ليالى كوفيد الطويلة ومجانية اللقاح
شارفنا على العام الثانى فى مسار انتشار الوباء العالمى كوفيدــ19، حيث تم تشخيص الحالة الأولى المصابة بفيروس كورونا فى مصر فى 14 فبراير 2020، وقد تم إعلان حالة طوارئ صحية فى مارس 2020 بسبب الفيروس. عام طويل من المعاناة والليالى الطويلة، حيث مازلنا فى إطار الحياة تحت ضغط الجائحة، وتوصيات صحية بالتباعد الاجتماعى والعزلة، خاصة لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، بما يسمح بكثير من التأملات والقراءات لتمضية وقت العزلة المتتالية والطويلة.
مرت الموجة الأولى من الوباء بشكل متوازن (وإن كانت بطبيعة الحال حادة ومقلقة فى ذروة الموجة ولكن نسبيا مرت بسلام) وهدأت وتيرة الموجة الأولى تقريبا فى شهر أغسطس 2020، وهدوء ما بعد الموجة كان مدعاة للتراخى وترك الحذر سواء من الجانب المجتمعى، أو من الرسائل الإعلامية التى تصل من جانب الدولة للمواطنين.
وفى نفس سياق الوباء العالمى، صدر كتاب هام وممتاز للدكتور محمد أبوالغار فى عام 2020، عن تاريخ وباء الإنفلونزا الإسبانية الذى حدث عام 1918، والكتاب صادر عن دار الشروق. والكتاب يحمل إشارات واضحة تحذيرية أن الموجة الثانية من الإنفلونزا الإسبانية، كما أطلق عليها، ستكون أكثر عنفا وقسوة. حيث شهدت الموجة الثانية من الإنفلونزا الإسبانية نسبا أعلى فى الوفيات والإصابات. ورصد الكتاب تأثير الوباء على مصر، والكتاب يتضمن وثائق ومستندات ترصد وفاة قرابة 180 ألف مصرى (من العمال والعاملين المساعدين بجيش الاحتلال البريطانى أثناء الحرب العالمية الأولى وغيرهم من المصريين).
يرصد الدكتور محمد أبو الغار غياب المعلومات عن وباء 1918 فى كتب المؤرخين المصريين، ولكنه استعان بالوثائق التى ترصد الحالة الصحية فى ذلك الوقت، وثائق مصلحة الصحة العمومية، من قسم التاريخ بجامعة تكساس، فالجامعة لديها وثائق كاملة ومفصلة بدقة شديدة. والمصدر الثانى للكتاب هو ما رصدته الصحف (مثل جريدة الأهرام) التى غطت «بكثافة» موضوع الإنفلونزا الإسبانية وخطورتها.
***
كان من المفترض أن نستعد لهذه الموجة الثانية على محاور متعددة منذ شهر سبتمبر الماضى على الأقل، ولكن للأسف هذا لم يحدث بالشكل المحكم، وتعامل الجميع كأن الأمر قد انتهى، حتى جاءت الموجة الثانية، والتى تشابهت مع الأولى، وربما كانت أعنف وأكثر حدة من ناحية أعداد الوفيات، خاصة فى صفوف العاملين بالقطاع الصحى، وتضاعفت أعداد من يعزلون أنفسهم فى العزل المنزلى مقارنة بالموجة الأولى، بعد إجراء بعض التحاليل والأشعة، لندرة تحليل الـPCR فى الجهات الحكومية، وارتفاع سعره فى القطاع الخاص عن قدرة معظم المواطنين.
سواء انتهت الموجة الثانية فى فبراير أو مارس، أصبح من الضرورى الآن العمل على توفير وإتاحة اللقاحات بأسرع وقت ممكن، وخصوصا للعاملين بالقطاع الصحى، الذين دفعوا الثمن الأكبر فى هذا الوباء، فلقد شكلت نسبة الوفيات بين الأطباء خطرا حقيقيا ولم يتم التعامل مع نسب الوفاة العالية بينهم ولا دراسة هذا الملف والبحث عن حلول له بشكل علمى وجاد طوال فترة الوباء. والانتهاء من تطعيم العاملين بالقطاع الصحى فى أقرب وقت ممكن ضرورة لأن التوقعات تشير لاستمرار الجائحة على الأقل لمدة عام آخر، وبالتالى توفير اللقاح لهم ليس رفاهية لضمان الاستمرار فى مواجهة هذا الوباء.
***
فى سياق إجراءات وزارة الصحة لتوفير اللقاحات، يظهر سؤال لم نجد إجابة له، لماذا تأخرنا فى التعاقد الجدى للحصول على نصيب معقول من هذه اللقاحات. من المفهوم أن هناك أزمة عالمية فى إنتاج كميات كبيرة، وأزمة فى سلاسل الإمداد، ولكن المشكلة أنه كانت هناك فرصة جيدة منذ شهر سبتمبر، للوصول لتعاقدات تكفى الطواقم الطبية والمجموعات الأكثر عرضة لمضاعفات الفيروس، على الأقل من اللقاح الروسى واللقاح الصينى (ساينوفارم) الذى أجرت تجارب سريرية للقاحها على ثلاثة آلاف متطوع فى مصر فى الفترة من منتصف سبتمبر حتى نهاية نوفمبر 2020. ولكن ذلك لم يحدث أيضا، فأول بيان رسمى جدى خرج مؤخرا من هيئة الشراء الموحد يعلن التعاقد عن 20 مليون جرعة من لقاح استرازينكا. فليس مفهوما سر هذا التأخير، رغم أن بعض التصريحات كانت، ومازالت، تتحدث عن 100 مليون جرعة وأحيانا 50 مليون جرعة، ولكن حتى الآن البيان الرسمى الوحيد خرج من هيئة الشراء الموحد (وهى الهيئة المسئولة عن شراء احتياجات القطاع الصحى وبالمناسبة كان لها دور شديد الإيجابية والحيوية فى توفير الأدوية الأساسية طوال الجائحة) عن 20 مليون جرعة فقط.
التساؤل الثانى، لماذا لم يتم نشر خطة قومية معلنة للتطعيم ضد كوفيدــ19 فى وقت مبكر، والاكتفاء بالتصريحات التلفزيونية أو بمعلومات قليلة عن الخطة، ولماذا لم يتم الإفصاح عن تقديرات للمجموعات الأكثر عرضة لمضاعفات الفيروس إلا فى وقت متأخر، وعلى أى أساس علمى وإحصائى تم حساب هذه التقديرات، ولماذا لم يتم فتح نقاش عن كيفية الوصول لهذه المجموعات، وهل طريقة الموقع الإلكترونى ستكون ملائمة وفعالة لجميع المواطنين ولخطة التطعيم القومية بشكل عام، ولماذا سيتوجه غير القادر على التسجيل من خلال الموقع إلى أقرب مستشفى بدلا من التوجه مباشرة لمركز التطعيم، وما هو الإطار الزمنى الذى سيحكم خطة التطعيم القومية. قد تكون هناك خطة ولكنها ليست منشورة للمواطنين. ومن الخطأ لصناع القرار الصحى التعلل بأن هناك أزمة عالمية فى الإنتاج وسلاسل التوزيع ولهذا السبب لن يعلنوا عن إطار زمنى، فالأسلوب العلمى ومقارنة بالدول الأخرى (مثل الهند) تدفع فى اتجاه وضع خطة قومية محكومة بإطار زمنى على الأقل بشكل أولى ثم تعديلها حسب الظروف.
التساؤل الأخير مرتبط بمجانية اللقاحات، تم الإعلان أن اللقاح سيكون مجانيا فقط للأطقم الطبية ولغير القادرين المسجلين فى بيانات برنامجى «تكافل وكرامة». وردا على عدم مجانية اللقاح: أولا، من المتعارف عليه فى أدبيات الصحة العامة أن التطعيمات بشكل عام، وخصوصا فى أوقات الأوبئة والكوارث الصحية، يجب أن تكون مجانية بشكل كامل، ومصر لديها تاريخ طويل وناجح فى برامج التطعيمات المجانية الإجبارية. ثانيا: الدستور المصرى فى المادة 18 وضع إطارا عاما للصحة العامة وضمانة قوية للحق فى الصحة حيث نص الدستور أن «يجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة». بالإضافة إلى الحماية الدستورية القوية للحق فى الصحة فى أوقات الأوبئة، قانون التأمين الصحى الشامل الجديد ينص بوضوح على مجانية الخدمة فى الوباء فى المادة الثانية منه «فيما عدا خدمات الصحة العامة، والخدمات الوقائية، والخدمات الإسعافية، وخدمات تنظيم الأسرة، والخدمات الصحية الخاصة بتغطية الكوارث بجميع أنواعها، والأوبئة، وما يماثلها من خدمات تلتزم بتقديمها سائر أجهزة الدولة مجانا».
وفى الخلاصة، المحور الأهم الآن هو توفير اللقاحت بشكل كاف للأطقم الطبية وللمجموعات الأكثر عرضة لمضاعفات الفيروس، ومن منظور الحق فى الصحة، ومن منظور احترام الضمانات الدستورية التى تكفل الحق فى الصحة وقت الأوبئة والطوارئ الصحية، والنص القانونى الواضح على مجانية الخدمات الصحية وقت الأوبئة فى قانون التأمين الصحى الشامل، يجب أن يكون اللقاح مجانيا لجميع المواطنين (بل وأيضا للاجئين والمقيمين فى مصر كما فعلت الأردن)، وأن يتم التراجع من قبل وزارة الصحة عن جعل اللقاح بمقابل. ومن الجدير بالذكر أن منظمة الصحة العالمية، والبنك الدولى أيضا، يوصيان بعدم السماح بالدفع المباشر (الدفع من الجيب) لقاء الخدمات الصحية عند الحاجة إليها (الدفع عند نقطة تلقى الخدمة)؛ لأن ذلك يمنع الملايين من الناس من تلقى الرعاية الصحية عندما يحتاجونها. ويمكن أن يؤدى ذلك، بالنسبة لمن يلتمسون العلاج، إلى مواجهة صعوبات مالية وخيمة، أو الوقوع فى هاوية الفقر. وهذه التوصية بعدم الدفع من الجيب فى الظروف العادية، لذلك فى حالة الوباء ستكون عواقب السماح بالدفع من الجيب مباشرة أكثر قسوة على الطبقات الأكثر هشاشة فى المجتمع.
نشر هذا المقال هلي موقع الشروق بتاريخ ٤ فبراير ٢٠٢١