أخذتم حقكم فأين حق الشعب

9 فبراير 2014

أثناء فترة تعديل الدستور صكت آذاننا وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية بضوضاء اختلط فيها الحابل بالنابل وجميعها يتغنى بالدستور الجديد. وبنفس القدر – بل ربما أكثر – استُخدمت في أوساط العمال مؤسسات نقابية واتحادات، جنبا إلى جنب مع الهيئات الحكومية والوزارات، في بث الدعاية لهذا الدستور، مرددين جميعا أنه أفضل ما رأت مصر في  تطورها الدستوري، سواء بخصوص الحريات، أو فيما أقره من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمات النقابية.

والحقيقة أن هذه الموجة الدعائية التي لم تسمح بأي صوت معارض أن يخرج للعلن، قد عمدت لطمس الانتقادات الموجهة للكثير من مواد الدستور، وغالبها نُقل دون تعديل حقيقي من دستور 2012؛ سواء تلك المواد التي بقيت أو التي عدلت أو حذفت، ومنها مواد غاية في الخطورة تخص حقوق العمال، في القلب منها مواد التنظيم والعمل والحوار الاجتماعي.

وفي الوقت الذي كانت المؤتمرات تنعقد تحت حماية الجيش والشرطة، داخل مقار الوزارات لحشد التصويت "بنعم للدستور"، مُنع أي مؤتمر أو دعاية أو حشد ضده. وجرى القبض علي الشباب ممن حاولوا توزيع أوراق أو ملصقات تدعو بعدم الموافقة على الدستور. وعلى خلاف القانون، خلال أيام الاستفتاء، وفيها الصمت الانتخابي واجب، ظلت السيارات تجوب الشوارع، وتقام المنصات الدعائية حول اللجان تدعو بنعم للدستور (رغم أن هذا ممنوع قانوناً)، تحت عين وبصر المسئولين عن الاقتراع. ظل القمع للصوت المعارض حتى أثناء عملية الاقتراع، التي يفترض فيها أن تكون سرية، ولا يتدخل فيها أي أحد، ووصل الأمر إلى اعتقال من يبدي رأيه المعارض لهذا الدستور، ووصل الأمر لممارسة العنف بحق هؤلاء، بحسب تواتر شهادات عديدة، وجرى اعتقال بعضهم. 

وانتهى الحال بتمرير الدستور، فإلى ماذا آلت الأمور بعد ذلك بالنسبة للعمال؟ لقد سيطر الرأي المتشبث بمعارضة حقوق العمال الكاملة، الذي دفع به النظام الحاكم وحلفه، منذ حكم المجلس العسكري رغم الإطاحة بمبارك، مرورا بمرحلة مرسي ودستور الإخوان في 2012، وفيما بعد الإطاحة بمرسي.

لازالت حتى اليوم تتكرر الانتهاكات بحق العمال ولا زال العبث بحقوقهم متواصلا، في استمرار لم ينقطع للنهج الموروث منذ عهد الديكتاتور مبارك. يبدو أن ثمار الثورة التي بشروا بحصادها في الدستور الجديد ستظل ممتنعة عن العمال بسبب هذه السياسات، ناهيك عن أنها لم تصل لفقراء الشعب المصري عموما. فبخلاف  كل ما يقال عن تطور في حماية الحقوق العمالية في الدستور، تظل صور الانتهاك مستمرة وتزداد وتيرتها. ويجدر بي ههنا أن أذكر بعضها علي سبيل المثال لا الحصر:

  • يقولون إن الدستور قد وضع نصا ضد فصل العمال على نحو تعسفي، لكنه وللآن يلجأ الكثير من أصحاب الأعمال لفصل العمال تعسفيا عقابا لهم علي مطالبتهم بحقوقهم، وممارستهم حق من حقوقهم، وهو الحق في الإضراب. ولدينا من الأمثلة الكثير، لعل أحدثها ما يتعلق بفصل العمال في ثلاثة شركات، أولها شركة الزيوت النباتية بالإسكندرية التي فصلت إدارتها أكثر من ثلاثين عاملا من من أصل حوالي 80 عاملا هم كل عمال المصنع، وذلك على أثر تنظيمهم إضرابا ينادي بحقوقهم وعلي رأسها حقهم في الأرباح، أما الثانية فهي شركة فاركو للأدوية بالإسكندرية التي فصلت عددا من العاملين فيها لنفس السبب. والثالثة هي شركة سنتامورا بالعاشر من رمضان التي فصل صاحبها أكثر من 200 من العمال، ومن بينهم أعضاء في مجلس إدارة النقابة، بعد أن عاد لتشغيل الشركة التي توقفت على أثر اعتصام دام أكثر من شهر ونصف لجأ فيه العمال لكل الجهات والمسئولين من وزارة القوي العاملة إلي رئيس الوزراء. ولم يتدخل أي منهم لحل المشكلة؟ وهو أمر مستغرب جدا! ومنذ عهد مبارك ومرورا بالمجلس العسكري ثم عهد مرسي وإلي الآن، ظلت قضايا الآلاف العمال المفصولين تعسفيا تتراكم، وكلهم فصلوا بسبب ممارسة نشاط نقابي مشروع. ولم تحل مشاكل أي منهم، رغم تعهدات تكررت من وزير القوي العاملة بإعادتهم للعمل عقب توليه كرسي الوزارة، وإلي الآن مازال ضحايا تعسف رأس المال هؤلاء مشردين هم وأسرهم.
  • تكرر الحديث عن أن الدستور قد وضع أسسا للعدالة الاجتماعية، منها الحدين الأدني والأقصي للأجور. والحقيقة أيضا أنه وإلي الآن لم يقر الحد الأدني للأجور في القطاع الخاص، وهو الذي يشغّل أكثر من ثلثي عمال مصر. ليس هذا فحسب، بل تم استبعاد الكثير من العاملين في الحكومة والقطاع العام من تطبيق الحد الأدني. أما بخصوص الحد الأقصي فحدث ولا حرج عن الالتفاف على الغاية منه. فقد أتي قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 63 لسنة 2014، مقرا بألا يزيد الحد الأقصى لصافي ما يتقاضاه أي شخص يعمل بجهات تابعة للدولة عن 35 ضعف الحد الأدني للدخل، وبما لا يزيد عن 42 ألف جنيه شهريا. ثم استدرك في المادة نفسها بأن هذا القرار لا يسري علي العاملين بهيئات التمثيل الدبلوماسي والقنصلي والتجاري، كما لا يسري علي الهيئات ذات الطبيعة الخاصة والتي يصدر بتحديدها قرار من رئيس مجلس الوزراء! وهو أمر يكرس التفاوت الكبير القائم في الدخول بين من يتقاضون عدة مئات من الجنيهات، وبين من يتقاضون مئات الآلاف.
  • خلال حملة الترويج للدستور الجديد، أشيع في أوساط العمال أن هذا الدستور يضمن الحق في التنظيم. وعلى خلاف هذا الكلام، تمتنع الحكومة حتى اليوم عن إصدار قانون الحريات النقابية. ولم يجر الاعتراف بالنقابات المستقلة التي أسسها العمال وأودعوا أوراقها لدي وزارة القوي العاملة والهجرة. هناك العديد من الأمثلة، منها نقابة عمال البولي بروبلين ببورسعيد والتي ترفض إدارة الشركة الاعتراف بها، وتسايرها في ذلك الحكومة، فلم يتم الاعتراف بها في جلسة المفاوضة الجماعية تحت إشراف ممثل المجلس العسكري في بورسعيد بحجة عدم وجود قانون. والأمر لا يقتصر على هذه المراوغات، بل لازال مستمرا هذا التدخل لوزير القوي العاملة في شئون النقابات، والموروث من عهد مبارك.
  • لقد روجت آلة الدعاية الحكومية لحجة ضرورة دوران عجلة الإنتاج وتشغيل المصانع، وسمعنا الكثير من الصخب حول الشركات المغلقة وتشريد عمالها والتي يبلغ عددها أكثر من 4 الاف مصنع وشركة. لكن الاتجاه الحقيقي للحكومة هو على العكس من هذا الكلام تماما، حيث تستمر في غلق الشركات، ولعل آخرها شركة الإسكندرية للمسبوكات المملوكة لأحمد محمد حسنين هيكل وفيها 750 عاملا، وقبل هذا تم إغلاق شركة آخرى مملوكه لرجل الأعمال نفسه. الشركات المغلقة ما زالت أوضاع عمالها بلا حلول، ولم تعد الشركات التي أخذ عمالها أحكاما بعودتها للقطاع العام، ولم ينفذ قرار إلغاء خصخصتها وضمها لملكية الدولة حتي الآن. ولا يود المرء الاسترسال في مأساة محاربة وإجهاض محاولات العمال في التشغيل الذاتي لهذه الشركات التي أغلقها أصحابها وهربوا تاركين إياها مدينة للبنوك بالملايين.
  • قيل من الكلام الكثير عن ضمانات المفاوضة الجماعية في الدستور، لكن الواقع يشير للنقيض، فما زالت طلبات المفاوضة ترفع من العمال سواء لأصحاب الأعمال أو لوزارة القوي العاملة وما من مجيب. والمؤسف أنه في الكثير من الحالات التي لجأ فيها العمال للإضراب أو الاعتصام بعدما استنفدوا محاولات التفاوض، نجد وسطاء فض النزاع من ضباط الشرطة والجيش، ووفق تهديدات أمنية (حالتي البولي بروبلين ببورسعيد، وسنتامورا للبطاطين بالعاشر من رمضان)، وذلك مع غياب تام لوزارة القوي العاملة والهجرة، التي من المفترض قيامها بهذا الدور بالغ الحساسية.

إن هموم ومشاكل العمال تتراكم، وتنذر بالخطر، في دولة تصر على أن تنحاز لأصحاب الأعمال ضد العمال، وتبدع في تدبيج الحجج والأعذار المختلفة. وما يشير لاستمرار الخطر أننا لا نرى أي بوادر لتغيير سياسات الحكومات المتتالية بعد 25 يناير عما كانت تنتهجه حكومات مبارك.