي بسبب الوضع الطارئ الذي كنت أعيشه. سمعت وقتها عن قصص المشاكل الصحية بعد الخروج من السجن وكيف يتعامل الجسد بعد الخروج لـ«الأمان»، ولكن فهمي لم يقلل من إزعاجي من عدم قدرتي على التعافي الجسدي. قالت لي صديقة أثناء خروجنا: «توقعي نفس المدة اللي انتي قضيتيها جوا تقضيها برا بتتعافي»، أظن في حالتي تعافيت بعد أكثر من ضعف المدة، بالكثير من الحب، وإعطاء نفسي الوقت لفهمها، والتفهم من عائلتي والأشخاص المقربين لي، وهي نفس الأشياء التي أعطني القوة للتعامل مع الشهور التي قضيتها في سجن القناطر نساء. * مأخوذ من مقالة «حتى أقوى المقاتلات»، رنا جابر، مدى مصر، 23 ديسمبر 2017 ** عبور البوابة الخشبية، يارا سلام، في «لو لم يكن هذا الجدار»، مركز الصورة المعاصرة (2018)
نشر هذا المقال علي موقع مدي مصر بتاريخ ١ اكتوبر ٢٠١٩