متى يأتى دورى لتلقى اللقاح؟ عن التضامن العالمى فى زمن الوباء
ما زلنا فى معركة ضد كوفيدــ19، فيروس جديد، ويتحور، لا دواء مباشرا له يقضى عليه. عام كامل من الاجراءات الاحترازية والإغلاقات الجزئية أو الكاملة فى بلدان العالم المختلفة، الغنية والفقيرة، إجراءات طالت البشرية كلها، جائحة أصابت وأضرت بالتواصل الإنسانى، والتشارك، والتنفس. التنفس خصوصا عربون استمرار الحياة تقريبا، فبتوقف التنفس وجهازها الأساسى (الرئة) تتوقف حياة الإنسان.
أثناء الجائحة فقدنا أحباء وأقرباء، ونحن بلا حول ولا قوة إلا بعض أنابيب الأكسجين، وبعض المسكنات ومخفضات درجة الحرارة المرتفعة.
طوال العام الماضى، وحتى الآن، مازال كوفيدــ19 جائحة عالمية، وهناك حالة طوارئ صحية دولية، وآلاف الضحايا فقدت فى الوباء. ولم تنتظر البشرية طويلا، أجرت مراكز الأبحاث والعلم التجريبى تجارب بحثا عن حل فى محاولات مكثفة لإنتاج اللقاحات (التطعيم) لهذا الفيروس المراوغ فى جميع البلدان المتقدمة (مثل أمريكا والصين وروسيا وإنجلترا وألمانيا). فقد جرت عملية تسريع لإنتاج اللقاحات، وتم التسريع بإجراء التجارب فى مراحلها الثلاث السريرية على المتطوعين، واعتمدت بعض اللقاحات على التكنولوجيا القديمة فى إنتاج اللقاحات، وبعضها الآخر على تكنولوجيا حديثة تماما. وأصبح مصير البشرية الآن متعلقا بنجاح هذه اللقاحات فى توفير الحماية، ووقف انتشار الفيروس، وبذلك يتم الوصول للمناعة الجماعية، وأيضا منع الفيروس من التحور أو ظهور سلالات جديدة أكثر شراسة أو أسرع انتشارا.
وأصبح سؤال الجميع فى مختلف بلدان العالم متى يأتى دورها فى تلقى اللقاح، اللقاحات التى تتوفر فيها الحد المطلوب من الأمان والفاعلية، والتى حازت على ترخيص الطوارئ من الهيئات الدوائية، ورغم أنه ليس معروفا فترة الحماية التى ستوفرها هذه اللقاحات، وإن كانت ستكون دورية (مثلا سنوية أو كل عامين)، فهذا من الصعب تحديده ومعرفته حاليا، فإنها بالتأكيد ستوفر حماية قوية ومهمة من التعرض للمضاعفات الشديدة التى تستدعى اللجوء للمستشفيات.
العام الماضى لم يكن هناك لقاح أو علاج، وكانت جميع السيناريوهات مطروحة، وكانت التوقعات فى أول شهور الجائحة أن اللقاح سيتم التوصل إليه فى حدود 18 شهرا. ولكن، نتيجة التسريع فى تطوير اللقاحات، والمجهود العلمى الضخم، الآن المشهد تغير بشكل كبير، فالوضع مختلف عن العام الماضى، هناك لقاحات الآن. ورغم ذلك، من المحزن أن العالم مازال غير قادر، رغم توافر اللقاحات، على إحداث نقلة نوعية كاملة فى المواجهة ضد الكوفيدــ19.
المشكلة الرئيسية فى عدم عدالة التوزيع للقاحات، وعدم القدرة على إنتاج كميات كافية للطواقم الطبية وللمجموعات الأكثر عرضة لمضاعفات الفيروس (مثل كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة والأمراض المناعية) فى جميع بلدان العالم. والأزمة تظهر بوضوح أن بعض الدول الغنية توفر تطعيمات للمجموعات من غير الأولوية، فى حين أن بعض الدول المتوسطة والفقيرة لم تبدأ حتى بتطعيم الأطقم الطبية.
فاللاعبون المؤثرون فى ملف اللقاحات عالميا (من شركات الدواء العالمية والدول الكبرى) غير قادرين على إدراك وفهم ضرورة التضامن العالمى، بشكل عملى وتنفيذى وليس عن طريق الكلام، فى مواجهة الجائحة. هناك ضرورة للتكامل والعمل المشترك بعيدا عن النفعية الذاتية أو القومية ضيقة الأفق، التى تجعل بعض البلدان تستخدم وتوفر ما يكفيها ثلاث أو أربع مرات، فى حين لا تجد بلدان أخرى أضعف ما يكفى لتطعيم الأطقم الطبية أو الأكثر عرضة للخطر والمضاعفات.
ورغم المبادرات العالمية مثل كوفاكس التى يشرف عليها كل من الائتلاف المعنى بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة، والتحالف العالمى من أجل اللقاحات والتمنيع (GAVI)، ومنظمة الصحة العالمية. ويتمثل دور كوفاكس فى ضمان تطوير اللقاحات بأسرع ما يمكن، وتصنيعها بالكميات المناسبة، دون المساس بمأمونيتها، وتوزيعها على من هم فى أمس الحاجة إليها. وتهدف هذه الركيزة، بحلول عام 2021، إلى ضمان توفير مليارى جرعة من اللقاحات عن طريق الآلية التى توفرها كوفاكس، رغم هذه المبادرة، هناك تخوف حقيقى من عدم قدرتها على تحقيق أهدافها فى ظل النفعية وقومية اللقاحات.
ونحن نرى العديد من الدول المتوسطة ومنخفضة الدخل تعانى وتصارع للحصول على تعاقدات من ناحية، وتوفير تكاليفها المالية من ناحية أخرى. وحتى نشير لأزمة عدم عدالة التوزيع بشكل أوضح، نتخيل لو أنه فور الوصول للقاحات كان هناك حل عالمى حقيقى، ومنع للتعاقدات الثنائية بشكل حاسم، وأن يكون التعاقد فقط عبر آلية كوفاكس، بإشراف منظمة الصحة العالمية، وأن يتم التوزيع على جميع البلدان وفقا لاحتياجها (حسب الفئات ذات الأولوية). ولو كانت هناك مشاركة لتكنولوجيا التصنيع مبكرا (حال التوصل إليها مباشرة)، والسماح للقادر على التصنيع، بالتصنيع مباشرة دون عوائق الملكية الفكرية، لكان العالم الآن فى وضع أفضل، ولكانت هناك نقلة نوعية فى المواجهة ضد الفيروس. وهذا المنطق من دافع أخلاقى وإنسانى للتضامن فى مواجهة وباء أثر على العالم كله، وأيضا من دافع عملى وواقعى، فالتحورات الأخيرة تجبر صناع السياسات الصحية العالمية على إعادة النظر، فالمدخل العملى والواقعى، والتضامنى والإنسانى، يلزم بتطعيم أكبر قدر من سكان العالم، خصوصا العاملين الصحيين والمجموعات الأكثر عرضة للمضاعفات، فى أسرع وقت، وفى وقت متزامن، حتى نستطيع تجنب خطر التحورات الفيروسية.
وفى الخلاصة، إن وجود بؤر فى بلدان للفيروس، تجعل الفيروس قابلا للتحور، والانتشار مرة أخرى والعبور إلى البلدان التى قد تظن أنها تعافت، وقد تظهر تحورات نكون مجبرين على تطوير اللقاحات القائمة لتكون فعالة ضدها، وبالتالى تضييع المزيد من الوقت أمام عملية التطعيم. التاريخ الوبائى (تضامن البشرية من قبل فى العديد من الأمراض المعدية الوبائية كالجدرى والدرن وغيرها من الأمراض) يؤكد أن التضامن العالمى الحقيقى هو بداية القضاء على الفيروس، وأن الوباء كالنيران المشتعلة يجب أن تطفأ فى كل الأماكن فى ذات الوقت حتى لا تعاود الاشتعال مرة أخرى.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٢٧ فبراير ٢٠٢١