تحت قبة «مولانا»: التجرؤ الجبان والخروج الآمن
دخلت مكتبه وأنا أحمل معي عددًا من جريدة «الدستور». ابتسم الصحفي المخضرم وقال لي: ما تنبهروش قوي بإبراهيم عيسى، هو جورنالجي شاطر ولكن.. هاشرح لك لاحقًا ليه «لكن».
كنا في عام 2004 وكنت أبدأ عملي كصحفي، كان المجال العام في مصر في ذلك الوقت ينفتح على مساحات من الصراعات ويتسع لبعض التنوعات التي أنعشت الإعلام والصحافة، فانطلقت مشروعات جديدة لصحف وفضائيات، وعاودت «الدستور» صدروها برئاسة إبراهيم عيسى بعد توقفها عام 1998، ولاقت عودتها حفاوة كبيرة خاصة من الشباب.
كنت مبتهجًا بعودة «الدستور»، ولكن لم أكن منبهرًا. كانت جريدة «الدستور» حافلة بأقلام متنوعة تضج بالموهبة والحيوية والرغبة في التجريب، جعلت من قراءتها تجربة ممتعة ومنعشة، وفي المقابل كان لديّ نفور من أسلوب إبراهيم عيسى الزاعق المليء بالضجيج والمفتقد للنزاهة في رأيي، حتى وهو يهاجم مبارك ورجاله.
كصحفي ماهر يجمع إبراهيم عيسى كل عناصر الإثارة والتشويق والاستفزاز، يقدم ما لا يقال من المعلومات والآراء والانطباعات والشائعات، في خلطة بسيطة ساخنة وطازجة وصادمة تجتذب الاهتمام، تحقق أعلى المبيعات، لكنها خالية من الانحياز، سواء لفكرة أو للمهنية الصحفية، ويمكن توجيهها في أي اتجاه.
هو ليس الصحفي الإخباري والاستقصائي الذي تحركه الأمانة والنزاهة وحق الناس في معرفة المعلومات، وإنما هو صحفي الرأي الناجح في تسويق بضاعته المفتقرة لأي عمود فقري أو بوصلة واضحة غير حركة «سوق الإعلام» التي تضعه في موقع الكاتب والإعلامي الجماهيري الجريء والمشاغب، وهذه البوصلة قد تجعله يبدو أحيانًا كمعارض نبيل ضد الاستبداد، وأحيانًا أخرى كمدافع خسيس عن الاستبداد ضد خصومه.
لاحقًا أخبرني أستاذي الصحفي الناصري المخضرم، الذي بدأت معه أول عمل لي في الصحافة، أن مضمون الـ«لكن» التي نبهني لها يومًا أنه يعلم من مصادره أن ما كان «يسند» إبراهيم عيسى في مغامراته الصحفية الجريئة هي علاقاته بجهاز سيادي، وأن تقييم هذا الجهاز السيادي للموقف أثناء انطلاق شرارات الحراك السياسي والشعبي هو ضرورة ترك منافذ «آمنة» لكي يجري استيعاب هذا الحراك بأقل قدر من الخسائر، ولذلك فإن «معدومي الانحياز» إلا لطموحهم الشخصي، هم أكثر النماذج التي يرتاحون لها ويتركونها تلعب دور «الولد الشقي»، بدلًا من أن يلعبه آخرون تصعب السيطرة عليهم في الوقت المناسب.
لم أرتح لتقييمه، فلم أكن أرتاح عمومًا لاتهام الصحفيين والسياسيين بالتبعية لأجهزة أمنية وسيادية، فهو اتهام لا يمكن التحقق منه، كما أنني كنت مختلفًا مع نظرة أستاذي المتشككة في جدوى وحدود الحراك السياسي الذي بدأ وقتها. كنت متمسكًا بحدسي وشغفي بأن أكون جزءًا من هذا الحراك، منحازًا إليه دون أوهام عن «نقائه التام»، وبقدر من التفهم لتوازنات واتصالات يضطر لها كل من يتصدر كيانًا في ذلك الوضع السياسي البائس.
لم يكن لديّ نفس احترام أستاذي «الناصري» لهذه «الأجهزة السيادية» أو ثقته النسبية فيها، سواء في تقديراتها أو نواياها أو في كفاءتها. كان رهاني وآخرين أن تدفع المشاركة الأصيلة الواسعة هذه المواءمات والحسابات والترتيبات لكي تخرج عن تصورات مرسومة مسبقًا إلى أفق آخر، أفق يستعصي على الضبط وعلى حسابات الأجهزة السيادية وتوقعاتها من صبيانها، ويبدو لي أن هذا ما حدث فعلًا مع انطلاق الثورة، ويبدو أن هذا الدرس كان قاسيًا.
يعلم كل من هو قريب الآن من مجال الإعلام، بسبب هذا الدرس القاسي الذي لا يريد «السياديون» تكراره، أن الهامش أصبح ضيقًا، ومساحة التسامح والمواءمات والمناورة داخله أصبحت أضيق.
لم تعد التكهنات بعلاقة هذا الإعلامي بهذا الجهاز صعبة التحقق، وإنما معلنة بشكل أو آخر؛ إعلاميون يحصلون على تسجيلات أمنية للشخصيات العامة، وآخرون يفخرون بقربهم وعلاقتهم الوثيقة بالقيادات العسكرية ويحتمون بذلك، ضغوط كبيرة وفظة على ملاك المؤسسات الإعلامية لطرد كل الأصوات التي ترفض الانصياع والانبطاح وقبول المعادلة الجديدة، وكل ذلك أصبح معلنًا وعلى المكشوف.
هل من الممكن مواجهة إغراء المقارنة بين البطل وكاتبه؟
في فيلم «مولانا»، الذي يعرض حاليًا من إخراج مجدي أحمد علي، وقبله في الرواية التي كتبها إبراهيم عيسى وتحمل نفس الاسم، يرسم عيسى بشكل واضح وتفصيلي، ربما بسبب خبراته الشخصية، بالإضافة لمصادره وخياله طبعًا، ذلك الثمن الذي يدفعه «البطل» مقابل أن يظل في دائرة الضوء على شاشة رجل الأعمال هذا أو ذاك، تحت رعاية هذا الباشا أو ذلك البيه في الأجهزة السيادية. ثمن أن يكون «بطلًا» في إطار الحسابات المرسومة والمواءمات المطلوبة، هو أن يقول نصف الحقائق ويبتلع نصفها، أن يتقن جيدًا كيفية التلاعب بالمعلومات والأفكار لكي تصب في «المعادلة المطلوبة والمتاحة»، متى يمكنه أن يكون جريئًا ووقحًا ومتى يجب أن يطأطئ رأسه.
ولكن بطل الرواية والفيلم يحاول أن يظل بطلًا بأن يرفض الانزلاق لمساندة الظلم بفجاجة، وهو ما لا يصبح ملائمًا ومطلوبًا في أوقات نفاد الصبر، وعندها تصطدم «أوهام البطولة» بسلم التنازلات الذي صعدت عليه. وعندما يترفع البطل عن هذه التنازلات أو يتكبر عليها، يأتي القرار بطرده وتشويهه كجزء من قواعد اللعبة ومصائرها.
«مولانا»، كرواية ثم كفيلم، وثيقة لها أهميتها التأريخية أكثر من كونها موضوعًا لعمل أدبي أو فني له تقديره، وثيقة صارخة مرسومة بجرأة لتجتذب اهتمامًا واسعًا ومبيعات عالية كعادة صانعها، لكن يظل عنوانها هو «التجرؤ الجبان» في السياسة والدين.
في الرواية، قبل الفيلم، ستجد كل عناصر الإثارة والجرأة على فتح قضايا شائكة ومستفزة، (وسأفسد هنا بعض مفاجآت الرواية والفيلم): كواليس صعود مولانا/الشيخ حاتم من مجرد إمام وخطيب في وزارة الأوقاف إلى نجم تليفزيوني، علاقة ملتبسة برجال الأعمال ورجال الأمن، تضعه الأحداث في طريق نجل رئيس الجمهورية (في إشارة واضحة لجمال مبارك)، قريب نجل رئيس الجمهورية يريد التحول من الإسلام إلى المسيحية، مجموعة من الشباب المتنصرين يجري اعتقالهم، فتاة مسيحية تشهر إسلامها وتتزوج مسلمًا، مواجهة بين مولانا وقسٍ بخصوص المتنصرين في مصر، شيخ صوفي متهم بالتشيع والعمل لصالح إيران، إشارات للتقارب بين أجهزة الأمن وبعض مجموعات السلفيين، ممثلة سابقة تغوي مولانا، تعثُّر مولانا وزوجته في الإنجاب إلى أن يأتيهم ولد وحيد يتعرض لحادثة تضعه في غيبوبة يظل بعدها لسنوات رهنًا لعلاج مكثف وإعادة تأهيل، وتورط زوجة مولانا في علاقة جنسية مع الطبيب المعالج لابنها، اعتداء سلفي على مجموعة صوفية متهمة بالتشيع وتفجير لكنيسة.
حوارات الرواية التي انتقلت للفيلم تتضمن كتلًا كبيرة من مقالات إبراهيم عيسى وخطبه في برنامجه الديني السابق «الله أعلم» تناقش الانتقادات لبعض الأحاديث النبوية، وتتضمن انتقادًا للتفكير السني السائد مع إشارة للتعاطف مع أفكار فرقة «المعتزلة» الأكثر عقلانية، مناقشة لبعض الانتقادات الموجهة للإسلام بخصوص العبودية ووضع المرأة وقتل المرتد عن الإسلام.
في الفيلم جرى تخفيف مستوى الجرأة التي لن تمر عبر الرقابة على المصنفات الفنية؛ اختفت طبعًا العلاقة الجنسية بين زوجة مولانا والطبيب الذي يعالج ولدهما (وباختفاء هذه العلاقة أصبح الخط الدرامي لمرض الابن خطًا جانبيًا ممتدًا بلا نهاية ولا تطور ولا اتصال بباقي الأحداث)، كما جرى تخفيف تفاصيل الإغواء وبعض التورط الجنسي بين مولانا والممثلة المغمورة السابقة التي تتقرب إليه بوصفها طالبة علوم شرعية، ليتقلص إلى مجرد محاولة من الممثلة لاحتضانه، فيما يصوَّر وكأنه محاولة لابتزازه، كما اختفت المواجهة المتوترة بين الشيخ والقس بخصوص التنصير في مصر.
يمكن تفهم محاولة تجاوز محاذير رقابية ليكون إنتاج الفيلم ممكنًا، وليست هذه محل وصف «التجرؤ الجبان»، فالتجرؤ الجبان هو سمة الرواية مع مستويات جرأتها العالية وطريقة معالجتها لما اقتحمته من مناطق الاشتباك والإثارة.
تفاصيل التجرؤ الجبان تبدأ من التناول مدَّعي الجرأة للحالة الدينية في مصر، وفي الوقت نفسه يختفي «الإسلاميون» من المشهد؛ لا وجود للإخوان المسلمين ولا للتيار الإسلامي، فقط مجموعات هائجة وغير إنسانية من السلفيين الذين يطاردون الصوفيين والشيعة. صورتهم في الرواية والفيلم هي نفسها الصورة المسطحة النمطية للملتحي الغاضب، مع إشارة لعلاقة مع أجهزة الأمن، وتوجيه اللوم لهم – على لسان مولانا – لتركهم بعض المساجد لهؤلاء «المتطرفين».
المشهد هنا يبدو وكأن التيار السلفي فيه ظاهرة مصطنعة تمامًا وهامشية، مستوردة ومصنوعة أمنيًا، لأسباب غامضة لا تتطرق لها الرواية ولا الفيلم. وهي نفسها رؤية بعض «التنويريين» للتيار السلفي باعتباره «غزوًا وهابيًا» دخيلًا على الاعتدال المصري.
لا تمتلك الرواية ولا الفيلم شجاعة التطرق لقلب المشكلة، وهي أن إفساح المجال لبعض السلفيين المؤيدين للنظام السياسي أو القائلين بعدم جواز التمرد عليه هو حل سياسي وأمني للاستعانة ببعض فئات التيار الإسلامي من أجل الأهم، أي محاربة التيار الإسلامي المناوئ للنظام، المتمثل بالأساس في الإخوان المسلمين. لا وجود تمامًا لهذا الجانب من المشهد، وكأنه يمكن استبعاده ببساطة، وكأنه ليس أحد أركان التأزم السياسي والاجتماعي قبل الثورة وبعدها وحتى الآن. ولكن الرؤية التنويرية المتعاطفة مؤخرًا مع النظام السياسي الحالي تجبن عن التعامل مع هذا الجانب، وتفضل فقط صنع معركة فكرية حول نصوص التراث مع بعض مشايخ الأزهر وبعض الملتحين الغاضبين، كما يبدو المشهد في الرواية ثم في الفيلم.
لا يمكن أيضًا تجاهل تحولات وتحالفات إبراهيم عيسى في رؤية هذا المشهد، فقد بدأ كتابة الرواية قبل انطلاق الثورة في يناير 2011، حيث كانت له علاقات لا بأس بها مع الإخوان المسلمين، تمثلت في بعض الفترات في شراكة وتقارب شهدتها صفحات «الدستور» التي اتسعت لكتابات قيادات وكوادر الإخوان، وأنهى كتابة الرواية عام 2012 حيث كان لا يزال على مواقفه ضد سلطة مبارك و«فلول النظام»، ثم إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية، وذلك قبل انتقاله تمامًا إلى معسكر «أنصار الجيش»، والعداوة الشرسة للإخوان المسلمين بعد توليهم السلطة.
مشهد «زيف» كل هؤلاء ممن يحاولون اتخاذ أي موقف ديني هو في النهاية المشهد الطاغي على الرواية والفيلم
وتدريجيًا اقترب إبراهيم عيسى من خطاب أبواق الجيش والأجهزة الأمنية في اتهام الإخوان بالعمالة والخيانة، وبكونهم أذرع لقوى إقليمية ودولية، وهي اتهامات رخيصة وساذجة وجبانة ولكنها تبدو جريئة ومستفزة وتعبوية، فانتقاد الإخوان والتيار الإسلامي باعتباره تيارًا له جذوره الاجتماعية والفكرية – المتقاطعة بشكل كبير مع «الإسلام الوسطي الرسمي»، ومع التوجهات السلطوية المحافظة للدولة للمصرية – هو أمر أعقد بالتأكيد من اتهامهم الرخيص بالعمالة والخيانة بعد سنوات قليلة من التقارب معهم.
يبدو أنه من الصعب أن يظهر التيار الإسلامي بجوار «مولانا» في الرواية والفيلم، ويمكّن ذلك الاختفاء مولانا من لوم أجهزة الأمن على إتاحة الفرصة للسلفيين، متناسيًا أن أجهزة الأمن وتفاهماته معها، كأزهري مطيع، كانت أيضًا فرصته ليصبح الشيخ التليفزيوني الوسطي الجماهيري.
ظهور التيار الإسلامي كتيار جماهيري له جذوره وامتداداته رغم محاولة الأمن مواجهة ذلك – باستخدام أمثال «مولانا» وبعض السلفيين – سيفسد بالتأكيد خلطة «التجرؤ الجبان»، وسيتطرق فعلًا لتعقيد المشهد الديني في مصر.
التجرؤ الجبان أيضًا هو سمة شخصية لمولانا الشيخ حاتم الذي يعامل كل الأطراف بحذر ونفاد صبر باعتبارهم أغبياء، لا يفهمون الإسلام ولا يفهمون مصلحة البلد ولا يفهمون طبيعة الناس. ولكنه في الوقت نفسه يجبن عن المواجهة وعن الصراحة في مواجهة السلطة وفي مواجهة الناس، يجبن أمام إغراءات الأمان والشهرة والثروة. هل من الممكن مواجهة إغراء المقارنة بين البطل وكاتبه؟
ينتزع البطل نفسه من هذا الجبن أحيانًا ليرمي بتلميحات ساخرة مزدرية للجميع؛ لزوجته التي شاركته مسيرته، تبادلت معه الخيانة الزوجية (في الرواية فقط)، لمشايخ الأزهر المنغلقين، للشاب المتحول للمسيحية الذي يحاول إقناعه أنه لا يعرف شيئًا عن الإسلام ولا المسيحية، للمتحمسين الذين أقنعوا الفتاة المسيحية بالتحول للإسلام لأنهم لا يفهمون حقيقة الدعوة الإسلامية ولا يراعون مصلحة البلد، لرجال الأمن الذين يلعبون بالنار ويهددون مصلحة البلد، للقس الذي يسعد بتنصر الشباب (في الرواية فقط) لأنه يفرح بسذاجتهم ويستغلها ولا يراعي مصلحة البلد في رأي مولانا.
يصعب الفصل بين زاوية النظر للمشهد الديني التي يعرضها الفيلم وبين زاوية نظر الشيخ حاتم، فهو يعرف كل شيء ويفهم كل شيء، معظم الآخرين أغبياء، ولكن مشكلته أنه جبان، ورغم أن الرواية والفيلم يبرزان هذا الجبن، فإنه يمكن وصفهم به أيضًا. فالرواية والفيلم يتنصلان وينسحبان تدريجيًا من الاشتباك الجريء، أو مدعي الجرأة، مع قضايا مثل الانتقادات الموجهة للإسلام أو وجود الشيعة في مصر، التحول من الإسلام إلى المسيحية والعكس.
فعلى عكس المتوقع، تمتلئ الرواية والفيلم بخطاب تقليدي يدعي العقلانية في دفاعه عن الإسلام ضد هذه الانتقادات. النص المكتوب أكثر جرأة واستفاضة بالطبع في إلقاء التلميحات والإشارات للتناقضات في التفكير الإسلامي السائد، ولكنه في النهاية مكتوب في إطار دفاع حار عن الإسلام أو الطبعة الصحيحة منه.
أما فيما يخص التشيع والردة والتنصر والأسلمة، تتكشف أحداث الرواية والفيلم عن أن الشيخ المتهم بالتشيع ليس شيعيًا، وإنما هو مجرد شيخ صوفي ادعى الأمن والسلفيون هذا لتشويهه. لماذا؟ لا أحد يعرف، السلفيون لديهم عداؤهم الديني مع الصوفية، ولكن لماذا يجاريهم الأمن رغم علاقته الطيبة أيضًا بمعظم الصوفية في مصر؟ لا أحد يعرف.
الفتاة المتحولة للإسلام فعلت ذلك لأن أباها يضربها، فهربت إلى رعاية بعض المسلمين الذين ربطوا بين تخليصها من مشكلتها وتحويلها للإسلام، وكذلك الشاب الذي تحول للمسيحية لم يتحول فعلًا للمسيحية، وهنا تفاجئنا الرواية والفيلم بواحدة من أسخف النهايات الممكنة ولكنها فعلًا الأكثر إثارة؛ الشاب ادعى التحول للمسيحية لكي يدخل الكنيسة ويفجرها.
هذه النهاية السخيفة لم تخطر على بال أي إرهابي، لأنه عمليًا لا يحتاج للفت أنظار عائلته والأمن والمؤسسات الدينية والذهاب للسجل المدني لطلب تغيير ديانته، والتهديد برفع دعوى قضائية ومحاولة اللجوء السياسي للفاتيكان وقلب الدنيا، لا يحتاج لكل هذه الأزمات لكي يتمكن من الدخول وترك حقيبة في الكنيسة، بدلًا من فعل ذلك في صمت وهدوء، كما هي عادة الإرهابيين.
يضع السياق أمامنا احتمال أن يكون الشاب مضطربًا نفسيًا، ولذلك قرر تفجير الكنيسة، أو كونه إرهابيًا خدع الجميع، والرواية والفيلم يضعان مبررات درامية لكلا الاحتمالين؛ الشاب حاول الانتحار مرة بشكل استعراضي للفت الانتباه، كما اكتشف الأمن أن الشاب كان يتصفح مواقع جهادية على الإنترنت لكنه امتنع عن اتخاذ إجراء ضده بسبب قرابته من نجل رئيس الجمهورية.
بغض النظر عن الاحتمالين، فمشهد «زيف» كل هؤلاء ممن يحاولون اتخاذ أي موقف ديني هو في النهاية المشهد الطاغي على الرواية والفيلم، وهو مشهد يتأرجح بين رؤيتين: رؤية رجال الدولة المحافظة ورجال الدين الرسمي، وهي أنه من الأفضل أن يظل كل إنسان على دين أهله تجنبًا للمشاكل، ويفضَّل أيضًا عدم اتخاذ أي اتجاه ديني مختلف عن الموقف الديني الرسمي الذي تشجعه الدولة. مرحبًا بالطبع بالمتحولين إلى الإسلام لأنه دين الدولة، ولكن ذلك ليس أولوية ويجب أن يحدث دون مشاكل وصدامات، أما التحول عن الإسلام فهو شيء يمس أمن الدولة ويهدد استقرارها.
الرؤية الأخرى هي موقف التنويريين العقلانيين، ممن يرون زيف الاعتقاد الديني برمته وعدم أصالته، وكونه ناتجًا عن أزمات اجتماعية أو اضطرابات يعانيها الناس، وهو أيضًا مسبب لاضطرابات وأزمات اجتماعية تهدد الحياة الإنسانية وتهدد «مصلحة البلد». هذا الموقف «التنويري العقلاني» مؤمن بحرية الاعتقاد والتحول الديني بالطبع من حيث المبدأ، لكنه في النهاية لا يتسامح مع الدين إلا في طبعته الرسمية المنسحبة من التأثير – الأزهر الوسطي الجميل – والذي يمكن للدولة أن تهذِّبه ليصبح عقلانيًا وغير مؤذ، وأحيانًا ما يضع التنويريين العقلانيين أنفسهم في موضع خلفاء «المعتزلة»، المسلمين العقلانيين، مثل «مولانا».
مثل هذه الرؤية التنويرية العقلانية – رغم جرأتها على التراث وعلى التنوعات الدينية الأخرى وعلى الأزهر ورجاله – ينتهي بها الأمر للجوء إلى جناح أقرب سلطة تسيطر على الشعب الأهوج الذي يدمر بحركته واختياراته المضطربة – كما في الفيلم – استقرار البلد، ليتنافس التنويريون مع المؤسسة الدينية الرسمية على شرف التعبير عن الموقف الديني والسياسي الصحيح المطلوب لمصلحة الدولة وتقدمها.
هذا التنافس والصراع الناتج عن تلاقي الرؤيتين في النهاية، رغم تناقضهما، هو سر جاذبية واستفزاز «مولانا»، فهو المزيج من مشايخ الأزهر وإبراهيم عيسى، التنويري المتدين أو الشيخ العقلاني، المزيح المتصارع غير المتجانس وغير الأصيل، وغير القادر عن التعبير عن نفسه بوضوح ونزاهة، ولكنه قادر على استفزاز الجميع واللعب مع الجميع أيضًا، بتفاهماته ومواءماته الذكية أحيانًا، وأحيانًا أخرى بجرأته المنقوصة التي يحلو للسلطة التسامح معها بحساب، لتتركه يعاني بينه وبين نفسه من مزيج الإحساس بالطهر وامتلاك الحقيقة والإحساس بدنس التدليس والارتباط بالسلطة وأجهزتها السيادية، والذي هو الطريق الوحيد لاحتلال «المنبر».
يضيف الفيلم على الرواية مشهدًا عاطفيًا يحاول القفز على هذا الصراع الداخلي بشكل ميلودرامي؛ خطبة للشيخ حاتم في مؤتمر يحضره مشايخ الدولة بجانب القساوسة لإدانة تفجير الكنيسة. يدين الشيخ حاتم الجميع ويدين نفسه، مستعيدًا خطبة أحمد زكي في نهاية فيلم «ضد الحكومة» لعاطف الطيب. وتدمع عيناه وهو يردد مجموعة من الكليشيهات الخطابية عن خطايانا وزيفنا، ثم يطيح بميكروفونات القنوات التليفزيونية من أمامه مفسدًا المشهد المعد سلفًا للوحدة الوطنية، قبل أن يخرج غاضبًا.
يلعب القدر لعبته مع الفيلم، فنرى مشاهد النهاية (محاولة الإطاحة بالشيخ حاتم من عرش نجوميته التليفزيونية بعد غضب أجهزة الأمن عليه بسبب تعاونه غير الكامل، ثم اصطناعه البطولة بإطاحته هو بميكروفونات القنوات) وهي تقترب من المشهد الواقعي الذي يتوقف فيه إبراهيم عيسى عن تقديم البرامج التليفزيونية مضطرًا، بعد غضب أطراف غير معلومة منه بسبب تحوله من التأييد الكبير للسلطة إلى محاولة لعب دور الولد المشاغب مرة أخرى، ثم إعلانه التفرغ في الفترة القادمة لمشروعات «إبداعية» أخرى يفضل من خلالها لعب دوره «التنويري» على حد تعبيره.
انفجر بعض المشاهدين في قاعة السينما في التصفيق مع خطبة مولانا، وخرجوا يتكلمون عن جرأة الفيلم وعن مصير مولانا ومصير إبراهيم عيسى. ألقاهم الفيلم وسط مشاكل غير معهودة على الشاشة، اقتحمها بجرأة ملفتة، ثم أخذهم في جولة مع حيل وألاعيب التجرؤ الجبان وتركهم هناك.
لا يزال ضجيج التجرؤ الجبان مبهرًا وصادمًا ومستفزًا وقادرًا على حصد الجماهيرية، ولكنه بسبب خوائه أو تخاذله، أو كليهما، لا يقترح أي طريق آخر أو أي سؤال جديد، ويترك المنبهرين يندفعون بالقصور الذاتي إلى ممرات الخروج الآمن؛ الحياة صعبة، كلنا مخطئون، الدين عظيم وغامض ومريب، لا يجب اللعب بالدين ولا مع الدين، الأشرار متربصون والبلد في خطر، مولانا يعرف الحقيقة لكنه في أزمة، وربنا يولّي من يصلح.
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 17 يناير 2017