الحد الأدنى للأجور: بين تخبط الحكومة وطموحات العمال
منذ أن أعلنت الحكومة على لسان رئيس وزرائها د. حازم الببلاوي في 18 سبتمبر 2013، أنها قد أقرت الحد الأدنى لإجمالي ما يتقاضاه العاملون بالحكومة بـ1200 جنيه، وأن حدًّا أدنى مماثلًا سيقر لعمال القطاع الخاص من خلال المجلس القومي للأجور طبقاً لقانون العمل، من يومها لم نسمع إلا تصريحات من المسئولين والوزراء وأصحاب الأعمال، تحفِل بالتناقضات، حتى أنه قد صار من الصعب تبين مسار لما ستتجه إليه الحكومة، في ظل غيبة شديدة للمعلومات الموثوقة.
هذه التصريحات الحكومية دفعت بثورة التوقعات عاليًا، وارتفعت طموحات العمال في تحقيق مطالبهم، فتحقيق مطلبهم بحد أدنى للأجور يبدو وشيكًا بعد طول انتظار. وبدأ الكثير منهم - خصوصاً أصحاب الأجور المتدنية - ينتظر بفارغ الصبر أن يستفيد من تطبيق الحد الأدنى للأجور عليه.
عقب إعلان الببلاوي، وجدنا عددًا من الوزراء يحتلون منابر الإعلام يبشروننا بأن أحد أبرز المطالب الاجتماعية للثورة قد تم تنفيذه من قِبَلِ حكومة 30 يونيو. لكن إعلان الحكومة هذا لم يلحق به إصدار قانون يخص تسمية الحد الأدنى للأجور، ولا خرج من جعبة التنفيذيين أي قرار يبين لنا كيف سيطبق، وكيف لعاملٍ أو موظفٍ أن يعرف مقدار ما سيتحصل عليه من زيادة نتيجة تطبيق هذا الحد الأدنى؟ وهل سيترتب على هذه الزيادة في الأجر زيادة في الأسعار.
إذا ما غضضنا الطرف عن التباس مفهوم الحد الأدنى لديهم، أهو حد أدنى لمجمل الدخل أم للأجر (والفارق بينهما عظيم)، وإذا التفتنا عن حقيقة مطلب العمال منذ 2008 لما يجب أن يكونه الحد الأدنى "للأجر"، وهو ليس رقم مطلق، بل رقم منسوب إلى معادلة سعرية تمثل سلة السلع الأساسية، كانت نتيجة المعادلة هي مبلغ 1200جنيه، وبالطبع مع تغير مستويات الأسعار لهذه السلة، وجب تغيير الرقم، لكن جرى إخفاء هذه الحقيقة، ويكفي أن نقارن ما بين الأسعار قبل هذه السنوات الخمس حين طالب العمال بمبلغ 1200 جنيه كحد أدنى، وبين مستواها الآن لنعرف كيف أن هذا المبلغ لم يعد صالحًا بحال ليكون الحد الأدنى للأجر.
لو سكتنا عن كل هذا وأخذنا تصريحات المسئولين والوزراء جميعها بجدية، لوجدنا أن السادة المسئولين لا يتحدثون عن العمال ككلٍ واحد، بل يتحدثون عن أربع فئات هي: العاملون بالحكومة والقطاع العام، وهؤلاء من يتحدث القرار عنهم، وعمال القطاع الخاص، وهؤلاء أُجِّلَ تطبيق الحد الأدنى عليهم لحين إصداره من قِبَلِ المجلس القومي للأجور، وأصحاب المعاشات، والعمالة غير المنتظمة.
هذا التقسيم يضع كل عامل في موقف مختلف عند تطبيق القرار وما سيتحصل عليه منه.
فبالنسبة إلى موظفي الحكومة والقطاع العام، وبحسب إعلان رئيس الوزراء وتصريحاتٍ توالت من السادة الوزراء خلال أسابيع تلته، فإن الحد المقرر لن يستفيد به إلا نصف العاملين في هذه الفئة، على أحسن تقدير، الذين يبلغون - طبقاً لما أفادت به السيدة رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة - ثلاثة ملايين.
وزير القوي العاملة هرول لنفي تطبيق الحد الأدنى في يناير على فئة المتعاقدين مع الحكومة، وكذلك لن يستفيد به العاملون الذين تَفُوق دخولهم هذا الحد، وقد طالبهم الوزير بالصبر إلى حين وضوح مسألة تدرج الأجور.
الكلام نفسه يؤكده وزير المالية بقوله: "المقصود بالحد الأدني هو إتاحة الفرصة لغير القادرين للعيش حياة كريمة، وأن رفع أجور جميع العاملين بالدولة أمر لا تتحمله الخزانة العامة".
وبعد الانتقادات التي وُجهت إلى الحكومة في مسألة احتمال تساوي ما يحصل عليه العاملون المنتمون إلى درجات وظيفية مختلفة، بداية من السادسة وصولا إلى الثانية، بعد رفع الحد الأدنى إلى 1200 جنيه، كان رد وزير المالية في الأسبوع الماضي أن الحكومة سترفع الأجور بين هذه الدرجات بنسب متفاوتة.
ويثير هذا الوضع عديدًا من التساؤلات: تساؤل عن استثناء المتعاقدين، وهم من الفئات الأكثر احتياجًا، وغالبهم – وبسبب أنظمة تشغيل عتيقة – ظلوا يعملون بعقود لسنوات طويلة لدى الحكومة، وبدون حقوق تقريبًا.
وهناك سؤال أبعد مدىً، عن سبب تفاوت أجر العاملين في الحكومة ممن يتماثلون في الدرجة الوظيفية الواحدة، وبذات المؤهل، فتجد أحدهم يحصل على عشرة أضعاف أجر نظيره؟
أما السؤال الأساسي المتعلق بجدوى قرار الأجور، فهو الخاص بمصدر التمويل لتلك الزيادة في ميزانية الأجور، هل سيدفعها أصحاب الأعمال والأغنياء أم سيتم تحميلها للفقراء؟
لقد بدأت أصواتٌ تتصاعد بين رجال الأعمال عن مخاطر تطبيق الحد الأدنى، ويزعمون أنه سيؤثر على الاستثمارات في السياحة والملابس وغيرها من الصناعات كثيفة العمالة، وسيقلل من تنافسيتها ويرددون أنها صناعات مأزومة من الأساس، وبعضهم يطالب بحد أدنى يتفاوت بين الصناعات، بل وبين المحافظات. أما مخاوف العمال من زيادة معدل التضخم فعظيمة، ويرددون أن انفجارات الأسعار - التي عادة ما تصاحب زيادة الأجر – حتميًّا ستلتهم ما زاد من جنيهات، لتضيع ويَّمحي أثرها في تحسين مستوياتهم المعيشة ودعم قدرتهم الشرائية.
أما عمال القطاع الخاص، وهم يمثلون أكثر من ثلثي عمال مصر، فقد أحالت الحكومة إقرار الحد الأدنى في حالتهم إلى قرار يصدره المجلس القومي للأجور. والحقيقة أن هذا وحده مثير للشكوك؛ فالمجلس المنشأ منذ عام 2003 لم ينجز شيئًا يذكر، بل إنه يكاد لا يجتمع، فرغم أن القانون نص على انعقاده مرتين "على الأقل" سنويًّا، إلا إنه منذ هذا التاريخ ينعقد بالكاد مرة واحدة كل سنة، وآخر انعقاد له كان قبل عامين (رغم أن العامين الفائتين مثَّلا ذروة تصاعدٍ لمطالب العمال بتحسين الأجور). وهذا المجلس منذ انعقاده الأخير وحتى اليوم لم تصدر عن اجتماعاته أية قرارات.
وكما قلنا سابقًا، ففي الوقت الذي يسعى العمال لتحصيل الحد الأدنى في مختلف مواقع العمل، نجد أصحاب الأعمال يسعون للحصول على ميزات جديدة على حساب العمال، في ابتزاز يمارسونه للقبول بإقرار حد أدنى للأجور. إذ رأينا من بينهم من يخرج ليتحدث عن ضرورة تخفيف التزامات أصحاب الأعمال التي يقرها قانونا العمل والتأمينات، ومن يطالب بتعديلات على هذين القانونين قبل الموافقة على إقرار الحد الأدنى. كذلك سمعنا تصريحات بعض ممثلي أصحاب الأعمال تطلب تقليل نسبة التزامهم في تسديد مستحقات التأمينات، بل إن بعضهم يطلب أن تصبح حصة التأمينات والمعاشات (للعامل وصاحب العمل) 20% بدلًا من 40% التي يُلْزِم بها القانون 79 لسنة 1975.
أما السعي للنكوص عن التطبيق فنجده في تصريحات وزير التخطيط الذي يقول: "إن قضية الحد الأدنى قد تجور على حق الأجيال القادمة، لأنها ستزيد من نسب البطالة"، في حين لم يذكر ما جاء في المذكرة المعروضة من وزارته على المجلس القومي للأجور والتي تؤكد أن نسبة الأجور بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ فقط 31%، وهو ما يمثل خللًا هيكليًّا في التوزيع كان من الأولى علاجه. هذا خلل يصب في صالح أصحاب الأعمال ورؤوس الأموال وملاك الأصول، على حساب العمال وأجورهم المتدنية، وهو وضع شاذ، يناقض المعروف في أغلب دول العالم ومنها الدول الرأسمالية الأكثر تقدمًا التي تصل نسبة الأجور فيها إلى نحو 60%.
ننتقل إلى موقف أصحاب المعاشات، البالغين 38% من إجمالي المشتغلين. إذ نجد وزير التضامن يصرح بأن رفع الحد الأدنى للمعاش بنسبة 80% من الحد الأدنى للأجور (ليبلغ 960 جنيه)، بحسب مطلب اتحاد أصحاب المعاشات، أمر مستحيل، ذلك لأن تكلفته تفوق قدرة صناديق المعاشات، وأن الحكومة ستكتفي بمنح أصحاب المعاشات علاوة قدرها 5% فقط. وقد اضطر فيما بعد و تحت ضغوط أصحاب المعاشات لزيادتها إلى 10% . وهو رد يوحي بأن الحكومة قد تدفع لهم من ميزانيتها ما يغطي المطلوب لرفع الحد الأدنى للمعاش، لكن الحقيقة أن العكس هو الصحيح، فالحكومة مدينة لصناديق المعاشات، بحوالي 300 مليار جنيه في أقل التقديرات. كيف إذن يتوافر لدى أصحاب المعاشات كل هذه الأموال ويظلون محرومين من تقاضي معاشات تكفيهم لعيش حياة كريمة؟
ونسأل كيف يستقيم الأمر في ضوء أن الوزير يصرح بوجود أزمة في تمويل الزيادة في المعاشات، وعجز لدى الصناديق عن توفير موازنات تغطيها، وفي الوقت ذاته نجد قولًا يتردد حول أن الوزير قد وعد أصحاب الأعمال بتخفيض التزاماتهم القانونية بسداد الحصص التأمينية لصناديق المعاشات إلى النصف. يذكر أن هذه الحصص هي نفسها المصدر الأساسي المعروف والمفترض أن يمول زيادات الحد الأدنى لأصحاب المعاشات. ومن شأن تقليص نسب أصحاب الأعمال أن يخفض من وعاء تمويل الزيادة، أي بما يحمل العمال أنفسهم عبء هذه الزيادة، سواء باستقطاع نسب أكبر من أجورهم للمعاشات، أو بخفض قيمة التأمين ذاتها.
وأخيرا فيما يخص العمالة غير المنتظمة، وتبلغ تقديراتها طبقًا لما ذكرته وزارة التخطيط ما يساوي 46% من إجمالي المشتغلين، و75% من إجمالي العاملين بالقطاع الخاص، فإن هؤلاء بسبب وضعهم لن يستفيدوا بأي شكل من الأشكال من الحد الأدنى للأجور، بينما سيتعرضون للآثار السلبية لارتفاع الأسعار المتوقع. وهنا نذكّر أن كلام الحكومة عن مراقبة الأسعار والتسعيرة الجبرية قد تراجع، وقال خبراؤهم علانية أن هذا الكلام غير قابل للتحقيق، فالحكومة لا تنتج شيئًا، ولا تستطيع وضع تسعيرة جبرية لما لا تنتجه.
تُرى من يجيب عن هذه الأسئلة ويجلي حقيقة خطة الحكومة لتطبيق الحد الأدنى للأجور والوفاء بواحد من أهم مطالب ثورة الخامس والعشرين من يناير؟