بين المشيخة وساحة الجامعة.. أين «صوت الأزهر الحقيقي»؟
رغم توقع احتجاجات طلبة التيارات الإسلامية في كل الجامعات، فإن قرار تأجيل الدراسة في جامعة الأزهر وحدها لما بعد عيد الأضحى كان بمثابة إعلان أنه «كله كوم وجامعة الأزهر كوم». والاحتجاجات الأعنف داخل جامعة الأزهر تؤكد ذلك.
يبدو أن حسابات الأمن كانت تعتمد على صورة يمكننا تخيلها من المعلومات البسيطة، التي تقول إن الانتخابات الطلابية الأخيرة في كليات جامعة الأزهر اكتسحها الإخوان.
كلمة اكتساح ليست كافية للتعبير عما حدث، لأنه لم تكن هناك منافسة تقريبا إلا منافسة محدودة من التيار السلفي، وبعض المستقلين. التيار السلفي فاز ببعض المقاعد في اتحادات الكليات، ولكن في النهاية كل رؤساء اتحادات كل كليات الجامعة ونوابهم كانوا من طلاب الإخوان المسلمين، ومجلس اتحاد الجامعة ككل كان بالكامل من طلاب الإخوان المسلمين، كما يشير تقرير «المرصد الطلابي».
في عام 2009 أعددت تقريرا صحفيا بعنوان «هلأصبحالأزهريونأقليةداخلالأزهر؟»، وكنت أعني بـ«الأزهريين» أولئك الذين يتبنون فكرا ومنهجا هو نفسه الفكر والمنهج، الذي تتبناه المؤسسة الأزهرية، وفي التقرير قال لي الناشط الأزهري البارز، أنس السلطان، إنه يعتقد أن هؤلاء «الأزهريين» نسبة لا تزيد على 2 أو 3% من مجمل أبناء الكليات الشرعية في الأزهر!
هذا أيضا لا ينفي التقاطع بين هؤلاء وتيارات إسلامية أخرى، أنس السلطان نفسه كان لفترة عضوا في تنظيم الإخوان المسلمين، ورغم ابتعاده عن العمل في التنظيم فإنه يعتبر نفسه إخوانيا وابنا لفكرة الإخوان المسلمين.
وخلال عامي 2011 و2012 شاركت في حوارات مع رموز وحركات أزهرية للنقاش حول فكرة «استقلال الأزهر» وعلاقته بالدولة، وكان الهاجس الأساسي المسيطر على الجميع أن أي استقلال للمؤسسة بما يعني دورا أكبر لأبنائها وعموم علمائها في اختيار المستوى الأعلى من العلماء وقيادات المؤسسة وصولا لشيخ الأزهر سيكون فرصة لـ«اختراق» المؤسسة من قبل التيارات الإسلامية الحركية والفكرية، وتهديدا لـ«الهوية الأزهرية التاريخية»، وهذا الهاجس هو الذي قاد العديد من الأزهريين للتمسك بالقيادة الأزهرية الحالية رغم كل شيء.
كما أن القيادة الأزهرية الحالية اختارت طريقا للتغيير من أعلى في وقتتعديلقانونتنظيمالأزهرفييناير 2012 حين تعاونت القيادة الأزهرية مع المجلس العسكري لإصدار تعديلات القانون قبل أيام من انعقاد البرلمان، لكي تهرب بمستقبل الأزهر بعيدا عن تدخل الإخوان والسلفيين.
تعديلات القانون جعلت من سلطة شيخ الأزهر الحالي تعيين لجنة لاختيار أول تشكيل لهيئة كبار العلماء، التي ستختار الشيخ القادم في حال خلو المنصب، وحافظت على استمرار شيخ الأزهر الحالي في مكانه، ولاحقا أصبح لهيئة كبار العلماء دور دستوري وفق «دستور الإخوان»، وتمسكت به القيادة الأزهرية ولا تزال.
تبدو هذه المعركة كلها محاولة للصراع على «رأي الأزهر» و«صوت الأزهر» ونفوذهما، ومحاولة تشكيله واستخدامه، ولكن ذلك لم يحسم المعركة، بل زادها اشتعالا، خاصة بعد إسقاط سلطة الإخوان.
وسط طلبة جامعة الأزهر وأساتذته وعلمائه ودعاته يصعب التعميم، لكن يبدو من المعلومات البسيطة وشهادات الأزهريين في الجامعة أو الدعاة في الأوقاف أن هناك نفوذا لا يستهان به للميل إلى دعم «مشروع إسلامي ما»، ورغم كل الاختلاف مع التيارات الإسلامية فإن الغضب من إسقاطه بالكلية يبدو ذا صوت أعلى وأعلى، ويبدو الصوت المخالف ذلك داخل أوساط الأزهريين مضطرا لأن يقول إن السلطة الحالية هي «الإسلامية» بحق، بينما أخطأت الطريق التيارات الإسلامية أو هم «خوارج»، كما يحب أن يصفهم علي جمعة وآخرون.
ولكن حتى وسط النخبة الأزهرية المختارة بعناية لتكون «هيئة لكبار العلماء» هناك بخلاف «الطيب» وعلي جمعة، علماء متعاطفون مع المشروع السلطوي الإسلامي رغم بعض اختلافهم معه، ويبدأ ذلك من الرجل الثاني في المشيخة، الشيخ حسن الشافعي، مستشار شيخ الأزهر، مدير المكتب الفني لمشيخة الأزهر، وكذلك محمد عمارة، رئيس تحرير مجلة «الأزهر»، واللذان صرحا بمعارضتهما «الانقلاب»، فضلا عن آخرين أقل بروزا، لكن أعلنوا مساندتهم للإخوان ضد «العلمانيين» مثل الشيخ محمد الراوي، هذا كله فضلا عن وجود يوسف القرضاوي كأحد أعضاء هيئة كبار العلماء في الأزهر.
كل ذلك يجري تحت السطح، بينما «رأي الأزهر» يحتكره شيخ الأزهر، فعليا وعلى سطح المشهد السياسي، بينما تبدو التفاصيل داخل المشيخة نفسها، أو في ساحات جامعة الأزهر غير ذلك.
ذلك قد يقودنا إلى أن فكرة «رأي الأزهر» نفسها هي «أداة فعالة» ولذلك فهي ساحةمعركةعنيفةتخوضها جهات عديدة: خريجوه وطلبته وعلماؤه ونخبته، التي تحتل موقع القيادة، بالإضافة للتيارات السياسية المتصارعة، وأجهزة الدولة، التي تبحث عن حليف لها وسط المؤسسات الدينية.
ولكن لماذا يجب أن يكون لمؤسسة علمية ودعوية «رأي واحد»؟ يبدو لي ذلك هو السؤال الأكثر جذرية في أسئلة «استقلال الأزهر».
تاريخيا، تحول شيخ الأزهر تدريجيا من مدير ومنسق لشؤون المؤسسة الإدارية والمالية في وجود مشايخ متعددين للمذاهب داخله، إلى «رئاسة دينية»، بحسب تعبير طه حسين، تمثل إحدى دعائم السلطة في مصر، وبالتوازي مع ذلك تحول «نفوذ الأزهر» العلمي والشعبي إلىأداةأكثرتورطامعالسلطةمنجوانبمختلفة.
وبدلا من أن يكون الأزهر ساحة لعلوم الإسلام ومناهجه ومذاهبه المتنوعة، يتحول تدريجيا إلى «مؤسسة دينية»، وكما توقع طه حسين في العشرينيات وقال إن النص على دين رسمي للدولة في الدستور سيتطلب تحديد «رئاسة دينية» تفسره، فإن كل سلطة استخدمت الأزهر هذا الاستخدام بالفعل، وعندما احتاج السلطويون الإسلاميون «سلطة دينية» تتولى التفسير النهائي للإسلام في مواجهة «المحكمة الدستورية» - للتقدم أكثر في اتجاه مشروعهم - لجأوا لاستخدام هذه المؤسسة رغم كل الاختلافات مع قيادتها الحالية وعلى أمل تغيير هذه القيادات يوما ما.
هذا الأمل الانتهازي انتهى بالإسلاميين إلى خسارة المعركة، وإلى وقوف رمز هذه «الرئاسة الدينية» إلى جانب مشروع إسقاط سلطتهم، ومثله الأمل الحالي في استمرار دعم «قيادة الأزهر» للسلطة الجديدة، إلى جانب «قوى مدنية». لا يبدو هذا الأمل الآن مجرد أمل انتهازي آخر مثل آمال السلطويين الإسلاميين، ولكنه يبدو أيضا - بالنظر إلى التفاصيل الصاخبة داخل «ساحة الأزهر الأوسع» - أملا انتهازيا خائبا وضيق الأفق، في مقابل أمل الإسلاميين الانتهازي المتطلع لبعيد.
وإذا كان الإسلاميون يراهنون على أن «الأزهر» في النهاية سينحاز لقدر من «السلطوية الإسلامية»، التي لا فكاك له منها بحكم ركود مناهجه، وانسداد أي مشاريع لتجديدها - انظر موقف «ممثلي الأزهر» من حقوق «غير المسلمين» في نقاشات لجنة الخمسين مثلا - فإن انتهازية السلطة الجديدة وبعض «القوى المدنية» واستثمارها في فكرة «رأي قيادة الأزهر الحالية» باعتباره «صحيح الإسلام» تبدو خائبة وضيقة الأفق وعدو نفسها على المدى البعيد، هذا بالطبع إن كان الهدف المرجو هو ديمقراطية حقيقية.
منشور في جريدة المصري اليوم بتاريخ 24 أكتوبر 2013
الرابط الأصلي: هنا