البقية في حياتنا

21 يناير 2013

 

الخبر الذي لمحته ذلك الصباح عن تاجر الملابس الذي توفى داخل قسم الوراق، وتاه وسط زحام الأخبار والمشاغل، تحول مساء اليوم التالي إلى شأن عائلي عندما أخبرتني مكالمة من أخي أن ذلك التاجر هو قريبنا.

سامح فرج، هو ابن بنت عمة جدتي. اختصارًا كنا نعتبره ابن عمة أبي. لم تكن علاقتي الشخصية به قوية.
كان مفاجئًا لي أن مرّ عليّ أولاً خبر موت أحدهم داخل قسم شرطة قريب نسبيًا من مسكني باعتباره خبرًا غير فادح، ربما بسبب انفجار عداد القتلى الأيام الماضية وكثافة الأيام بالأحداث والإصابات والوفيات، ربما لأنه – بخلاف الأسماء – لم يتغير شيء جذريًا في جهاز الشرطة، وسقوط الضحايا يتوالى.
 ثم كان مفاجئًا لي أن أرى الموت في أقسام الشرطة يقترب مني بشكل شخصي بهذه الطريقة. اعتدت  السنتين الماضيتين أن أسمع الأخبار السيئة عن أصدقاء وأصحاب ومعارف شباب يُعتقلون أو يُحاكمون، وُيصابون أو يموتون في اشتباكات ومواجهات مع الشرطة أو الجيش. 
ولكن الموت في أقسام الشرطة هو الجحيم المخصص لمن لا «ظهر» لهم. وكنت أظن أن عائلتنا  تحتمي بقدر من انتساب أجيالها الجديدة للطبقة الوسطى، ولكن حتى صدور تقرير الطب الشرعي وتحقيقات النيابة والتحقيقات الاستقصائية حول الحدث لا يمكنني أن أجزم بشيء.
ولكنني لا أنكر أنني شعرت بقدر من الذعر اللحظي، لاقتراب فكرة الموت في أقسام الشرطة من عائلتي، والآن بعد ثورة كانت شرارة تفجرها الأساسية وسؤالها الأول هو تصاعد قضية مقتل خالد سعيد على يد الشرطة، ولكن ذلك ذكرني بالانتماء الطبقي المشابه لخالد سعيد، وكان ذلك عاملاً مساعدًا على انتشار قضيته بين الشباب الناشط من طبقات قريبة، وذكّرني أيضًا أن العدالة لم تَطُل حتى الآن قاتليه.   الذعر اللحظي يتلاشى عندما أرجع إلى المشاعر المضطربة الدائمة التي لازمت التفكير دائمًا «أننا مازلنا في ثورة». لا شيء مستقر. كل شيء متوقع. تحدي السلطة لا يأتي سريعًا بالحرية ولكن بأبشع تحدياتها.
أحاول تنحية انتمائي العائلي تمامًا  لكي لا يدفعني للتفكير والتحرك في هذه القضية بالذات بروح الانتقام لقريب. على كل حال ليس انتمائي العائلي بشيء يدفع مشاعري وسلوكي كثيرًا. في سرادق العزاء اكتشفت أني ألتقي كثيرًا من الأقارب من الأجيال الأكبر الذين لم أرهم منذ سنتين.
اتخذت قرارًا بشكل نصف واعٍ منذ يناير 2011  بأن جيلنا يخوض معركة الآن، وأنه من الأفضل أن أتجنب الجدال ومحاولة إقناع الأجيال الأكبر ، الذين يشعرون بنضجهم واكتمالهم، بأن يشتركوا مع جيلنا الذي يحاول جاهدًا هدم عالمهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. حالة استنفار دائم لمدة عامين قطعتها فترات للراحة والسكينة ولكنها أيضًا وسط أبناء جيلي بلا توتر ولا شد ولا جذب مع الأجيال الأكبر وسط أيام، لا يمكن فيها أن يتجاهل اثنان الكلام في الأحوال العامة في أي مكان وأي لحظة.
في اللحظة التي أرسلت فيها لزملاء العمل في «المبادرة  المصرية للحقوق الشخصية» أخبرهم بصلتي بالفقيد، اكتشفت أن زملاء تابعوا القضية منذ يومين منذ تسرب الخبر، وأن محاميًا زميلاً تابع الجثمان من المستشفى إلى المشرحة وكان بجانب أسرته التي أبلغت باقي العائلة لاحقًا. قريبي شقيق المتوفي عندما علم بأن المحامي الذي كان معه طوال الوقت زميلي، وأن أصدقاء لي تواجدوا كمتطوعين وحاولوا التوثيق والتصوير، كان مندهشًا أن يكون نفوذي وتحركي بهذه السرعة، هو لا يعلم أن العكس تمامًا هو الصحيح، أن المزاج الذي صنع الثورة هو أن هناك من كرس جهده وسرعة تحركه من أجل من لا يعرفونهم، الأغراب الأصدقاء الذين يهتمون بحياتهم وسلامتهم وحريتهم ويهرعون لنجدتهم والبحث عن حقهم. وتم اتهامهم من قبل «النظام» بالسعي للإثارة وتشويه سمعة البلاد لأغراض سياسية.
الأصدقاء المهتمون بذلك، من المهتمين أكثر بقضايا التعذيب، كانوا يتابعون القضية فور سماعهم للأنباء ويتواصلون مع محامي منظمتي «المبادرة» و«النديم»  الذين تواجدوا فورًا على الأرض هناك.  والأصدقاء من مجموعة «مصرّين» الذين حاولوا التصوير مع بعض أفراد أسرة الفقيد، ولكنهم رفضوا وقتها، قبل أن يعودوا للموافقة الآن.
الرفض ثم الموافقة كان مؤشرًا على جدل لا يزال يتفاعل. فالمتوفى وشقيقه هما من التيار السلفي، وشقيقه من قيادات الجمعية الشرعية ولم يكن لهما صلة بالنشاط السياسي. كانت تلك معرفتي بهم قبل انطلاق الثورة، الآن قريبي شقيق المتوفي من كوادر أحد الأحزاب السلفية، ولذلك كان كل هؤلاء من قيادات وكوادر الأحزاب الإسلامية من الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية في قاعة العزاء مجاملة له. وكانت رسالة معظمهم إلى قريبي هي: التهدئة.
كان ذلك جانبًا من جدل عائلي. بعض أفراد العائلة من المنتمين للتيارات الإسلامية أو القريبين منها حائرون بين تصعيد مثل هذه القضية، قانونيًا وإعلاميًا، في حالة وجود دليل على تعذيب، وبين التهدئة، لأن التصعيد – مرة أخرى - سيستخدم «كإثارة سياسية» وتشويه لسمعة النظام «الجديد» بقيادة التيار الإسلامي، كما أن الأجيال الأكبر رغم حزنها ومصابها تفكر في «الاستقرار» رغم كل شيء.
هناك سوء تفاهم لا يمكن التفاهم بشأنه غالبًا، وهناك تفاهم ما بين البشر والكراسي ومواقع السلطة لا يمكن تفهمه من خارجها. وهناك من يريدون أن يجيبوا عن السؤال الأول للثورة  بإجابات لا علاقة لها بالسؤال، أو يطلبون منا الصبر حتى يتمكنوا من استكمال الإجابة من نفس المقرر بعد إضافة ديباجات جديدة.
رموز الأحزاب الحاكمة، ونصف الحاكمة، الذين تواجدوا معنا في قاعة العزاء، أطلق بعضهم على الفقيد بكل أريحية لقب «شهيد» وحدثنا بعضهم عن فضل موت الفجأة بالنسبة للمؤمن، وشددوا على أن العدالة قادمة، ولكن التهدئة ضرورة. ولم تكن تلك مفاجأة، وتلك الأيام نداولها بين الناس. والبقية في حياتنا.
نُشر في المصري اليوم الالكتروني يوم 20 يناير 2013: http://www.almasryalyoum.com/print/1403191