التناقض مستمر: دسترة منح سلطة التحقيق للنيابة العامة في مسودة الدستور يعيق العدالة
تعتبر النيابة العامة وفقا لنص المادة 189 من مسودة الدستور، التي أعدتها لجنة الخمسين، وسلمتها لرئيس الجمهورية استعدادا لطرحها للاقتراع العام، جزء لا يتجزأ من القضاء؛ تجري التحقيق، وتحرك الدعوى الجنائية وتباشرها. الأمر الذي يبقي للنيابة العامة اختصاصا مختلطا، يجمع بين مهمتها الرئيسية في رفع الدعوى الجنائية وبين مباشرتها بالتحقيق، وهي مهمة غاية في الدقة، وينطوي على خطورة بالغة تأثر سلبا في تحقيق العدالة. فالنيابة العامة تتمتع بطبيعة خاصة ، فهي وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، تتبع نظام للتدرج الرئاسي، يتبع فيه أعضاء النيابة العامة كافة للنائب العام، حيث يمارسون أعمالهم في رفع ومباشرة الدعوى الجنائية بوصفهم وكلاء عنه، ولهم تبعية إدارية لوزير العدل. وهو ما لا يتماشى مع إيلاء سلطة التحقيق لهم، وهي التي تطلب استقلالية تامة للقائم ضمانا للحيادية.
الغرض من التحقيق هو التثبت من أن الواقعة المخطر عنها تمثل جريمة وفقا لنصوص القانون، وأن ثمة دلائل كافية للتدليل على نسبتها إلى المتهم. وقد كان النظام المتبع في مصر من قبل يقضي بمنح هذا الاختصاص لقاضى التحقيق، حيث تطلب النيابة العامة منه ذلك، أو تحال إليه من جهات أخرى طلبات التحقيق في الجرائم. وللأسف، فقد تقلصت هذه الصلاحية رغم بقاء النصوص التشريعية المقررة لها، وحلت النيابة العامة محل قضاة التحقيق في مباشرة هذه السلطة.
وجه التناقض في انفراد النيابة العامة بسلطتي الاتهام والتحقيق، يتمثل في قيام النيابة العامة بتوجيه الاتهام المتمثل في جمع أدله الإثبات في حق المتهم، بينما قيامها بسلطة التحقيق يقضي بوضوح بقيامها بالبحث عن أدلة الدعوى جميعا، سواء تلك التي تقف ضد المتهم أم تلك التي تصب في مصلحته. من هنا يبرز التناقض؛ تقف النيابة العامة خصما في الدعوى الجنائية بصفتها سلطة اتهام أي أحد اطراف الدعوى، وبقيامها بالتحقيق يقضي بأن تكون حيادية، وليست بحال طرفا يقف ضد المتهم، فغاية التحقيق هي الوصول للحقيقة وليس إثبات إدانة المتهم.
عندما يباشر أعضاء النيابة سلطة الاتهام فأنهم يباشرونها وكالة عن النائب العام بصفته صاحب الاختصاص الأصيل برفع الدعوى الجنائية، وهذا ما يبرر مساءلة عضو النيابة العامة إن خالف أوامر النائب العام وتعرضه للمساءلة الإدارية.
في الوقت ذاته عند ممارسته سلطة التحقيق، فإنه يمارس اختصاصا أصيلا، غير موكول، ولا تبعية فيه لأي من رؤسائه الإداريين. وآية ذلك أنه حق مستمد من القانون مباشرة بنص " المادة 199 وما بعدها من قانون الإجراءات الجنائية".
ومع تجدد ذكرى أحداث الاتحادية التي جرت في مثل هذا اليوم، نتذكر واقعة رفض محامى عام نيابات شرق القاهرة مصطفى خاطر تدخل النائب العام طلعت عبدالله في مجريات التحقيق في الواقعة. وكان محقا إذ أخطأ النائب العام بتعامله دون وجه حق بإصدار اوامر لمرؤوسيه في خلال قيامهم بمهام التحقيق التي لا حق له في مباشرتها.
لكن رغم ذلك يبين التطبيق العملي أن ثمة باب من أبواب إعاقة العدالة جراء الخلط بين السلطتين؛ سلطة الاتهام وسلطة التحقيق. وتفضيل أعضاء النيابة العامة أن يستمروا في تبعيتهم لرؤسائهم أثناء مباشرة سلطة التحقيق، ويظهر هذا جليا في القضايا ذات الطابع السياسي. وكثيرا ما كنا نجد عضو النيابة العامة القائم بإجراء التحقيق وهو ينتظر من رئاسته إخباره بما عليه اتخاذه من قرارات بشأن المتهمين سواء بإخلاء سبيلهم أو بحبسهم احتياطيا. متناسيا أن قرار الحبس الاحتياطي من إجراءات التحقيق، وأن عضو النيابة عليه وحده اتخاذ قراره المستقل، بغير الرجوع لأحد، ودون أدنى تبعية لرؤسائه.
إن ما يثير المخاوف في النص الدستوري المطروح، هو الذي يحمله الجزء الأول من الفقرة الثانية من المادة الدستورية القائل: "يتولى النيابة العامة نائب عام" لفظ "يتولى" بعد سرد مهام النيابة العامة تعنى رئاسته للنيابة العامة حين قيامها بأي من مهامهما؛ تحقيقا ورفعا للدعوى الجنائية ومباشرتها ؛ وبهذا وقعت دسترة مبدأ التبعية الرئاسية محل الانتقاد، حتى في خلال ممارسة أعضاء النيابة سلطة التحقيق، بما يفقد القائم بالتحقيق استقلاليته.
ربما يجادل البعض في مدى استعداد القضاة للقيام بمهام التحقيق، وتمتعهم بالمهارات الكافية لتولي تلك المهمة شديدة الأهمية والحساسية. ويستندون في ذلك على عدم الرضا على أداء قضاة تحقيق تولوا قضايا ما بعد الثورة بسبب ضغوط نادت بفصل سلطة التحقيق عن النيابة، ومنها قضية أحداث محمد محمود نوفمبر 2011، وقناص العيون، وأحداث بورسعيد 2013 ، وتلاحظ أنه نظرا لاعتيادهم القيام بمهام الفصل في القضايا دون التحقيق فيها. فقد شاب الضعف أداءهم ورغم تفاهمنا لهذا النقد فإن ذلك لا يبرر بذاته ابقاء الخلط والتناقض في عمل النيابة، كما لا يقتضي دسترة إيلاء سلطة التحقيق للنيابة العامة. الحل في إعداد كادر جديد من القضاة ورفع قدراته في مجال التحقيق وجمع الأدلة. من موجبات المحاكمة العادلة أن نضمن استقلالية القائم بالتحقيق، وأن نحيده عن كل سلطان غير ضميره، ليصير غير خاضع لأى من السلطات عند قيامه بمهامه واتخاذه للقرارات.