مشهد “انتخاب المفتي” ومعركة الكراسي الدينية
بعض الاهتمام والترقب الذي حظي به مشهد اختيار مفتي الديار المصرية، لم تحظ به لحظة تشكيل هيئة كبار العلماء التي اختارته ولم تحظ به التعديلات الأخيرة لقانون تنظيم الأزهر، الذي وضع قواعد وطريقة تشكيل الهيئة وطريقة اختيارها للمفتي.
ربما لأن اختيار شخص المفتي يتم لأول مرة عن طريق تصويت أعضاء هيئة كبار العلماء، بدلا من التعيين من قبل رئيس الجمهورية. وربما لأن ذلك يحدث في ظل حكم الرئيس محمد مرسي عضو جماعة الإخوان المسلمين في ظل تربص تجاه سيطرة الجماعة وحلفائها من السلفيين على المناصب الدينية الرسمية.
وهو ما يفسر أيضا ضعف الاهتمام والجدل حول تعديلات قانون تنظيم الأزهر أو تشكل هيئة كبار العلماء، لأنهما رغم أهميتها البالغة، إلا أنهما عكسا توازنا في وجه التيار الإسلامي، وكرسا بقاء بعض الأوضاع على ما هي عليه في المجال الديني، فخلّف ذلك ارتياحا لدى كثيرين.
فتعديلات قانون تنظيم الأزهر صدرت في يناير (كانون الثاني) 2011 أثناء تولي المجلس العسكري السلطة التنفيذية، وتم إصدار التعديلات في عجالة ـ بالتنسيق مع شيخ الأزهر ورئيس الوزراء وقتها كمال الجنزوري ـ قبل الانعقاد الأول للبرلمان في 25 يناير، في محاولة مكشوفة لانتزاع هذه التعديلات من براثن الأغلبية البرلمانية الإسلامية. احتجاج الإخوان على ذلك لم يتطور عمليا. بينما قدم نائب عن حزب النور مشروعا بديلا لتعديلات قانون الأزهر يرفض فيه كون الأزهر “المرجع النهائي في شؤون الإسلام”، ولكن اعتراض ممثلي الأزهر في البرلمان حال دون مناقشته
نص قانون الأزهر على أن يختار شيخ الأزهر الحالي أعضاء أول هيئة لكبار العلماء ويعرضهم على رئيس الجمهورية ليعتمد ذلك ويقره.
ولكن في النهاية رضخ الرئيس، وأقر رسميا أول تشكيل لهيئة كبار العلماء تم بمعرفة شيخ الأزهر، وسط غضب أزهريين ثوار وراغبين في التغيير.
شكل شيخ الأزهر لجنة من “النخبة الأزهرية” المقربة له لتختار 24 عضوا من هيئة كبار العلماء، فاختارت اللجنة نفسها وشيخ الأزهر بالطبع، وأضافت لهم وجوها أخرى من النخبة الأزهرية التي تميزت طوال العهود السابقة بـ”التواؤم” و”الاعتدال”، ومرت عبر “الموافقة الأمنية والسياسية”، لتتبوأ رئاسة جامعة الأزهر أو كلياتها ووزارات الأوقاف ومناصبها الكبرى، بالإضافة إلى أوجه من “الآخرين” أبرزهم: وجه قريب نسبيا من السلفيين وهو رئيس “الجمعية الشرعية”، أكبر الجمعيات الخيرية الدعوية الإسلامية، والشيخ يوسف القرضاوي، المعروف بانتمائه التاريخي إلى الإخوان.
هذا التشكيل لهيئة كبار العلماء مثّل حصنا نسبيا لشخص شيخ الأزهر ومن حوله في مواجهة أي محاولة (إخوانية – سلفية) لغزو قيادة الأزهر أو استبدالهم على طريقة قادة الجيش. فهيئة كبار العلماء مسؤولة عن انتخاب شيخ الأزهر مستقبلا. كما أنها مسؤولة عن انتخاب مفتي الديار المصرية. وكان ذلك انتصارا للنخبة الأزهرية القديمة التي تحاول الحفاظ على وضعها في مواجهة أي تغيير، وفي نفس الوقت اقترابا من مطالب بعض جموع الأزهريين الذين انتفضوا بعد الثورة، مطالبين بتوحيد كل المؤسسات الدينية الإسلامية تحت راية الأزهر.
على العكس من ذلك كانت عملية اختيار وزير الأوقاف، المشرف الرسمي والحصري على كل المساجد بما فيها الجامع الأزهر ومنبره. فالوزير جزء من الحكومة التي يشكلها الإخوان بالتفاهم مع حلفائهم، ولكن بشرط عدم الاستفزاز العنيف لنخبة مؤسسة الأزهر.
في البداية تم ترشيح أحد المشايخ الأزهريين السلفيين: محمد يسري إبراهيم، مما أثار النخبة الأزهرية القديمة والتقليدية وكثير من الأزهريين “الثوار” الراغبين في التغيير، لكن بشرط ألا يخل بهوية المؤسسة التقليدية العريقة، الممثلة في المذهب الأشعري عقيدة، والتصوف السني سلوكا، والمذاهب الأربعة فقها. ويتبادل أنصار هذه الهوية الاتهام بالخروج على المنهج الإسلامي الصحيح مع السلفيين الدارسين أو المدرسين في الأزهر.
ولأنه كان ترشيحا بالغ الاستفزاز، تم ترشيح شخصية آخرى كحل وسط وهو طلعت عفيفي، وهو من قادة “الجمعية الشرعية” التي تمثل موقفا وسطا بين المنهج الأزهري والسلفي، ومر الاختيار وتم تعيينه. ولكن كان المعيّن كوزير للأوقاف والمرشح السابق له عضوان في “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” وهي الهيئة التي تمثل ائتلافا دعويا شرعيا لعلماء الإخوان والسلفيين وجمعيات دينية أخرى ناشطة ومجموعة من علماء الأزهر الأقرب للإسلام السياسي. كما تضم في عضويتها خيرت الشاطر الذي يظهر إعلاميا بصفته عضوا فيها في اللحظات التي تتطلب “اصطفافا إسلاميا”، ويفضلها صفة له بدلا من صفته كنائب لمرشد جماعة الإخوان.
كان انحصار ترشيحات وزارة الأوقاف في أعضاء “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” إشارة دالة على أن “الهيئة” لعبت دور الظهير الدعوي والشرعي للتيارات الإسلامية، وكان لها دور كبير في “الدعاية الإسلامية” للتصويت بنعم على الإعلان الدستوري في مارس (آذار) 2011 ثم في التصويت لأنصار الشريعة في انتخابات البرلمان، ثم للمرشح الإسلامي في إعادة انتخابات الرئاسة وأخيرا “نعم للشريعة” مرة أخرى في الاستفتاء على الدستور الجديد.
انعكس كل ذلك الصراع على لحظة ترقب اختيار المفتي، رغم نفوذ الإخوان المنعدم تقريبا داخل هيئة كبار العلماء التي اختارها الطيب، لكن البعض توقع توازنات وصفقات. وانحصر الجدال المستقطب حول مرشحين: الأول: عبد الرحمن البر – الأستاذ الأزهري والعضو السابق في مكتب إرشاد الإخوان المسلمين- والثاني سعد الدين الهلالي صاحب بعض الآراء “الغريبة” التي ندد بها إسلاميون واستنكروا ترشيحه.
المرشحان اختصرا الجدال بين الاتجاه القديم قبل الثورة في اختيار المفتي (من الهامش “المتنور” بعيدا عن المحيط الأزهري التقليدي، لكي لا يمثل إزعاجا للنظام، وتكون مرونته في صالحه) وبين اتجاه يتوقع “التمكين الإخواني”.
ووسط الجدال انتبه البعض تدريجيا لأحد المرشحين من أعضاء “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح”، ثم انتبهوا لكون أحد المرشحين من مجلس شورى الإخوان، ولكنه اسم غير بارز في المجال العام. وكان ذلك إشارة إلى التداخل وامتداد الجماعة داخل أوساط علماء الأزهر، وإن م يكونوا بارزين تنظيميا وسياسيا ودعويا.
ولكن الاختيار جاء بعيدا عن كل ذلك، وأتت الأصوات بالدكتور شوقي علام. وهو أكاديمي غير ناشط ولا بارز دعويا ولا سياسيا، وما زال البعض يتكهن باتجاهاته التي يقول بعض المقربين منه أنها علمية بحتة. وربما كان ذلك مقصودا، لكي لا يكون منصب المفتي مخلا بالتعادل الحاصل بين مشيخة الأزهر التي تحميها النخبة الأزهرية القديمة، ووزير الأوقاف المستند لسلطة التحالف الإسلامي. ولكن تصويت أعضاء هيئة كبار العلماء يعكس بالتأكيد ميولا واتجاهات واعتبارات مركبة ومعقدة. كما أن ميول المفتي المجهول واتجاهاته ستتضح لاحقا.
في النهاية، الانتباه للحظة اختيار المفتي الجديد كجزء من مشهد الصراع على “الكراسي الدينية”، عكس روح الاستقطاب السياسي التي يمكن تلخصيها في: “التمكين الإسلامي” في مقابل مقاومته التي تنتهي لمحاولات توازن بين حصص وأشخاص وجماعات تؤدي غالبا إلى نتائج لا علاقة لها بآفاق التغيير في بنية المؤسسات الدينية أو علاقتها بالدولة والمجتمع.
وربما تكون المفاجأة الكبرى المرتقبة، آجلا أو عاجلا، أن حمولة التاريخ والسلطوية في التفكير الديني التقليدي قد تجمع المتخاصمين. كما جمعتهم في حملات شعواء ضد “الشيعة المصريين” على سبيل المثال. فأفكار التيار السائد في الأزهر، من نخبته القديمة ونشطائه الصاعدين، وأفكار خصومهم من الإخوان والسلفيين، قد تتلاقى بشكل ما بعيدا عن صراع الأفراد والجماعات على الكراسي. خاصة أن الطلب القديم على “الوسطية” و”الاعتدال” من قبل السلطة القديمة انتهى، وأصبح هناك طلب آخر لــ”مشروع آخر” من قبل السلطة الجديدة، بينما تتأرجح المعارضة المواجهة للإسلاميين بين الاستناد التقليدي إلى “اعتدال” مفترض لـ”مؤسسة الأزهر”، وبين الانتباه لخطورة تزايد نفوذ المؤسسات الدينية على الديمقراطية.
وهو ما ظهر بالفعل عندما رفضت المعارضة بحسم “مرجعية الأزهر النهائية” في الدستور، لينتهي الأمر إلى تخفيفها إلى “يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون الخاصة بالشريعة الإسلامية”، لتمثل توازنا هشا بين طرفي الاستقطاب السياسي لا يرضي كليهما، وأرض صالحة لنمو “صراع جديد”، أو “تواؤم جديد”، بين الأطياف الدينية المؤسسية والسياسية.
*المقال نشر في جريدة المجلة بتاريخ 16 فبراير 2013. للرابط الأصلي انقر هنا