الرعاية الصحية الأولية وطبيب الأرياف
أثارت دوافعى للكتابة عن الرعاية الصحية الأولية وطبيب الأرياف رواية جديدة بديعة وممتازة للروائى المصرى المتميز (المنسى قدنيل) تحت عنوان «طبيب أرياف»، سارعت باقتنائها، ولما بدأت فى قراءتها أصبت بدهشة ممتعة ومباغتة، وقبل قراءتها كنت أظنها سوف تكون سيرة ذاتية أو محاولة توثيق روائى لحياة طبيب يعمل فى الأرياف من ناحية اجتماعية وصحية (حيث مرت بأغلب الأطباء الشبان فى مرحلة من بداية حياتهم العملية خلال فترة التكليف فى الوحدات الصحية الريفية).
والحقيقة، إن الرواية وبعد انتهائى منها، كانت أرحب وأوسع مجالا من ذلك بكثير، فلم تكن الوحدة الصحية فى قرية من قرى الصعيد الأكثر فقرا، سوى خلفية درامية لبناء روائى بديع، وبنية محكمة، وانتقالات سريعة عميقة، لا لحظة للملل أو أجزاء زائدة، شخصيات حية وكيانات مرئية، تراها وتحسها كأنك التقيتها فى زمن ما بعيد، وصف دقيق للزمن والمكان والأحداث والشخصيات، فلا ننسى أبدا شخصية «دسوقى» تمرجى الوحدة الصحية الذى يصاحبك طوال الرحلة، ولا شخصية «فرح»، الممرضة الشابة، الفرحة الوحيدة البازغة فى عتمة القرية البائسة، ولا «الجازية» ملكة الغجر، ولا شخصية عامل مكافحة البلهارسيا، الذى بنيت الوحدة بناء على طلب منه للرئيس جمال عبدالناصر، رفيقه السابق فى حرب فلسطين وحصار الفلوجة، ولن تنسى أبدا «عيسى» زوج فرح ومرضه بالبلهارسيا، وتعطله الدائم عن العمل، وموته فى قلب الصحراء البيضاء بين أنياب الذئاب. والعمدة بجلافته وعجرفته، والمأمور بصلافته وتعاليه السلطوى، وغيرها من الشخصيات والمواقف التى لا يمكن أن تنسى. سوف تشعر فيها بسوء حال أطفال مدرسة القرية وهو يصفهم بسوء التغذية، ويقشعر جسدك وأنت تراهم معه وهم يعانون من آثار البلهارسيا المتوطنة.
إنها رواية تفضح كل ما هو انتهاك لإنسانية الفلاح المصرى تاريخيا، انتهاك لروحه بالقهر ولجسده بالمرض، سوف تحزن كأنك فقدت عزيزا عندما تنتهى منها، وهى بالفعل تستحق قراءة ثانية، للكتابة عنها بالعمق الكافى من ناحية الشكل الروائى باستخدام ضمير الروائى المتكلم للطبيب، ومن ناحية تحليل المحتوى، وما بين السطور من إشارات تحمل رسائل مبطنة عمدا، والتخفى وراء الحدث المفاجئ لتعميق الفكرة أكثر، وهى لذلك مهمة جدا لإلقاء الضوء حول القرية المصرية، ومفهوم الرعاية الصحية الأولية.
وعلى الرغم من أنها عمل روائى خيالى فإنها أثارت كوامن الألم والشجن حول حال وواقع منظومة الرعاية الصحية الأولية فى الريف المصرى، منذ نشئته وحتى الآن، خاصة فى القرى الأكثر فقرا من صعيد مصر. فنحن نواجه العديد من التحديات والمشاكل الصحية لإعادة بناء هذه المنظومة الأساسية مرة أخرى، والتى تعد من أهم مفاتيح التحكم فى النظام ومدخله الحيوى، تحديات نقص العمالة المدربة الجيدة، حيث هناك نقص كبير من أطباء وتمريض ومن باقى أعضاء الفرق الصحية، اللازمة لتشغيل هذه الشبكة الواسعة من الوحدات الصحية المنوط بها مواجهة المرض فى أفقر الأماكن فى ظل أصعب الشروط الحياتية، ريف صعيد مصر، حيث يقل بشدة الإنصاف والإتاحة المتساوية للخدمة الصحية الجيدة للجميع، وحيث يتضح ذلك ويظهر جليا فى الأوبئة، وعبر مؤشرات التنمية البشرية عموما ومؤشرات الصحة على وجه الخصوص، فيما يتعلق بمعدلات وفيات المواليد والأطفال والنساء الحوامل، فهذه المؤشرات أهم مؤشرات للتنمية فى أى بلد من بلدان العالم، إضافة إلى مؤشرات سوء التغذية من الأنيميا والنحول والتقزم عند الأطفال، ومؤشرات الأمراض المتوطنة.
والسؤال هنا، ما هى المراحل التى مرت بها الرعاية الأولية منذ تأسيسها؟ وما هى نتائج تقييم محاولات إصلاحها إلى اليوم؟ فى رواية المنسى قنديل يصف وصوله للوحدة الصحية بدقة فيقول «ولكن ما إن أستدير بعيدا عن الزقاق الصغير المؤدى إلى القرية حتى أجد المبنى الأبيض، أتعرف عليه على الفور، لم يعد أبيض تماما، منحته الأتربة والأوحال الملتصقة بجدرانه لونا قاتما وأوشك اللون الأبيض على الزوال وبدا متسقا مع ما حوله، لم يكن متداعيا ولكنه مهجور وحزين».
تعبير حال صادق عن أغلب وحدات صحة القرية فى هذا الزمان (منتصف السبعينيات)، وربما لما بعده من عقود تالية، من إهمال للبشر والخدمات الأساسية فى الأماكن النائية من صعيد مصر. ولذلك، فالرعاية الأولية ما هى إلا صورة صادقة لقياس الإنصاف والعدالة فى الرعاية الصحية بين الريف والحضر والشمال والجنوب. وهى تعبير حقيقى عن قوة أو ضعف أى نظام صحى.
فى مصر، مرت هذه الرعاية بمراحل عديدة ربما ست أو سبع مراحل، بدأت بتأسيسها عام 1820، حيث كانت محط اهتمام محمد على الكبير لزيادة الإنتاجية من الفلاح وللتجنيد أيضا، فقبل ذلك كانت تعتمد على الطب الشعبى المتوارث. وكانت جهود الدولة فى ذلك الوقت مقتصرة على مكافحة الأوبئة المنتشرة اعتمادا على الداية أو حلاق الصحة فى القرية، حيث كان يتم التطعيم ضد الجدرى وتسجيل الوفيات والمواليد.
ومن أهم محاولات الإصلاح للرعاية الأولية فى القرن الماضى، حدثت فى الأربعينيات، تجربة الدكتور عبدالواحد الوكيل، ثم فى الستينيات خلال تجربة النبوى المهندس، ثم أهم مشاريع الإصلاح فى 2000 خلال وزارة الدكتور إسماعيل سلام والذى حاول إنشاء وتجديد نظام الرعاية الأولية عبر نموذج جديد قائم على طبيب الأسرة (نموذج طب الأسرة)، وجاء قانون التأمين الصحى الشامل وأعطى لطبيب الأسرة أهمية ومكانة كبيرة، كمدخل النظام الأول، والقانون من المفترض أن يقضى على التمييز فى الوصول للخدمة بين الريف والحضر (والشمال والجنوب).
وأيضا من المفترض أن يعمل القانون على إعادة تأهيل وبناء وحدات الرعاية الأولية فى الريف (والمدن) فى نفس الوقت وتوفير الموارد المالية والبشرية والفنية اللازمة لتيسيرها، حتى تعمل بشكل مستدام، وبناء نظام إحالة فعال وكفء للمستويات التالية.
وفى الخلاصة، فإن دراسة التجارب السابقة فى الإصلاح الصحى والتى لم تكتمل لأسباب عديدة متعلقة بطبيعة النظام، وأطر حوكمته، وآليات المساءلة والمحاسبة، وصنع السياسات التى تتغير دائما بتغيير القيادات. فهل سنتغلب هذه المرة على المعوقات التى عطلت الإصلاح والتى منها عدم رغبة الأطباء فى الاستمرار فى العمل فى الريف (وخصوصا فى الصعيد)، وظروف وبيئة العمل المادية الطاردة للأطباء. هذا قد يكون جوهر التحدى الكبير الذى سيواجهه النظام الجديد وهو أيضا ما تعرضت له رواية المنسى قنديل المتميزة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 25 اكتوبر 2020