الباعة الجائلون: بعيداً عن الكر والفر
دائماً ما نشهد صورة نمطية عن الباعة الجائلين تصورهم فقط كخارجين على القانون، وأن حل المشكلة يكمن في عودة الدولة القوية لبسط الأمن وإنفاذ القانون على هؤلاء البشر الذين يظنون أن الشارع هو مساحة عامة، يمكنهم النفاذ إليه دون ضابط أو رابط. يخفي هذا التصور جذور الأزمة ويعبر عن غياب حقيقي لمحاولة فهم طبيعة المشكلة في إطار رؤية اقتصادية واجتماعية أو صراع جدي وجديد على الساحة العامة أو "الفراغ العام" منذ ثورة ٢٥ يناير.
أعتقد أن أصحاب ذلك التصور لم يتكبدوا العناء لمعرفة أن القانون الحاكم للباعة الجائلين وهو القانون رقم ٣٣ لسنة ١٩٥٧ الذي لم يُمس منذ أكثر من خمسة وخمسون عاماً، إلا فيما خص تغليظ العقوبات والغرامات كما حدث مرتين من قبل، مرة في عهد الرئيس الأسبق مبارك عام ١٩٨١ ومرة عام ٢٠١٢ أثناء حكم الرئيس السابق مرسي.
هذا التوجه إلى تغليظ العقوبة هو المنطق الحاكم لرؤية الدولة لملف الباعة الجائلين، فقط كظاهرة وجب قمعها، خاصة لأن وزارة الداخلية تتعامل دائماً مع هذا الملف أكثر من غيرها. وهنا مربط الأزمة، فالدولة العاجزة ليس لديها سوى تغليظ العقوبات، بل عاجزة عن تقديم أي حلول تعالج جذور المشكلات فتبقى فاشلة سواء في حل المشكلة نفسها أو إنفاذ القوانين التي لا تتمتع بأي شرعية لبعدها عن مخاطبة أصحاب المصلحة الحقيقيين.
لذا دعنا نتعرف أكثر على جذور المشكلة وكيف وصلنا لهذا الكم الهائل من الباعة الجائلين ولماذا تفاقمت تلك المشكلة بعد الثورة.
أولاً بنظرة سريعة على نسب البطالة ونسب بطالة الشباب تحديداً، هناك بعض الأمور التي يجب الوقوف عندها. تعاني مصر من نسبة بطالة تصل إلى حوالي ١٣,٤٪ أي ما يقرب من ٣,٦ مليون شخص، وذلك وفقاً لآخر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. إذا نظرنا لنصيب الشباب (ما بين ١٥-٢٩ عام) من تلك النسبة نجد ما يقرب من الـ ٦٩٪ بل و٥٠٪ منهم من حملة المؤهلات المتوسطة وفوق المتوسطة و ٣٢٪ تحديداً من حملة الشهادات الجامعية وما فوقها.
هذه النسب المرتفعة لبطالة الشباب تعكس أن أزمة البطالة في مصر سببها الرئيسي هو عدم خلق فرص عمل جديدة. بعبارة أخرى، البطالة في مصر هي بطالة الوافدين الجدد لسوق العمل، وليس بطالة من فقد وظيفته. وبالتالي هي مشكلة مزمنة ومرتبطة بغياب قدرة الدولة على خلق فرص عمل.
أما إذا نظرنا إلى القطاعات التي تستوعب العمالة في مصر، فطبقاً للمسح التتبعي لسوق العمل المصري لعام ٢٠١٢ الصادر مؤخراً عن منتدى البحوث الاقتصادية، فإن قطاع تجارة الجملة والتجزئة تستوعب ١٥٪ من العمالة في مصر، وهي نسبة كبيرة خاصة إذا نظرنا للزراعة التي تحوذ على حوالي خمس العمالة في مصر، والتصنيع والتنقيب الذي يحوذ على ١٤٪ من العمالة. الأهم وفي ظل أن القطاع الخاص يستوعب نصيب الأسد الآن من العمالة مقارنة بـ ٢٦٪ فقط يعملون داخل القطاع العام، نجد أن ٧٣٪ من العاملين بأجر في القطاع الخاص يعملون بصورة غير رسمية دون عقود أو تأمين اجتماعي، طبقا للمسح المذكور أعلاه.
لذا إذا نظرنا لتلك الصورة الكلية فسوف نتفهم أن ازدياد الباعة الجائلين يرجع إلى نسب البطالة العالية خاصة بين الشباب نظراً لغياب دور الدولة في توفير فرص العمل، الأمر الذي دفع المواطن أن يصنع الفرص بنفسه. وفي غياب الاستثمارات أو تشجيع الاستثمارات في مجالات الصناعة أو الزراعة، أصبحت تجارة التجزئة والجملة من أكثر المجالات استيعاباً للعمالة بـ ١٥٪ ومن ضمن تلك النسبة الباعة الجائلين بالتأكيد. وأخيراً وفي ظل غياب قطاع رسمي خاص يشجع المواطنين للعمل به، أصبح تفضيل المواطن العمل الحر طريقاً يسلكه بدلاً من أن يخضع لظروف عمل مهينة داخل منشآت لا تخضع لأي رقابة بل تنتهك بها حقوق العامل الاساسية.
يجب إذاً التعاطي مع قضية الباعة الجائلين من منطلق حقهم في العمل والسعي لتنظيم هذا الحق في ظل غياب دور الدولة في خلق فرص عمل أو جذب استثمارات في قطاعات مثل الصناعة والزراعة، ويجعلنا ذلك ندرك قصور وجهل ما نسمعه فيما يخص هذا الملف وأسباب استمرار تلك الظاهرة بل وتفشيها.
الأمر الثاني وفيما يخص أسباب زيادة أعداد الباعة، نجد أن التصور بأن ذلك الازدياد نتيجة لفقدان الدولة قوتها وقدرتها على بسط القانون هو فهم جائر. لا شك أن وهن أجهزة الدولة من ضمن الأسباب، إلا أن النظرة الأعمق هو ذلك الصراع على "الفراغ العام" الذي أنتجته الثورة، فالآن هناك صراع حقيقي وإعادة تعريف لحق المواطن في "الفراغ العام". فهناك صراع حول مساحة محدودة هي الشارع تستوعب المارة والمحلات والباعة والسيارات وفي بعض الأحيان المتظاهرين، ازدادات مطالباتهم جميعاً بحقهم في النفاذ إليه بعد ٢٥ يناير.
فمن الممكن القول بأن أعداد الباعة في ازدياد لأنهم يريدون استعادة حقهم في الشارع الذي احتكرته الدولة وخصخصته منفردة متى أرادت. بل يعد تفشي الباعة ردة فعل طبيعية الغرض منها هو إعادة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع بصورة جديدة تعترف بحق الجميع في النفاذ إلى "الفراغ العام".
ما العمل اذاً؟
إذا انطلقنا من حق المواطنين في العمل والنفاذ إلى "الفراغ العام"، بل وحقيقة وجود طلب على بضاعة الباعة الجائلين نجد أن الحل يكمن في كيفية تنظيم نفاذهم إلى المساحة العامة والتسهيل لهؤلاء الباعة، لا ملاحقتهم المستمرة. هؤلاء الباعة في حقيقة الأمر يرفعون عبئاً عن الدولة عن طريق خلق فرص عمل بأيديهم، فالباعة الجائلين ليسوا مجرمين وجب التخلص منهم، بل رواد أعمال وجب تشجيعهم وتسهيل نفاذهم إلى القروض.
إذا أردنا الحل فلا يكون بالبحث عن القبضة الأمنية قبل معالجة اختلالات القانون الحالي، وقدرته على تنظيم الظاهرة الجديدة، والاعتراف بالواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد في مصر. فالحل يبدأ بتخطيط عمراني وتنموى يعترف بحق الباعة في النفاذ إلى "الفراغ العام" ويضع آليات لتنظيم هذا الحق، وسقف لحجم وجود الباعة في الشارع. هذا التخطيط يجب أن يكون بصورة تشاركية ولامركزية بين أصحاب المصلحة المختلفة في الشوارع والمناطق المراد تنظيمها.
الحل أيضاً يكمن في إطلاق حق التنظيم للباعة حتى تكون الدولة أمام كيانات ذات شرعية يمكنها التفاوض مع الدولة وتنظيم المهنة، بل وضمان التزام الباعة بتلك الحلول في ظل تخطيط يراعي مصالحهم. كثير من الحلول التي قدمتها الدولة دائماً ما تأتي من مجموعة من الأفراد لا تعبر عن الباعة فلا يلتزمون بها، أو حلول منفردة ترسل الباعة في مناطق تبعدهم عن المستهلكين فيتركوها ليعود الكر والفر مع الدولة. المطلوب فوراً هو أن نحرر التنظيم من قيوده ونساعد في خلق كيانات ذات شرعية من الباعة تتفاوض مع الدولة وتنظم المهنة بين الباعة، وإلا ستبقى الحلول غير قابلة للتفيذ وعرضة لاستمرار تجاهل الباعة في تنفيذها.
أما بخصوص القانون فهناك حاجة لمراجعة تعريف الباعة غير المنتظيمن بصورة أوسع تشمل السياس أوالمنادين وغيرهم. هناك ضرورة لمراجعة إجراءات الترخيص حتى تخضع لمعايير واضحة لا تقبل التعسف وتضمن بعض الاستقرار، فتجدد كل ثلاث سنوات، وبحد أقصى لتعريفة الترخيص بحيث تراعي محدودية رأس مال الباعة غير المنتظمين. هذا الترخيص عليه أن يضع التزامات على الدولة من ضمنها حماية الباعة، وعلى البائع في المقابل سداد إيجار عادل نظير استخدامه مرافق الدولة.
أيضاً لابد وأن يكون هناك مسار سريع للتظلمات في حالة رفض طلب الترخيص، على أن تكون أسباب الرفض الأولى واضحة ومعلنة. المطلوب أيضاً أن يتم وضع ضوابط لعمل الباعة في الشارع في القانون، منها الالتزام بمساحات محددة، والحفاظ على البيئة والنظافة وعدم مضايقة المارة، مع إلغاء عقوبة الحبس ومصادرة البضائع التي هي رأس مال البائع الوحيد والذي هو بطبيعة الحال محدود للغاية.
وأخيراً لابد أن تكون العقوبات عادلة ومتدرجة، تصل إلى سحب الترخيص في حال تكرار المخالفات، إلا أنه في حالة الإزالة وسحب الترخيص يجب أن يراعى حقوق البائع ويتم اخطاره قبل الحظر بـ ٧ أيام على الأقل لترتيب أوضاعه. أما عن الغرامات فيجب أن يكون لها سقف يراعي محدودية رأس المال، ففي الهند تصل إلى ٣٩ دولار، أي حوالي ٢٧٠ جنيه، بعكس مصر التي وصلت من ألف إلى خمسة آلاف جنيه.
خلاصة الأمر، الحلول كثيرة والمطلوب هو منطق مختلف لتناول الظاهرة، منطق يدرك أن الدولة القوية هي الدولة القادرة على استيعاب تغيرات المجتمع وتقديم الحلول المبتكرة وحماية حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، لا الدولة التي لا تعرف التعامل مع أي ظاهرة إلا بلغة البطش.
تم النشر في مدي مصر بتاريخ 17 مارس 2014