الشغل في العبيد*
نصحني ألا نأكل في هذا المطعم بالذات وأن نختار أي مطعم آخر في مدينة العريش. المطعم بدا لي من محاولة أصحابه إبداء الفخامة والفخفخة أنه على الأقل جيد. ولكنه أوضح لي أن للأمر بعدًا أخلاقيًا، «صاحب المطعم ده كوّن ثروته من الشغل في العبيد».
أعلم شذرات عن تهريب الأفارقة عبر سيناء إلى إسرائيل بعد ابتزازهم، ولكن التعبير لطمني: «الشغل في العبيد».
تفاصيل أخرى كانت أشد قسوة. أن الأمر تحول من حالات محدودة إلى تجارة رائجة ولها مشاهير كونوا ثرواتهم منها. وأن الأمر تجاوز الابتزاز إلى خطف واحتجاز الأفارقة الباحثين عن اللجوء والذين يعانون في القاهرة والمحافظات، بعد وعود بتهريبهم إلى إسرائيل، ثم «بيعهم» إلى آخرين في سيناء يقومون بتعذيبهم وإجبارهم على الاتصال بذويهم ودفعهم لتحويل الأموال إليهم. وربما يحدث أن يباع «الضحية» إلى آخر يتابع تعذيبه إن كان ماهرًا في الابتزاز ليجعل أهله يبيعون كل ما لهم من أجل تحرير قريبهم. وفي نهاية هذه العملية قد يتم «بيع» الضحية إلى مشترٍ في إسرائيل يستخدمه كيد عاملة رخيصة أو أي أنشطة غير قانونية، أو قد يتحول الضحية إلى كتل متفرقة من اللحم والأعضاء البشرية التي تباع في سوق تجارة الأعضاء، والفائض من جسده يذهب إلى القمامة.
الروايات المتعددة من أهالي سيناء عن «الشغل في العبيد» تحكي أيضا عن الجدل الدائر حولها وأن بعض المشايخ قد دخلوا في جدالات مع عائلات تمارس هذا النشاط، وأثناء الجدل احتج ممارسو هذا النشاط بأن هؤلاء «العبيد» كفار أصلا، وثنيون أو يهود. ويحكي الناس في المدينة ببساطة عن فلان الذي كوّن ثروته من هذا النشاط لكنه تاب إلى الله على يد الشيخ فلان ويتابع الآن حياته بكل بساطة بعد أن هداه الله.
يمكن أن نضع هذه التفاصيل المفزعة بجانب تفاصيل أخرى عن دوائر وحلقات من الظلم والقهر بعضها فوق بعض، طفت كلها أمامي أثناء زيارة قصيرة الأسبوع الماضي مع زملاء «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية » .كانت زيارتنا تهدف لرصد أي عسف أمني «إضافي» متوقع في ظل «العملية العسكرية» التي كانت متوقعة وقتها لتحرير الجنود المختطفين. ولكن الهدوء الذي أعقب الإفراج عنهم ليس أقل إزعاجًا بل كان خلفية مناسبة جدا لتطفو هذه الدوائر.
أتمنى أن يظل بعض الاهتمام مستعدًا لسماع المزيد عن دوائر الظلم والتهميش في «سيناء» الأسبوع القادم عندما نعلن تفاصيل تقرير عن الصورة الكبيرة في محاولة لتجاوز الحديث المكرر «الاستعماري» عن هيبة الدولة أو عن خطط تنموية لأهالي حدودنا الشرقية نظرا لأهميتها وأهميتهم الاستراتيجية.
تحويل منطقة وناس إلى موضوعات وأشياء، بعض ما يحدث فيها يمس هيبة «دولتنا» وتنميتهم مفيدة لاستقرار وأمان «دولتنا»، هي نفسها طريقة التفكير في الجنود المختطفين الذين أصبح العدوان عليهم مساسًا بهيبة «المؤسسة العسكرية والدولة» في حين أن ظروف تجنيدهم ليست إلا مهانة بضعة جنود مشاة من بين مئات الآلاف من الجنود في الجيش والأمن المركزي. كلها تنويعات يمكن نسبتها لفكرة «الشغل في العبيد».
والتفاصيل البشعة لهذه التجارة المنحطة ليست إلا نتيجة طبيعية لتحويل إنسان إلى شيء وموضوع لأن كرامته وحياته في لحظة ما لا يندرجان تحت بند هيبة دولة أو مؤسسة، ولأنه «مختلف» في العرق أو الدين عن أبناء العصابات.
وفي الأشكال الأخرى من هذه التجارة يمكنك أن تضع بدلًا من العرق والدين ما تشاء من أشكال التمييز والاختلاف. بدءًا من الاختلاف عن «الهوية المصرية في الوادي والدلتا» ، مرورًا باختلاف «الرتبة العسكرية» أو اختلاف الطبقة الاجتماعية.
الجدل العام يتحول الآن من سيناء إلى إثيوبيا ومصير منابع النيل مع تطورات إنشاء «سد النهضة». ويبدو أن بعض الجدل وهو يتحول عن سيناء إلى هناك يحتفظ ببعض غطرسته وهو يتحدث عن «خيار عسكري» للعدوان على مشروع السد والدفاع عن «حقوقنا» التي بعضها في الحقيقة «امتيازات» واتفاقات هي في الحقيقة «إكراه وعدوان» من مخلفات مرحلة استعمارية ثم مراحل من تمسك الدولة المصرية بامتيازاتها. ويبدو أنه في هذه اللحظة ينبغي أن تتواضع الدولة المصرية قليلا لكل هؤلاء الذين اعتادت قهرهم والحفاظ على هيبتها فوق كرامتهم وحقوقهم، سواء كانوا مصريين أو غير ذلك.
الجدل العام المهتم والمشغول بمصير موارده التي ستؤثر على حياته إما ينظر بندية وأخوة للآخرين الذين يفكرون أيضا في مواردهم وحياتهم، وإما يسقط في انحطاط تحويلهم إلى شيء وموضوع لمصالحنا، ثم يسقط في انحطاط العجز عن ممارسة الانحطاط السابق.
*منشور بجريدة المصري اليوم بتاريخ 29 مايو 2013